الرقابة على السينما .. القيود والحدود

وصفَ مصطفى درويش نفسه في شهادته بأنه “رقيب متمرد”. وخلال سنتين وهي مدة خدمته الكلية كمدير للرقابة على المصنفات الفنية اطلّع على 64 محظوراً تتعلق بالنواحي الاجتماعية والأخلاقية من جهة، ونواحي الأمن والنظام من جهة ثانية وهي جميعها تحدّ من حرية تعبير السينمائيين، ولم تترك هذه المحظورات صغيرة وكبيرة لها اتصال بالدين والجنس والنظام القائم إلاّ ووضعتها في دائرة المنع والتحريم.
hiroshima mon amour

بوستر فيلم هيروشيما حبيبتي

يعتقد درويش بأنه أتاح الفرصة لأفلام كثيرة كانت ممنوعة لا للأسباب الرقابية المنصوص عليها قانوناً، وإنما لأسباب أخرى من بينها الخشية من كل جديد. ومن بين الأفلام التي أباح مشاهدتها للمتلقين “هيروشيما حبيبتي” لألن رينيه، و “الجماعة” لسيدني لوميت، و “الربيع الروماني للسيدة ستون” لجوزيه كوينتيرو، و “فيدرا” لجوزيه داسن.

عدنان حسين أحمد

أزمة الرقابة السينمائية.. بزوغ جديد لسينما الدوجما

الرأي العام عندنا لا يعرف كلّ شيء. وهناك أمور تخفى عليه. كانت هناك تعليمات رقابية يزيد عددها على الستين، موجودة منذ عصر الملك. بل تطبّق ضمن قانون رقابة صادر في ظل جمهورية، ولم يكن بوسعي أن أعرفها لأنها لم تكن منشورة، وفوجئت بوجودها عند تعييني في الرقابة

مصطفى درويش – مدير سابق للرقابة على المصنفات الفنية

فارس الصغير – إضاءات

الرقباء وتابوهات السينما.. الدين .. السياسة ..و الجنس

إذا كانت السينما مرآة الواقع، تبقى الرقابة بوابة العبور إلى هذا الواقع، تفتح الطريق إلى جزء منه تارة وتغلقه تماما تارة أخرى وفقا لطبيعة النظام السياسى الحاكم الذى يسمح ويمنع وفق إشارات يبعث بها «الرقباء» أو «حراس الباب».. ونحن على أعتاب الجمهورية الثانية يبقى السؤال المحير عن مصير الرقابة على المصنفات الفنية فى النظام الجديد وكيف ستتعامل مع التابوهات الثلاثة (الدين .. السياسة.. الجنس) التى ظلت الهاجس الأكبر للرقباء.
Moustafa-Darwish2

وإذا كان استشراف مشهد المستقبل لا يتأتى إلا بقراءة صورة الماضى، تفتح «الشروق» ملف الرقابة ومصيرها من خلال سلسلة حوارات مع أشهر «الرقباء» السابقين فى محاولة لرسم السيناريو المقبل من خلال ما مروا به من تجارب وهم على رأس بوابة عبور السينما للواقع.

يبقى الناقد مصطفى درويش الوحيد الذى تولى رئاسة جهاز الرقابة على المصنفات الفنية مرتين، الأولى سنة 1962 لمدة خمسة أشهر والثانية بين عامى 1966 و1968، وخلال تلك المدة تعامل، كما يقول، بهدى مقولة الإمام «أبى حنيفة النعمان»: (الأصل عندنا هو الرخصة عن ثقة أما المنع فكل واحد يحسنه).. غير أن تلك الحكمة فتحت عليه النار فى كثير من الأحيان بداية من مجلس الأمة ونهاية بوزير الثقافة وفى المرتين أطيح به من المنصب بعد كيل الاتهامات له.. تارة بأنه عميل أمريكى، وتارة بأنه يسعى لنشر الفجور بالمجتمع.. وثالثة بتهمة الكفر والزندقة
Unknown

انحياز

رفضت أفلاما تمجد الجيش خشية أن يحرق الجمهور دور العرض

نكسة يونيو 67 كانت من أكثر اللحظات التاريخية الحساسة التى عاشها درويش بحكم وجوده على رأس الرقابة، حينها نشرت صحيفة «الأهرام» خبرا مفاده منع عرض الأفلام الأمريكية فى مصر ردا على انحيازها لاسرائيل، وهنا سادت حالة من الفزع فى أوساط الموزعين الذين اعتبروا القرار بمثابة «خراب بيوت» لهم، فسارعوا للحديث إلى درويش للاستفسار عن الأمر.

يقول درويش: حينها فوجئت بالأمر مثلهم وعلمت الخبر من «الأهرام»، فأبلغتهم أن هذا الخبر غير صحيح على الإطلاق لأن قرار المنع ياتى من الرقابة نفسها، وأنا لم أتخذ هذا القرار، ويومها احتفل الموزعون بالخبر بحفل ضخم فى منزل أحدهم، ووصلت أخبار لحفل لوزير الثقافة ثروت عكاشة فاستدعانى ووبخنى بشدة ولم أجده غاضبا على هذا النحو أبدا حتى أنه اتهمنى ب«العميل الأمريكى»، وكانت التهمة كفيلة بزجى فى السجن فى تلك اللحظات العصيبة التى تعيشها البلاد، وتراجعت عن قرارى وبالفعل وتم منع الفيلم الأمريكى لنحو 3 أشهر وحينها حمدت الله أننى خرجت من مكتبه إلى منزلى وليس إلى المعتقل.

لم تكن تلك هى المواجهة الوحيدة لدرويش مع المسئولين، فقد كانت هناك مواجهة أكثر حدة لكنه خرج منها بنجاح هذه المرة.. يتحدث عنها قائلا: عقب النكسة كانت الشئون المعنوية للقوات المسلحة تقوم بانتاج أفلام وثائقة وتسجيلة تمجد فى قوات الجيش والبطولات التى قام بها فى معاركه مع إسرائيل، وحينها وجدت لزاما على منعها من العرض بدور السينما خوفا أن يقوم الجمهور بتحطيم دور العرض تماما.

وأضاف: الرأى العام فى ذلك الوقت كان ثائرا بشدة ضد الجيش بسبب الهزيمة ويشعر أنه تعرض للخديعة وعاش فى وهم كبير تحطم خلال النكسة ولم يكن ليقبل أبدا مشاهدة أفلام من شأنها الاستمرار فى خداعه وربما لجأ إلى العنف بتحطيم السينما ومن هنا أقنعتهم برفع الأفلام لعدم مواءمة الظروف لعرضها.
Unknown-1

استقلال

نسير فى اتجاه «المنع هو الحل».. والإجازة ستگون الاستثناء

يرفض الناقد مصطفى درويش رأى كل من يتحدث عن استقلال جهاز الرقابة على المصنفات الفنية، ويقول: «كيف نتحدث عن استقلال الرقابة فى قراراتها وهى لاتزال تتبع وزارة الثقافة»، فالجهاز لن يكون مستقلا أبدا بهذا الشكل ويتعين علينا، فى حال التمسك بالرقابة، أن يكون الجهاز مستقلا تماما عن الوزارة ويتمتع بصفة اعتبارية ويشرف عليه مجموعة من أصحاب الرأى والفكر من السينمائيين، ويكونوا هم أوصياء على أنفسهم ويشعرون بالاستقلال الحقيقى.

ويحذر درويش من تزايد وتيرة الهجوم على الفن بدرجة وصلت حد المطالبة بحذف مشاهد من الأفلام القديمة، موضحا أنه إذا استمرت الأمور على هذا النحو فستجد الرقابة نفسها تعتمد مبدأ «المنع هو الحل» ويصبح رفض العمل هو الأساس وإجازته هو الاستثناء. وعلى الرغم من إعجاب درويش الكبير بتجربة السينما الإيرانية إلا أنه لا يخفى خشيته من استيراد نفس العوائق التى يعانى منها صناع السينما بايران لأنه حينها «لن يستطيع سينمائيو مصر التعامل فى تلك الظروف كما هو حال نظرائهم بإيران». ويضيف: صناع السينما الإيرانية فى منتهى التحدى والعناد، فتجدهم يعانون من محاذير أخلاقية وسياسية شديدة ورغم ذلك يقدمون سينما تبهر العالم وتنال العديد من الجوائز فى مهرجانات دولية كما هو حال فيلم «انفصال» لكن السينما المصرية التى تتوافر لها ظروف أفضل لم تنجح فى الوصول إلى المكانة نفسها بكل أسف. الغاء الرقابة فى مصر يبدو حلما بعيد المنال ولذلك لا يتطرق إليه الناقد مصطفى درويش، لكنه يذكر بالتجربة الغربية فى هذا الصدد ويقول إن سبب إلغاء الرقابة فى أوروبا كان فيلم «الراهبة» الذى اعترضت الكنيسة عليه وتسببت فى منع عرضه وهنا توحد مثقفو فرنسا مع السينمائيين وأطاحوا بوزير الثقافة حينها وانتهى الأمر بالغاء الرقابة فى فرنسا قبل أن يمتد الالغاء إلى أوروبا بأكملها واقترت الرقابة فقط على أفلام الأطفال.
Unknown-2

انفجار

وقفت ضد غلق دور السينما والمسارح عقب 67 واستشهدت بإنجلترا

نشر العرى والفجور كانت التهمة التى لاحقت درويش كثيرا خلال فترة توليه الرقابة لاسيما مع كل فيلم تضمن مشاهد ساخنة وأثار الجدل.. فقليلا ما لجأ درويش إلى مقص الرقيب وهو ما أوقعه فى مثل تلك المشاكل.. يتذكر الناقد مصطفى درويش أحد تلك المشكلات التى وقع فيها بإجازة فيلم «خذنى بعارى» الذى يصفه هو نفسه ب«التجارى والردىء».. لكنه فضل إجازته للعرض باعتباره ينتمى إلى تلك النوعية من السينما الموجودة فى كل دول العالم.

الفيلم كان بطولة الفنانة سميرة أحمد للمخرج السيد زيادة، وأنتجه صاحب مخبز ليشارك فى التمثيل، وأثار الفيلم جدلا واسعا نتيجة مشهد قيام صاحب المخبز باغتصاب الفنانة سميرة أحمد ووصفه البعض بأنه «شديد الفجاجة».. وبمجرد طرحه اتصل بى ثروت عكاشة وعنفنى كذلك وطلب منى سحب الفيلم من دور العرض تماما، لكننى وجدت الحل الوسط فى حذف المشهد وهذا ما حدث بالفعل.

كما تعرض درويش كذلك لحملة ضارية من نواب مجلس الأمة عقب عرض الفيلم الايطالى «انفجار» بدعوى أنه يحوى مشاهد عرى فجة، ولن أنسى ذلك اليوم عندما استدعونى إلى مجلس الأمة للحديث أمام النواب وحينها وقف أحدهم وقال لى: «للأسف اسمك مصطفى درويش لكنك.. لا مصطفى ولا درويش».. ولم أملك حينها سوى الابتسام.

هذا اليوم احتشد نواب المجلس وكالوا الاتهامات للرقابة باعتبارها تروج للفجور، وحاولت ان أشرح لهم وجهة نظرى لكن بلا جدوى ولم أجد سوى رفع الفيلم من دور العرض خاصة بعد أن تعرض لاتهامات بأنه تقاضى رشوة من الشركة الموزعة لإجازة الفيلم.

لكن الهجوم الأكثر شراسة على الرجل كان عقب النكسة مباشرة حيث واجه اتهامات بأنه يتعمد إجازة المشاهد الساخنة بالأفلام ليلهى المواطنين عن مرارة الهزيمة، وتعرض لحملة ضارية فى الصحف والبرلمان ولم يجد من يسانده فى ذلك الوقت لأن الكل كان مشغولا بحاله.

معركة عنيفة خاضها كذلك درويش مع نواب البرلمان عندما طالبوا بغلق دور السينما والمسارح، لكنه رفض بشدة واستشهد بأن بريطانيا التى كانت تتعرض لقصف الألمان فى الحرب العالمية الثانية وكانت على أبواب الهزيمة لكنها لم تغلق دور السينما والمسارح ولم يقدم أحد هذا الطرح.

ورغم أن درويش كان يتوقع حملة هجوم ضارية ضد فيلم «أبى فوق الشجرة» نتيجة جرأته الاجتماعية لكنه لم يتردد فى إجازة السيناريو، لكن الفيلم لم يعرض إلا بعد أن خرج من الرقابة، وتعرض الفيلم حينها لهجوم كبير لأنه كان أجرأ من قدرة المجتمع على التحمل بعلاقة تجمع أب وابنه بغانية فضلا عن القبلات الساخنة التى تضمنها الفيلم.

كارثة

مؤسسة السينما أوصت برفض «المومياء» لأنه «مش هيجيب تمنه»

يشعر درويش بزهو كبير أنه الرقيب الذى أجاز عرض فيلم «المومياء» للمخرج شادى عبدالسلام ويعتبره العمل الأهم فى تاريخ السينما، ويستشهد درويش بالفيلم باعتباره نموذجا لما يمكن أن تلعبه الرقابة فى التنوير إذا اقتعنت بعمل.

ويقول درويش: جاءنى سيناريو الفيلم حينها من مؤسسة السينما والغريب أنهم طلبوا منى رفضه من المنبع بدعوى أنه «ضعيف ولن يحقق ثمنه»، لكننى وجدت فيه سيناريو رائعا وقررت إجازته.. وهنا فتحوا على النار بدعوى أننى سأتسبب فى إهدار المال العام، وبكل أسف كان المخرج الراحل يوسف شاهين ومقربون منه وراء تلك الحملة لمحاربة المخرج شادى عبدالسلام، بحسب قول درويش، خشية بزوغ نجمه فى السينما.

تمسك درويش بموقفه حتى خرج الفيلم إلى النور ليصبح أحد أهم أعمال السينما المصرية، وحتى ما قيل عن أنه لن يحقق ثمنه مردود عليه.. فحتى الآن تليفزيونات فرنسا وألمانيا تعرض فيلم «المومياء» مقابل 30 ألف دولار فى المرة الواحدة، وهو ما لا يحدث مع أى فيلم عربى آخر.

الفيلم الآخر الذى يزهو درويش بأنه أجازه للسينما هو «المتمردون»، وتلقى سيناريو الفيلم قبيل ختام فترة رئاسته الثانية للرقابة، ويقول: أجزت الفيلم للعرض لأنه كان صادقا فى التنبؤ بالكارثة المحتملة، وحينها ألغى انتدابى وعدت إلى منصبى فى مجلس الدولة، لكن جاءت الرقابة الجديدة لتعمل مقصها بالحذف والتشويه فى الفيلم.

ولا ينسى درويش الأزمة التى تعرض لها عقب إجازة فيلم «على ضفاف النيل» للفنانة شادية وحلمى رفلة، حيث اتهم العمل بأنه يحمل جو المؤامرة على النظام السياسى ولم يجدوا سوى الرقابة لصب جم غضبهم على.

فيلم «ليلة الجنرالات»، الذى شارك فى بطولته عمر الشريف وبيتر أوتول، ودارت أحداثه قرب نهاية النازية فى بولندا أثناء الحرب العالمية الثانية، وضع درويش كذلك فى حرج بالغ ليس فقط على المستوى السياسى بإظهار نهاية الجنرالات والحكم العسكرى مما جعل آخرين يظنون أن هناك إسقاطا على الوضع السياسى فى مصر آنذاك وأيام النكسة، لكن أيضا لتوقيت عرض الفيلم.

فقد طرح فى موسم عيد الأضحى وهو أحد المواسم المهمة للأفلام المصرية، مما جعل بعضهم يتهم الرقابة أنها متواطئة مع الموزع الأجنبى لمحاربة الفيلم المصرى.

عقب تولى الدكتور عبدالقادر حاتم المسئولية طلب من درويش تقديم استقالته، لكنه رفض وقال: هو يقيلنى لكن لن أستقيل من موقعى كرئيس للرقابة» وأخير صدر قرار بانتهاء مدة انتدابى بالرقابة وعدت مرة ثانية إلى مجلس الدولة.

أحمد خليفة – الشروق