“طار فوق عش المجانين” فيلم أراه غريبا في كل شيء، غريبا في موضوعه الذي يدور في مصحة نفسية، أو بمعني أصح مستشفي للأمراض العقلية لاتخرج منها الكاميرا إلا مرة واحدة في صحبة المجانين من نزلاء المستشفي إلي البحر الفسيح، في نزهة لا تطول…….غريبا في عدد جوائز الأوسكار التي توجته بها هوليوود ، فقد حصل منها علي الجوائز الخمس الأولي ، أي التي تمنح لأحسن فيلم و لأحسن تمثيل للرجال ( جاك نيكولسون ) و للنساء ( لويز فلتشر )علي حد سواء وللإخراج “ميلوش فورمان”، ولأحسن سيناريو مستوحي من عمل أدبي (لورانس هوبر وبو جولدمان) .
وأتذكر أن هذا الحدث ليس له مثيل في تاريخ السينما إلافي فيلم واحد “حدث ذات ليلة” الذي مثلته “كلوديت كولبيرت” مع “كلارك جيبل” وأخرجه “فرانك كابرا“ قبل نحو أربعين عاما، وبالتحديد سنة ١٩٣٤ .
ومن أوجه الغرابة في “طار فوق عش المجانين” أنه يبدأ بداية توحي بأننا سنلتقي بعمل ضاحك و لكنه عندما ينتهي إذا بِنَا نكتشف أن ما التقينا به إنما هو إلي المأساة أقرب.
ومما أثار دهشتي عند مشاهدة الفيلم للمرة الثانية، أن الجمهور كان يضحك مع المجانين ولا يضحك عليهم، وفرق كبير بين الأمرين …….فألا نضحك علي المجانين ونضحك معهم قد تحول ب “طار فوق عش المجانين” إلي عمل جاد بعيد عن الإسفاف والإبتذال……..وهذا دون شك يرجع إلي مهارة المخرج “ميلوش فورمان” وإنسانيته……… وهي إنسانية حمته من السقوط في هاوية سوقية الإتجار بآلام المعذبين بالجنون والإضحاك عليها.
ينتهي “طار فوق عش المجانين” بالفجر……… وهندي يجري بخطوات كالفراسخ نحو جبل شاهق ….. هذا الجبل الذي سبق وأن رأيناه في أول لقطة بدأ بها الفيلم….. إنه يجري منطلقا نحو الحرية من جهنم يتركها وراءه إلي الأبد….. وجهنم هذه التي يفر منها الهندي من النوع العصري…… جهنم مكيفة ألهواء، كل من فيها في خدمة النزلاء….. ينجز ما تشتهي أنفسهم وما تتمني….موسيقي حالمة، أصوات رقيقة تجري كالهمسات، كلمات حلوة تنساب في عذوبة الأنغام….. وحبوب من كل الألوان تنزل عليهم بردا و سلاما.
وداخل هذا الفردوس الأرضي تدور أحداث الفيلم المستوحي من قصة “طار فوق عش الوقواق” للكاتب الأمريكي “كن كيزي” وهو أديب موهوب، تعرضت حياته خلال الستينات لضروب من المحن والخطوب، فاتهم بتعاطي المخدرات، وامتحن في رزقه وحريته، فلم تنشر له أية قصة بعد “أحيانا فكرة عظيمة” سنة ١٩٦٤ لزمن امتد إلي أكثر من عشر سنوات، وطاردته المباحث الإتحادية الأمريكية لتجعل منه إنسانا مشردا مكرها علي الفرار عبر نهر “الريو جراند” إلي المكسيك وقلبه في حلقه جزعا.
وقصة “كن كيزي” تتسم بالقسوة والعنف وبقدر من الراديكالية، بالمفهوم الحرفي لهذه الكلمة.
والفيلم يرتفع إلي مستوي القصة ملتزما بسياق الأحداث فيها… يعيد خلق جوها الخانق، محتفظا بالمغزي الرمزي الذي تتميز به.
والوقواق في اللغة الدارجة الأمريكية معناها “المجذوب” وهو في الفيلم رجل اسمه “راندي ماكميرفي (جاك نيكولسون). رافض….متمرد، خاسر عن طيب خاطر …. إنه من نوع أبطال السينما الأمريكية الذين شاهدناهم في بعض الأفلام ل “بول موني” و “كيرك دوجلاس” و “بول نيومان”؛ هذا النوع المنفلت، الغاضب في غير فهم، الذي يسير نحو قدره النهائي وكأنه قد اختار الإنتحار.
و”ماكميرفي” يبدأ به الفيلم قادما من السجن، حيث ادعي الجنون ليلتحق بمصحة نفسية نموذجية، يعمل فيها علي نشر الفوضي إلي أن ينتهي به أصحاب السلطان إلي الجنون الحقيقي، ثم الراحة الأبدية بالموت قتلا….
ويرمز صاحبا القصة والفيلم ب “عش المجانين” إلي العالم الذي نعيش فيه بكل آلامه وعذاباته ومفارقاته ….
في هذا العالم ينقسم الناس إلي محكومين وحكام. أما المحكومون فلهم الحبس الإنفرادي والعلاج بالصدمات الكهربائية وما إلي ذلك من وسائل التعليم والتهذيب بالقهر والتعذيب.
أما الحكام، أو السلطة في الفيلم، فتمثلها الآنسة ريتشد (لويز فلتشر) وهي تستمد سلطانها من المدير في القمة…. ومن الأطباء….. ومن لجنة خاصة تجتمع دوريا لفحص الحالات المستعصية علي العلاج أي الحالات المتمردة علي النظام…
والآنسة ريتشد تُمارس عملها من خلال ممرضين من السود… وهي تكن لهم الإحتقار… وهم لا يحملون لها سوي الكراهية والمقت.
ولكل مناسبة ترتدي الآنسة ريتشد قناعا… وهي أكثر العاملين بالمصحة يقظة واتصالا بالنزلاء، توزع عليهم الحلوي والعقاب!
ولو حاول أحد المساس بسلطانها تشقي وتعتريها التعاسة وينتابها الهم والغم وكأنه بمحاولته قد اعتدي علي أغلي ما يعتز به الإنسان.. حريته.
ومنذ لقائها الأول مع “ماكميرفي”، رأت فيه رجلا خطرا فاضحا، فهو مشاغب وهو جديد…. وهي تخاف الجديد لأن معه يصعب التنبؤ ويتهدد الهدوء المستقر القائم علي الضبط والربط، أخطار لا تبقي من حسن الآداب والنظام شيئا.
وحقا كان ماكميرفي عند سوء ظنها فقد أفسد العش الهاديء وأفشي الفوضي محل النظام.
فمن أول دخوله مرتدياالبنطلون “البِلوّر جينز” وهو يحمل معه جراثيم الفوضي والإستهتار…. يحتفظ بالحبة المهدئة تحت لسانه ليلفظها في غفلة من الريسة ريتشد.
يعلم النزلاء كيف يلعبون كرة السلة فيكشف لهم حظهم من الفهم والذكاء… وهو حظ كبير.
(هذا المشهد الرئع في الفيلم ليس له وجود في القصة فهو من إبداع ميلوش فورمان).
يفسد عملية العلاج الجماعي بلعبة كوتشينة أوراقها عليها تصاوير جنسية جريئة.
ينطلق سرا بالنزلاء الزملاء إلي العالم الكبير خارج سجن المصحة في رحلة صيد ومغامرات.. الخ.. الخ..
وكان لا بد من الإصطدام بين الإرادتين، إرادة التغيير متمثلة في ماكميرفي، وارادة المحافظة علي القديم متمثلة في الآنسة ريتشد.
و “ماكميرفي” هو البطل الفرد في السينما الأمريكية…. يكفي أن تراه لتعجب بانطلاقه وجرأته في مقاومة القديم ومنازلته، ونحن نعرف مقدما أن معركته خاسرة…… نعرف أن ثمة حكما عليه بالموت….. وأن هذا الحكم موقوف التنفيذ لأنه بطل فوضوي لا يعرف ما استطاع أن يعرفه الهندي الأحمر”برومدن” الذي يعثر علي طريقه إلي الحرية في نهاية الفيلم لأنه تسلح بالمكر والدهاء، بادعاء أنه لا يسمع و لا يتكلم، بعد أن عرف أن ألعدو هو النظام الذي يمتد بطول البلاد وعرضها وليس الآنسة ريتشد التي لا تعدو أن تكون أداة عمياء في خدمته، وأن التخلص منها لن يؤدي إلي استئصال الشرمن جذوره بأي حال من الأحوال فهذا الإستئصال معركته تطول.
ولكن البطل الفوضوي يخلط بين الأمور غير صبور… ومن هنا مأساته ومأساة بطل “طار فوق عش المجانين”