كيف تحول النجاح الي فشل

بلغة الاقتصاد.. المخرج السينمائي الموهوب عملة نادرة.. بل لعله أكثر العملات النادرة ندرة.

وإلى الباحثين عن خلاص للسينما المصرية.. إلى أعضاء اللجان حكومية كانت أم أهلية.. أسوق وقائع حدوتة أراها غريبة كل الغرابة.. حدوتة حدثت لمخرج أراه موهوباً أي عملة نادرة..
وأنا لا استرجع وقائعها بدفعة انفعالية.. وأنما أسترجعها وأسوقها لكثرة ما رددت عبارة الأديب “بدر الديب” في “أوراق زمردة أيوب”.. (لا لن يستطيع أحد أن يجعلني أصمت بعد الآن، لم يعد هناك وقت للصمت، لقد آن لنا أن نتكلم جميعاً)!!

لم يكن للسينما المصرية سابق صنع بتاريخنا الحضاري بطوابقه الثلاثة (الفرعوني والقبطي والإسلامي) حتى أمسية من يوم ثلاثاء قريب من نهاية عام 1969 وبالتحديد 16 من ديسمبر، حين مر أمام العيون على شاشة نادي السينما بالقاهرة مقتطف من كتاب الموتى الفرعوني يقدم لفيلم “ليلة حساب السنين” بكلمات تقول: “يا من تمضي ستعود.. يا من تنام ستصحو يا من تموت ستبعث.. فالمجد لك.. للسماء وشموخها.. للأرض وعرضها.. وللبحار وعمقها”.

منذ تلك الأمسية بدأت الصلة حميمة بفضل المخرج شادي عبد السلام ورائعته الأولى. ولم يكن غريباً أن يكون صاحب “ليلة حساب السنين” أو “المومياء” الرائد في هذا المجال الخصيب، فشغله الشاغل كان، ومايزال، مصر البعث تصون أمجادها الحضارية، وبخاصة ما كان منها فرعونياً.

نهب مصر!

ونظرة طائرة على درته تكفي لبيان كيف أن مصر بماضيها، بواقعها.. مصر التي تحلم وتتحرك، إنما تسكن في أنحاء قلبه الذي يخفق بعشقها.

محور الفيلم حادثة وقعت فعلاً.
الكشف خلال عام 1882 عن مخبأ يضم موميات ملكية في الدير البحري، بقايا أربعين فرعون من مختلف الأسر أُعيد دفنهم في عجلة منذ ثلاثة آلاف عام أو يزيد حماية لهم من لصوص القبور..

قبيل هذا الكشف كان علماء الآثار في القاهرة في حيرة من أمر ظهور أجزاء متفرقة من كنز قديم بين الحين والحين في السوق السوداء.. كانوا على جهل بأن قبيلة جبل الحوربات تتعيش من التجارة في موميات ملكية مكانها الخبيء سر مكتوم لا يباح به إلا للورثة ساعة وفاة رئيس القبيلة.

وقصة الفيلم تبدأ بين أطلال وادي الملوك بطيبة، يوم أن مات “سليم” كبير القبيلة. وهي تحكي من خلال صور تجمع بين الجمال والجلال المأساة التي دفعت “وانيس” إلى أحضان “أفندية القاهرة” القادمين من بعيد، من المجهول، على مركب مُضيء يحمي الماضي المنهوب، يحمل إلى الوادي المقدس نور المستقبل!

أهل الكهف

وحسب فهم الناقد الفرنسي “جي هينيبيل” لرائعة “شادي” فهي إنما ترمز إلى “حتمية مجيء يوم الحساب، هذا اليوم الذي انقض على مصر كالصاعقة، فأيقظ مثقفيها من نومة كهف طالت”.

ولعل خير وصف لكيف فاجأ “شادي” النقد السينمائي العالمي بفيلمه، مقال “ديليز باول” ناقدة “السانداي تايمز” تحت عنوان “وعد من تاريخ مصر”، فقد بدأته بكلمات ساحرة: “منذ زمن بعيد، وأثناء حضوري مهرجان كورك، اسأت إلى سمعتي عندما قهقهت ضاحكة في تعال من فيلم مصري أريد له أن يكون جاداً، ولم يردني إلى صوابي إلا تذكرة من جار صدمه سوء سلوكي بأن مخرج الفيلم جالس معنا في قاعة العرض، وعلى كُلٍ فقد كنت أظن أنه ليس هناك ما يدفعني إلى الاهتمام بما تعرضه الشاشة المصرية، غير أني اكتشفت أنه لزاماً علي أن اهتم بعد أن شاهدت “ليلة حساب السنين”..
ثم تطرقت فور الانتهاء من هذا الاستهلال الساخر إلى الكلام عن فيلم “شادي” باعتباره الفيلم الذي غيّر من نظرتها إلى السينما المصرية، وحدا بها إلى أن توليها ما تستحق من اهتمام. وهي من فرط حماسها له تختاره ضمن قائمة الأفلام الإثنى عشر التي اعتبرتها أحسن أفلام عام 1972.

وبذلك استطاع مخرج من الوطن العربي- ولأول مرة- أن يقف شامخاً بما أبدع جنباً إلى جنب مع مشاهير الفن السابع في العالم ومما يميز فيلم “ليلة حساب السنين” على غيره من أفلام كثيرة مصرية أو أجنبية على حدٍ سواء أنه- وعلى مر السنين- لم يفتر الحماس له أو ينحسر.

فبعد فوات أربع سنوات على تتويجه بجائزة “جورج سادول” (1970) يجيء “جان ليسكور” رئيس الاتحاد الفرنسي لدور سينما الفن والتجربة إلى مصر لاختيار بعض الأفلام للعرض بتلك الدور.

وأثناء لحظة تأمل- ودون مجاملة لأحد- يقول الرجل متشائماً أثر رحلة عذاب مع بعض الأفلام “أن السينما المصرية بدأت عندنا بفيلم “المومياء” وإذا ما استمر الحال على هذا المنوال، فقد يذهب المؤرخون إلى أنها انتهت به”.

ثم يقع اختياره عليه ليكون فيلم الافتتاح لدار عرض جديدة في “كان”.
ورغم انقضاء ثلاث عشرة سنة على انتاجه إذا به يعرض في مهرجان “بادوا” بإيطاليا (موطن أقدم جامعة أوروبية) أثناء شهر نوفمبر سنة 1982 مع أفلام كثيرة من إبداع مخرجي قارتنا الأفريقية، ويخرج متوجاً بالجائزة الأولى.

الأصالة والمعاصرة

وأعود إلى حماس النقد العالمي لفيلم “شادي” “فدافيه وينسون” ناقد “الفاينانشيال تايمز” يقف أمامه مسحوراً مأخوذاً قائلاً إن التوقعات الكبيرة المأمولة من فيلمه القادم “أخناتون” حمو “توت عنخ آمون” ليس إلى مقاومتها سبيل.
و”جي هينيبيل” ناقد “الآداب الفرنسية” يُشَّبه “شادي” بستياجيت راي (أكثر مخرجي الهند أصالة)، ويفضله على غيره من مخرجي مصر لأنه عاد إلى التراث الوطني فتمثله، وزاوج بينه وبين متطلبات التقدم، وهو أمر مبتكر جرئ مثير للدهشة!! ويتمنى له الاستمرار في محاولته تلك بإخراج فيلمه عن “أخناتون”.

الانتظار الطويل

وبمناسبة الكلام عن فيلم “شادي” حول هذا الملك، يحكي أنه لما سمع العالم الإنجليزي “سيريل الدرد” المتخصص في دراسة الحضارة المصرية القديمة بمشروع “إخناتون” صاح مُتعجباً: “فيلم عن مصر القديمة لمخرج مصري.. يا للغرابة”!

وللأسف كانت صيحة التعجب هذه في محلها..

فقد أعَدَّ “شادي” لمشروع “أخناتون” ما استطاع، فكان أن كتب السيناريو وهيأ الديكور واختار الممثلين للأدوار.. ولم يبق سوى أن ينتظر موافقة هيئة السينما على تمويل ميزانية الفيلم التي قدرت بمبلغ لا يزيد على مائة ألف جنية مصري!

وانتظر طويلاً هذا الدعم الهزيل لفيلم تدور أحداثه في عهد أول فرعون يؤمن بالتوحيد، فيثور على ما كان يعتبر من الدين في أيامه، ويقيم ديناً جديداً..

وسيناريو المشروع الذي لم ير النور يعرض للصراع بين “أخناتون” باعتباره أول فرد في التاريخ، وباعتباره متمرداً على الاهتمامات لدين أصبح لا شاغل له سوى الموت، وما بعد الحياة، وإقامة الصروح الجنائزية.

وبين قوى الجمود الباغية، متمثلة في الكهنة ورجال الجيش، وهي تنتظر فرصة نهاية فرعون ابتغاء الإسراع بإعادة الاستقرار الديني والسياسي لأرجاء البلاد.

ولسوء الحظ انتهى الانتظار إلى لا شيء.

وفي الحق فليس هناك شيء يستطيع أن يجسد أوهام النجاح في عالم السينما المصرية بل قل العربية أكثر من حالة صاحب “ليلة حساب السنين”، هذا المخرج الذي حيَّته الأقلام.. كل الأقلام ورأت فيه أملاً للسينما العربية من المحيط إلى الخليج، نراه يُترك وحيداً مشتبكاً في معركة طويلة مريرة من أجل حفنة من الجنيهات تدعم مشروع فيلمه الروائي الطويل الثاني، إلى أن أنهكت قواه وانتهى الأمر بما يشبه التحقيق لنبوءة الفرنسي المتشائم.

الرصيد الضائع

كل ذلك مر في شريط ذهني سريع، وأنا أشاهد فيلمه التعليمي “كرسي توت عنخ آمون الذهبي” (1983). وتساءلت بعد انتهاء عرض هذا الفيلم الذي لم يكلف الخزانة سوى ثلاثين ألف جنية مصري.. تساءلت والقلب مُفعم بالأسى والحسرة: أهكذا يُعامل رصيدنا الحضاري الذي يُعّد أغنى أرصدة العالم.. ومع ذلك فدائماً نفشل في السحب منه؟!

ماذا لو كانت قد اتيحت الفرصة لصانع فيلم أثبتت الأيام أنه على مستوى عال وعالمي من الحس الفني، وصاحب موهبة ابتكار فذة وقدرة على التحكم المذهل في الصورة تكويناً وإيقاعاً؟

إن فكرة إخراج أفلام تعليمية عن حضارة مصر القديمة جاءت إلى “شادي” وقد يئس تماماً من إخراج “أخناتون” رغم ما في موضوعه من إمكانيات درامية ومقابلات عصرية كامنة.
ومع جنوح الهيئة المصرية للآثار إلى الاقتناع بفضل رئيسها الجديد الدكتور أحمد قدري بأنه في الإمكان الإفادة مادياً وأدبياً فيما لو أسند إخراج فصول من تاريخ مصر القديم إلى بعض صانعي الأفلام.. ما توفرت تلك الفرصة.

وشاءت المصادفة البصيرة أن يقع أول اختيار على “شادي” الذي كان قد سمع بأن كرسي الملك الطفل مفكوك ويجري ترميمه في متحف مصر الذي كان يجري طلاؤه.

وفي البدء جرى اتفاق مع الهيئة على أن يخرج فيلماً قصيراً عن الكرسي الذهبي لا تزيد مدته عن ثماني دقائق!!

الحيرة.. والوحي..

واحتار “شادي” كيف يخرج فيلماً في هذه الدقائق القليلة عن كرسي له من العمر خمسة وثلاثون قرناً.. ماذا يقول؟

وخلا لنفسه وأخذ يجوب ردهات المتحف وحيداً كالسحابة يُفكر، يُلقي على نفسه السؤال تلو السؤال.. ويحاول الجواب دون جدوى.

ودارت في رأسه الخواطر السوداء تزيده يأساً على يأس من صنع فيلم يرقى إلى مستوى الكرسي الجليل، إلى أن التقت عيناه بوجه الطفل الأسمر “هيثم عبد الحميد” ابن مدير الانتاج.

وبلمسة عبقري أبصر فيما أبصر.. الماضي في حاضر، أبصر الملك في الطفل.

وفي لمح البصر جاءته فكرة أن يكون للفيلم قصة تسند بطولتها إلى الطفل الشبيه بالملك!!

وبسحر ساحر تحول الفيلم القصير إلى أربعين دقيقة من المتعة للعقول والقلوب.. متعة الغوص في التاريخ بحثاً عن الحقيقة.

فالطفل يجوب أرجاء المتحف مع عمه المصور (قام بأداء هذا الدور “محمود مبروك” وهو معيد في كلية التربية الفنية وصاحب رسالة في “أخناتون”)، إنه دائم السؤال عما حوله من عجائب الخلق والإبداع.. يحمل في صدره طموحاً لمعرفة ماضي الأجداد، وهو في رحلته داخل تيه المتحف يظل مشتاقاً إلى المعرفة، يطلب منها المزيد حتى يري الكرسي وقد سرت فيه الحياة من جديد محمولاً في موكب مهيب يذكرنا بمشهد التوابيت على أكتاف أبناء مصر محمولة في فيلم “ليلة حساب السنين”.. هنا تحقق له ما يريد، لقد أمسك بالخيط الذي يصل بين الأجزاء المبعثرة برباط، فالبعث للكرسي قد بث في قلبه الطمأنينة، وها هو في اللقطة الأخيرة من الفيلم وقد امتلأت الشاشة بوجهه فرحاً متهللاً، وفي الخلفية من ورائه يستوي كرسي العرش النفيس.

حقاً… لقد نفخ “شادي” من روحه في الكرسي، فإذا هو خلق جديد.

وكم كان صادقاً معنا ومع نفسه حين قال في تواضع يليق بالمبدعين: “في وقت ما لابد أن يعود الشيء إلى من يستطيع صيانته.. وهذا هو البعث”.

والسؤال الآن: كيف أصبح “شادي” جزءاً من أحزان السينما في بلادنا، بدلاً من أن يكون جزءاً من أفراحها، ومن ضربات قلبها.

راسبوتين والقيصرة

الأيام التي لها تاريخ قليلة.. بل قليلة جداً.. ويوم 8 من شهر مارس سنة 1917 واحد من هذه الأيام.. بدأ فيه الشعب الروسي ثورة كُبرى ضد الحكم المطلق ازاحت نيقولا الثاني عن عرش القياصرة وانهت حكم آل رومانوف لروسيا الذي استمر ثلاثة قرون.. انهته إلى غير رجعة.
وحول هذه النهاية وكيف جاءت يدور فيلم “نيقولا والكسندرا” (1971) المستوحى عن قصة بنفس الاسم “لروبرت ماسي” اشترى حق انتاجها سينمائياً “سام سبيجل” صاحب “لورنس العرب” و”جسر على نهر كواي” ثم كَلَّف “فرانكلين شافنر” الحاصل على الأوسكار عن فيلمه “باتون” بإخراجها و”فريدي يونج” مبدع “دكتور جيفاجو” و”ابنة رايان” تصويرها. ولأمر ما شاءت الصدف “لنيقولا والكسندرا” أن يكون عرضه في القاهرة قريباً من ذكرى انقضاء ستين سنة على الثورة التي سُميت بثورة فبراير لطبيعة في التقويم الروسي القديم جعلته متأخراً عن التقويم الميلادي السائد أياماً قليلة.

نهاية قيصر آخر

وأن يبوء هذا العرض بالفشل فلا يمكث الفيلم في السينما إلا أسبوعاً واحداً، ويجيء من بعده- ودون حدٍ فاصل- فيلم آخر عن نهاية قيصر آخر “كل رجال الرئيس” للمخرج “آلن باكيولا” وهو نقلٌ أمين إلى لغة السينما لكتاب بنفس الاسم ألفه الصحفيان “بوب وودوارد” و”كارل برنشتين” (أدى دوريهما الممثلان روبرت ردفورد وداستن هوفمان) عن فضيحة ووترجيت ما هي؟ كيف ارتُكِبَت الجريمة.. وكيف أدى هذا الكشف بالرئيس السابع والثلاثين لأغنى دولة في العالم “ريتشارد ميلهاوس نيكسون” أن يخرج من البيت الأبيض مرتعش الصوت من فرط التأثر وهو يقول أن المرء لا يُدرك روعة القمة إلا عندما يذوق مرارة الحضيض.

إرادة الله
ولنيقولا والكسندرا (أدى دوريهما مايكل جايستون وجانيت سوزان الممثلان في فرقة شيكسبير الملكية) نهاية غير نهاية نيكسون.
والفيلم يكتفي بعرض سيرة القيصر والقيصرة من منتصفها لا من أولها، وهو يبدأ بداية سعيدة.. بلحظة من سنة 1904 يزف فيها الأطباء إلى القيصر بُشرى أن القيصرة قد أنجبت له أخيراً- وبعد أربع بنات- ولي عهد وزنه ثمانية أرطال يرث أرض روسيا المقدسة ومن عليها. ولكن السعادة لحظاتها لا تدوم.. فروسيا في حرب مع بلاد الشمس المشرقة تنتهي بالأسطول الروسي في قاع المحيط الهادي.
وولي العهد مريض بالهيموفيليا (نزف دم وراثي جاءه من أمه حفيدة الملكة فيكتوريا) لا يُرجى له شفاء.. يظل مُعلقاً بين اليأس والأمل حتى يُدركه الموت في سن الشباب.. والعمال في مظاهرتهم السلمية بقيادة الأب جابون يُطلق عليهم الرصاص فتصطبغ الثلوج بدماء ألف قتيل في ساحة قصر الشتاء حيث يُقيم القيصر ويحكم بإرادة الله (22 يناير 1905).
ولم يعرض الفيلم شيئاً من تفصيل حياة القيصر والقيصرة خلال هذه الحقبة السابقة على ثورة 1905، وإنما عرض خلاصتها في كثير جداً من الإيجاز. ولو عرض شيئاً من تفصيلها لظهر أمامنا القيصر رجلاً ضعيف الشخصية يؤمن أن الله وضعه على عرش روسيا.. وأن من حقه أن يحكم دون قيود من دستور ودون رقابة من مجلس نيابي منتخب انتخاباً حراً.. يظن أن شعب روسيا متعلق به وبعائلته حباً، إنهم يمارسون كل حقوقهم باسم الله.
ولظهرت القيصرة امرأة متعجرفة ألمانية الأصل.. الأسباب بينها وبين الشعب الروسي مُنقطعة. رسالتها في الحياة أن تساعد زوجها “نيقولا” في مقاومة ضغط هذا الشعب الذي هي عنه غريبة، والحفاظ على سلطاته القيصرية كاملة غير منقوصة له ولابنها ولي العهد من بعده.. تعتقد في الخزعبلات.. إذا ما اصطدمت مصالحها بالعلم وقوانينه لجأت إلى الروحانيات “ابني ليس مريضاً” وتطرد الأطباء لتبحث عن خلاص لها ولوحيدها العليل عند دجال من الذين يتاجرون بالدين اسمه “جريجوري افيموفيتش راسبوتين” (أدى دوره في الفيلم توم بيكر الممثل بالمسرح القومي الإنجليزي) تلتقي به هي والقيصر في إحدى الحفلات في نوفمبر سنة 1905.
ومع هذا اللقاء تتشابك خيوط المأساة وتتلاحم لتتصاعد بأحداثها إلى أن نرى القيصر وأفراد عائلته الستة قريباً من النهاية وقد ساقتهم العاصفة المميتة سجناء في مدينة ياكاترينبورج (سفردلفوف) على مشارف سايبريا (يولية سنة 1918).

الوعد الحق
وهذه النهاية التي هي تمهيد لنهاية أبشع سبقتها أحداث جسام في الحقبة ما بين ثورة 1905 وثورة أكتوبر 1917 (7 نوفمبر 1917) أعرضها كما جاءت في “نيقولا والكسندرا”- وهو فيلم طوله يكاد يقترب من ثلاث ساعات مشوقة تمر في غير إملال- أي من خلال رؤية المخرج التي تجعل من حياة القيصر والقيصرة عماد تاريخ روسيا في الربع الأول من القرن العشرين!!
اضطرت ثورة 1905 القيصر أن يتراجع فيخرج على الشعب ببيان صاغه “ويت” (لورنس أوليفر) يعد فيه بإقامه مجلس تشريعي منتخب (دوما) وبمنح حريات سياسية ومدنية وبالحكم من خلال مجلس وزراء يخضع لرقابة المجلس النيابي المنتخب.
غير أنه- مع عودة الهدوء إلى البلاد- إذا به يتراجع عما التزم به في بيانه فيحل المجلس النيابي ويقيد الحريات ويعزل مجلس الوزراء برئاسة “ويت” ذي الميول الليبرالية.. ويستمر في رجعته فحل كل مجلس لا يجيء على هواه ويعين “ستولبين” رئيساً للوزراء (1907) ليتحول مرة أخرى بروسيا سجناً للشعوب وليظل يحكمها بالحديد والنار إلى أن يغتاله يهودي بينما هو جالس مطمئن داخل مسرح بمدينة كييف، وفي حضور القيصر وأفراد عائلته (14 سبتمبر 1911) ورغم رجعية “ستولبين” فالقيصرة لم تكن تطمئن إليه.. شخص واحد كانت ترتاح إليه.. تثق فيه بل تبجله لأنها ترى فيه قديساً يقرأ قلوب الناس.. أرسله الله الرحيم الكريم لينقذ العرش وروسيا المقدسة، وليكون صوت الشعب الذي كانت تعتقد أنه لا يزال يدين بالولاء للقيصر حاكماً مُطلقاً وذلك على عكس مجتمع المتعلمين الذي كانت تخافه ولا تحمل له سوى الإزدراء.. هذا الشخص هو راسبوتين!!
وعند اندلاع نيران الحرب العالمية الأولى التف أعضاء المجلس التشريعي حول القيصر مؤيدين سياسة الاتجار بالشعب الروسي وقوداً للمدافع في اجماع لم يَشُذّ عنه سوى نفرٌ قليلٌ جداً من البلاشفة ذهب بهم السلطان إلى سيبريا.
فإذا ما تلاحقت الكوارث والفواجع على روسيا بسبب هذه الحرب وانكشف فساد النظام وعجزه عن إدارة الأمور.. اتسعت الهوة بين الشعب الذي ضاق بالحرب وأهوالها وبين النظام المندفع إلى الهاوية. ومما ساعد على اتساع الهوة اعتقاد القيصرة الراسخ في ضرورة الحكم المطلق ونجاحها في اقناع القيصر بمغادرة العاصمة إلى الجبهة ليتولى بنفسه قيادة المعارك، وبالتالي انفرادها بحكم البلاد بأسلوب غَلُب عليه التعسف والهوى.

لعنة راسبوتين
ولارتيابها في المجلس التشريعي.. وفي الوزارة المُنبثقة عنه برغم أنها محافظة فقد دأبت على الاستغناء عن الوزراء الأكفاء.. وعلى الاستعانة برجال نكرات أو إمعات ممن يسعون إلى الوصول بالفساد، وليس لهم من مؤهل أو سند سوى رضاء راسبوتين.
وبدلاً من أن تثوب إلى شيء من الرشد فتتخفف من ثقل مسئوليات الإنفراد بالحكم، وتسمع صوت النذير لاسيما بعد مصرع راسبوتين بتدبير من أمراء العائلة المالكة مساء ليلتي 30 و31 ديسمبر 1916 استمرت في عنادها لا تتعظ.. تحطم في طريقها كل من تحميه وتريد له الخلاص.. وكأن قوة غامضة تسعى بها إلى حتفها وحتف كل من تحب.
ولهذا كله فقد كان لا مناص من ثورة 8 مارس تُجبر القيصر- بعد ثمانية أيام من بدئها- على التنازل عن العرش لشقيقه الارشيدوق ميخائيل الذي اعتذر عن قبوله.. تحددت اقامته هو وأفراد عائلته الستة “بتزاركويي زيلو” إلى أن يؤمروا بالرحيل إلى غربي سيبريا في 14 أغسطس 1917.

عودة ثائر

قبل ذلك وبالتحديد في 16 إبريل 1917 عاد لينين من منفاه في سويسرا إلى روسيا عبر أرض الأعداء- ألمانيا.. وبعد شهر من ذهاب القيصر وعائلته إلى توبولسك غربي سيبريا أُعلنت الجمهورية واختفت القيصرية إلى الأبد.. فإذا ما جاء نوفمبر اهتزت الإنسانية لخبر انتصار أول ثورة اشتراكية في العالم.

وتمر أيام هي في حساب التاريخ أقرب في قيمتها إلى الأعوام ويُعقد صلح برست ليتوفسك الذي به تنتهي الحرب بين روسيا وألمانيا.
ولسوء الحظ فما أن توقفت هذه الحرب ومذبحتها التي استمرت أربع سنوات وذهب ضحيتها من الجيش الروسي سبعة ملايين من أبناء العمال والفلاحين، إلا وبدأت مذبحة ثانية بتحريض وتأييد من انجلترا وفرنسا والولايات المتحدة واليابان.. وكان لها ضحايا بالملايين من بينهم نيقولا الذي كان قيصراً وعائلته.. ففي ليل 29 يولية 1918 أُعدم هو وعائلته بالرصاص في بدروم منزل بياكاترينبورج قبل سقوطها في أيدي البيض المعادين للثورة بأيام.
وبمشهد إعدام العائلة التي أساءت حكم روسيا طوال ربع قرن من عمر الزمن ينتهي فيلم “نيقولا والكسندرا”.. وهو من تلك الأفلام التي تصور الثورة الروسية بغير حب بل بكثير من العداء.
ومن عجب أن صانعيه يريدون من المشاهد أن يتعاطف مع “نيقولا والكسندرا”.. ولكن المشاهد أخلف ظنهم.. فبرغم إظهار الفيلم الثوار غلاظاً بقلوب صهرت من حديد فالمشاهد لا يتعاطف مع “نيقولا” الطاغية الصغير الذي نسمعه يقول وهو قريب من لحظة النهاية الفاجعة: “لا أعرف أيُ خطأ اقترفت.. لو عرفت لاسترحت”!!