!لا تنزعجوا من الجنس أيها السادة

ثلاثة أفلام جنسية أعطيتها الضوء الأخضر عندما كنت رقيباً.. وكان من رأيي أنها تُضيف إلى السينما أشياء جديدة، فسبب لي هذا الرأي متاعب شخصية لا تُحصى. هذه الأفلام هي:
– انفجار: وهو انتاج أنجلوساكسوني
– رجل وامرأة: وهو انتاج فرنسي
– دوسيه الحب: وهو انتاج يوغوسلافي، أي من مجتمع اشتراكي
هذه الأفلام في رأيي كانت علامة من علامات العصر الذي نعيشه. فالتحرر الفني لا يقف أمامه حواجز أو مذاهب أو جمود.. وحينما طُلب إليَّ أن أقول الكلمة الأخيرة في هل تُعرض هذه الأفلام أو لا تُعرض.. كان من رأيي أن عدم إجازتها خطأ ثقافي لا يُغتفر، فقد كانت معالجة القصة فنياً من طراز ممتاز، وكانت معالجة الجنس فيها عملاً ذا مستوى فني رفيع، غير رخيص، غير مُثير، غير تجاري!
البحث عن المستتر
إن من طبيعة الإنسان المعاصر.. البحث عن الأشياء المستترة وراء المألوف.. هذه هي الميزة الرئيسية في فيلم “انفجار”.. والتجديد في هذا الفيلم لا يقتصر على المعالجة المتحررة من الناحية الشكلية، الأمر الذي ظهر في المناظر العارية وخاصة في منظر الاغتصاب الشهير الذي تغتصب فيه الفتاتان المصور، بل إن الثورة “اللونية” التي ميزت الفيلم جعلت السينما تدخل في مرحلة منافسة للفن التشكيلي.. ولهذا لم يكن من محض المصادفة أن يحصل هذا الفيلم على جائزة مهرجان كان الأولى في عام 1967.
جنس يدعو للفضيلة
وفي فيلم رجل وامرأة كان منظر الفراش مع العودة للماضي في لقطات سريعة ” لما يمارسانه” حدثاً فنياً مُبتكراً هو الآخر.
والذي يُبهر العقل والوجدان حقاً، أنه رغم كونه منظراً جنسياً بين رجل وامرأة، إلا أنه كان ينطوي على دعوة للوفاء الذي هو من أهم القيم الخلقية. والذي يدعو إلى التفاؤل أن هذا الفيلم دل على امكانية استعمال الجنس في الدعوة إلى قيم خلقية.. فهو في ذاته لا يجوز أن يُعتبر عملاً غير خلقي لا يُعرض على الشاشة.. ولا أدل على ذلك من أن مركز الكاثوليك العالمي للسينما منحه جائزة أحسن فيلم إلى جانب حصوله على جائزة مهرجان كان لعام 1966.
أما فيلم “دوسيه الحب” فقد تناول بطريقة سينمائية مُبتكرة وشبه وثائقية عيوب بناة مجتمع اشتراكي لا يقدمون أي تنازلات، مستعملاً الجنس في الكشف عن هذه العيوب..
جنس غير رخيص
لماذا أجزت هذه الأفلام؟ لأنني تأثرت بها شخصياً من الناحية الفنية، ولأن الجنس لا يكون رديئاً إلا إذا كان مثيراً.. وبعبارة أخرى من الممكن أن يكون الجنس على الشاشة غير مثير ولا رخيص إذا كان يهدف إلى فكرة..
وأنا أومن دائماً بالقول المأثور عن أبي حنيفة “العلم هو الرخصة عن ثقة.. أما المنع فكل واحد يُحسنه”.
أول قبلة
ولكن ما هو تاريخ الجنس في السينما؟
مع بداية ظهور صناعة السينما في العالم.. كانت جميع الأفلام خالية من الإثارة الجنسية. وأول من أدخل القبلة على الشاشة “الدانمارك” وقد أثارت- في حينها- ضجة كبيرة.. وكانت الرقابة تمنع عرض هذه اللقطة.. حدث ذلك خلال الحرب العالمية الأولى. وتدريجياً بدأت عملية التفنن في لقطة القبلة من قصيرة وسريعة على الوجنة والشفة إلى طويلة وفي أماكن أخرى.. وأذكر أنني عندما رأيت في فيلم “الملكة كريستينا” جون جيلبرت يُقبل جريتا جاربو في رقبتها.. كان ذلك أول قبلة أراها على الشاشة. ولا أُنكر أنني أُصبت بدهشة كبيرة عندما شاهدت قبلات كلارك جيبل الطويلة لفيفيان لي في فيلم “ذهب مع الريح” وكان ذلك في عام 1940. ولا أستطيع أن أنسى قصة ناظر المدرسة الذي اصطحب ابنته لمشاهدة هذا الفيلم فكان يضع كلتا يديه على عيني ابنته كلما حانت لقطة القبلة.
الجسد العاري
ثم بدأت هوليوود تُركز الإثارة في تعرية الجسد. فاتجهت إلى المايوه الذي بدأ قطعة واحدة، ثم تطور إلى قطعتين حتى وصل إلى البيكيني عام 1946، ثم انتهى الأمر في الستينات إلى تعرية الصدر. وكان أول فيلم أشاهد فيه الصدر عارياً هو “السماء من فوقنا والطين من تحتنا” عام 1962 عندما كنت رقيباً.. وهو فيلم وثائقي عن غينيا الجديدة. كان مقارنة بين التقدم العلمي والانطلاق إلى السماء بالأقمار الصناعية، والحياة البربرية المتخلفة التي مازال يعيشها قطاع من الإنسانية يتمثل في أهالي غينيا الجديدة شمال أستراليا. في هذا الفيلم ظهرت جميع النساء عاريات الصدر.
وبعدما كانت هوليوود تمنع ظهور رجل وامرأة في سرير واحد، تحولت الأمور وأصبح كل فيلم لا يخلو من سرير فيه رجل وامرأة بل وأكثر من رجل وامرأة!
وقد ظهرت بريجيت باردو عارية تماماً في فيلم “ثم خلق الله المرأة” في عام 1958.
اتهام صريح للمجتمع
ومن أجرأ الأفلام التي رأيتها خلال فترة عملي الأولى في الرقابة فيلم “ربيع مسز ستون في روما” عن قصة لتينيسي ويليامز ومَثَّلاه فيفيان لي ووارن بيتي. تناول الفيلم العلاقة المشبوهة بين سيدة عجوز لا تملك إلا المال وشاب لا يملك إلا أن يبيع الحب لمن يشتري، لقد جمع الفيلم بين الجرأة في العرض والجدية في المعالجة من خلال اتهام صريح للمجتمع التجاري الذي تباع فيه كل الأشياء وتُشترى. حتى الحب.. يتحول فيه إلى سلعة. وكان هذا الفيلم ممنوعا من العرض في مصر.
أما الفيلم الذي اعتبره مثيراً حقاً فكان “الخادم” إخراج جوزف لوزييه وتمثيل ديرك بوجارت وجيمس فوكس وساري مايلز.
فقد كان أول فيلم في تاريخ السينما الإنجليزية يعالج الشذوذ الجنسي الذي لابد أن يسود في مجتمع محكوم بامتيازات فئة قليلة غير منتجة فكانت المعالجة بأسلوب اجتماعي ناقد.
لقد كسر هذا الفيلم التقديس الذي كان يُحاط ببعض الموضوعات فحدث بعد ذلك الانفجار والتحرر في معالجة كل الموضوعات فأصبح من الممكن معالجتها فنياً.. وانتهى بذلك عصر النفاق الفيكتوري بانتصار الفن على المفاهيم التي تتسم بالنفاق الاجتماعي.

 

من الموجة الجديدة إلي السينما الشابة


“حين يتناول مخرجو السينما الشابة مشاكل الشباب بالمعالجة، فإنما يتناولونها من خلال رؤي تختلف تماما عن رؤي مخرجين في صيف أو في خريف العمر، وأميز ما يميز هذه السينما إنما هو انطباعها الصادق بجزع الشباب وحيرته وضياعه وعجزه عن التمييز بين الخير والشر”.
لعل الكلمات القليلة التي فاه بها ألان رينيه مخرج “هيروشيما…حبيبي” وهو في مجال التعريف بالموجة الجديدة هي أصدق الكلمات التي قيلت في بيان بعض أبعاد هذه الموجة الجديدة التي أعادت للفن السابع شبابه.
يقول ألان رينيه صاحب ” الحرب انتهت ” إن موجة المشاهدين الجديدة الأجدر بالإهتمام من موجة المخرجين الجديدة.
وهذا القول هو الحق لأن الموجة الجديدة هي في الواقع استجابة من عالم السينما لظهور مشاهد من نوع فريد لا يتوجه إلي دار العرض معصوب العينين ، جاهلا بما هو مقبل علي مشاهدته.
وليس من شك أن مثل هذا التحول في عقلية ونفسية المشاهد كان لا بد وأن يؤءثر علي الإنتاج السينمائي، لا سيما وأنه جاء مواكبا لأزمة طاحنة أخذت بخناق السينما العالمية ؛ ففي الولايات المتحدة هبط التردد علي دور العرض بنسبة ٤٠ ٪‏ ، و في إنجلترا فقدت دور العرض ٧٥٪‏ من من جمهورها في الفترة بين عامي ١٩٥٧ و١٩٦٥ ، كما انخفض عدد دور العرض من ٤٧٠٠ دار عام ١٩٤٦، إلي ٢٤٠٠ دار عام ١٩٦٣.
وفي ألمانيا الغربية، فقدت دور العرض حوالي ٥٥ ٪‏ من روادها فيما بين عامي ١٩٥٨ و١٩٦٤.
و في فرنسا هبط رواد السينما من ٤١٢ مليونا في موسم ٥٦/ ١٩٥٧ إلي ٢٦٢ مليونا في موسم ٦٣/ ١٩٦٤.
أما بالنسبة لأوروبا الغربية في مجموعها فقد هبط عدد رواد السينما الإجمالي من أربعة مليارات و١٢٠ مليونا عام ١٩٥٥ إلي مليارين و٧٤٠ مليونا عام ١٩٦٢ وذلك رغم الزيادة التي طرأت علي السكان في نفس المدة، وهي زيادة قدرت بحوالي ٧ ٪‏.
ولقد كان من نتاءئج هذه الأزمة أن طرأ تغيير جوهري علي الهيكل الإقتصادي للسينما، فأخذت دور العرض الكبيرة في الإختفاء لتحل محلها دور عرض صغيرة لا تتسع لأكثر من ثلثمائة مشاهد، وبدأ رأس المال يتحرك بحثا عن موضوعات جديدة، وطرق تناول فني جديدة، وأقيمت مكتبات سينمائية كبيرة تحفظ فيها ذخيرة الإنسانية من الأفلام، وانتشرت دور العرض المسماة سينما الفن والتجربة، كما امتدت شبكة كبيرة من نوادي السينما وجمعيات الأفلام علي وجه فاق الأحلام.
وكان لابد وأن يؤدي كل ذلك إلي انخفاض عدد الأفلام الهابطة، وإلي زيادة ملحوظة في عدد التجارب السينمائية الجديدة تؤدي بدورهاالى ارتفاع المستوي الفني للأفلام.
ومما ساعد علي هذا التحول أن عنصر الشباب أصبحت له الغلبة العددية بين جمهور المشاهدين، فقد تبين من بحث أجراه المركز القومي الفرنسي للسينما أن ٩٢٪‏ من الشباب فيما بين سن ٢٤ و٢٥ يرتادون دور العرض، وأن ٧٥٪‏ منهم يرتادونها بانتظام، في حين أن ٦٥٪‏ فقط من أولئك الذين تجاوز عمرهم ٢٤ سنة يرتادون دور العرض، و٣٥ ٪‏ منهم يرتادونها بانتظام.
ومرة أخري لعل إجابات ألان رينيه علي الأسئلة التي ووجهت إليه بمناسبة إخراج رائعته “هيروشيما …حبيبي” قد تسعفنا ببعض التفسير لظاهرة تجدد شباب السينما.
إن المخرج الشهير يحرص في إجاباته كل الحرص علي بيان دور الشباب فى نهضة السينما، وعلي إرجاع الفضل في انطلاق السينما نحو آفاق جديدة إلي وجود جيل من الشباب أقل تحيزا وتحزبا عن ذي قبل، وأكثر تطلبا للكمال الفني.
وفِي محاولة منه لكشف المجهول من مصير هذا التجدد في الفن السابع، تنبأ بأن ثقة المنتجين بالمخرجين الجدد ستزداد علي مر الأيام، وبأن السينما لن تستمر عَلي ماهي عليه مجرد أداة لسرد قصة، بل ستتحول إلي وسيلة تعبير حقيقية، أخذا منها بسبيل التطور الطبيعي الذي سبق إليه مخرجون مجددون من الجيل القديم أمثال رينيه كلير وجان رينوار وروبير بيرسون.
وتتحقق نبوءة الفنان الفرنسي، فمن سنة إلي سنة تتجدد السينما كما يتجدد الربيع عاما بعد عام.
بيد أن السينما في تجددها وتغيرها إنما تتجدد وتتغير علي سنة الحياة.
ففي زمننا هذا، زمن الصراع المرير بين القديم والجديد، كان لا بد وأن يكتب الإنتصار للجديد.
فمن السنة التي كشف فيها الان رينيه عن المجهول أي من حوالي عشر سنوات، تجدد في السينما العالمية كثير.
تغيرت خريطة السينما، انطفأت أسماء، ولمعت أسماء. لمع اسم رومان بولانسكي البولندي صاحب “قتلة مصاصي الدماء البواسل ، عفوا أنيابك في عنقي” وميلوس فورمان التشيكي مخرج “غراميات شقراء” وبوفيدربرج السويدي خالق “الفيرا ماديجان” وبازوليني الإيطالي الذي أخرج “الشحاذ” وليستر الإنجليزي مبدع “بيتوليا” ولولوش الفرنسي المشهور برجل وامرأة، وستانلي كوبريك الأمريكي منشد “أوديسية ٢٠٠١” وغيرهم كثير.
ويتتابع عرض أفلام غاية في الغرابة، لم يسبق لجمهور السينما أن شاهد مثلها من قبل. ووجه الغرابة فيها إنما يرجع إلي أنها أعمال فنية جادة تبحث عن معني الأشياء، وتعمل علي نجاح الإنسان في أن يتجاوز نفسه فيتغلب علي الأنانية والغضب والكراهية والخوف، أي علي كل الرذائل التي التي تنتهي عادة بمن أصيب بها إلي الإنحدار نحو مرتع مصاصي الدماء.
يعرف الفيلسوف الألماني هيجل الفن بأنه صراع ضد الطبيعة.
وغني عن البيان أنه لا مكان للفن السينمائي حسب تعريف هيجل في مجتمع يسود فيه الذوق التجاري ويتحكم رأس المال „سواء كان أهليا أم حكوميا“ في لحظات الخلق وهي جد نادرة.
إن ايفالد شورم المخرج التشيكي ، صاحب فيلم ” شجاعة كل يوم ” يري أن سر المعنى و أصل الأشياء كلاهما مختف وراء باب صغير، وأن الخلق السينمائي يرتهن بفتح هذا الباب، إنما لا بد لذلك من طرد التجار من المعبد.
وجان لوك جودار رائد الموجة الجديدة الفرنسية لا يري أن هناك فرقا بين قيامه بكتابة النقد وبين قيامه بتصوير فيلم. إنه الناقد بالقلم والكاميرا معا. ولكن أليس من الغريب أن يتاح النقد لجودار عن طريق أكثر الفنون الشعبية رغم الدور الطاغي الذي ما يزال رأس المال يلعبه في عملية الإنتاج السينمائي، وهو دور لا يساعد علي تهيئة المناخ الملائم للخلق الفني.
كيف نفسر إذن ظاهرة كهذه؟ كيف نفسر أن فنانا مثل جودار استطاع أن يخلق أعمالا سينمائية لا هدف لها إلا النقد والسخرية بالقيم الإجتماعية البالية؟
وأن فنانا آخر مثل أنطونيوني أتيحت له الفرصة، في مجتمع مريض بعبادة المال وتستلبه الأشياء، أن يخرج رائعته “انفجار” هذه التحفة اللونية ذات التركيب الإبداعي، التي ساعدت كل من شاهدها علي اكتشاف أجزاء مستترة من الحقيقة.
وأن فنانا ثالثا مثل ستانلي كوبريك استطاع أن ينشد بالصورة في ملحمة “أوديسة الفضاء ٢٠٠١” مجد الحياة بكل أسرارها وتحولاتها اللانهائية من فجر الإنسانية حتي عصر الإنطلاق في الفضاء.
لاتفسير لهذه الظاهرة إلا في وجود ظواهر أخري أقوي من كل حواجز المال والبيروقراطية والتزمت وانعدام الفهم، هذه الحواجز التي تقف سدا حاجزا أمام الإبداع الفني السينمائي.
وأظهر ما في هذه الظواهر :
أولا: ذلك الإنتشار الهائل لنوادي السينما وجمعيات الأفلام، ودور عرض سينما الفن والتجربة.
ثانيا: ذلك الجمهور من الشباب الذي يرتهن استمرار السينما أداة للتعبير الفني بإقباله علي دور العرض.
لقد كان من ثمار غلبة عنصر الشباب علي جمهور السينما أن أصبح من اللازم لاستمرار جذب الشباب إلي السينما أن تعالج مشاكل الجيل الجديد بمعرفة شباب السينمائييين، ومن هنا جاءت فرصة إتاحة العمل السينمائي لعدد كبير من الشباب، مما أدي إلي ميلاد سينما أخري يجري في عروقها دم جديد.
وحينما يتناول مخرجو هذه السينما مشاكل الشباب بالمعالجة فإنما يتناولونها من خلال رؤي تختلف تماما عن رؤي مخرجين في صيف أو خريف العمر.
إن هؤلاء المخرجين، وقد انقطعت كل صلاتهم بمشاكل الشباب منذ أمد بعيد، لا يستطيعون أن يتناولو هذه المشاكل في عمق، إن تناولهم لها لا بد وأن يجيء مشوها لأنه وليد الأسي علي لحظات عمر ولت، والندم علي فرص حية ضاعت والنواح علي فردوس مفقود.
وعلي النقيض من ذلك أمر مخرجي السينما الشابة، فسن العشرين عندهم ليست بسن الربيع لإنهم يعرفون „بحكم معايشتهم لواقع الشباب المر“ أن الشباب يواجه في هذه السن تحديات إثبات الوجود في مجتمع معاد كل مافيه يعمل جاهدا إما علي احتوائك و إما علي لفظك.
وإذا تتبعنا أفلام السينما الشابة، وجدنا أن نظرة الأبطال فيها للحياة نظرة جادة صارمة مشوبة بالحزن أحيانا، وبالخوف المتدثر بثوب الثورية أحيانا أخري.
“فجاك رادو” بطل الفيلم الأمريكي “الحافة” الذي أخرجه “روبرت كرامر” يشترك مع رفاق له في اللجنة الثورية التي تكافح من أجل السلام في فيتنام، ومن أجل الحقوق المدنية، غير أنه سرعان ما يقع فريسة لليأس، فيختار أقصر طريق للتغيير في رأيه: طريق الإغتيال السياسي.
وفي الفيلم الكندي “القطة في القفة” من إخراج “جرو” تصف باربارا حبيبها كلود فتقول “يظنني خائفة في حين أنه هو الخائف، إنه يخاف الحياة”
وكلود، هذا الرجل الخائف من الحياة، لايجيد إلا استعمال لغة الثوار، وكثيرا ما يتساءل عن جدوي هذا الإلتزام الشفوي.
“هل أنا متمرد؟ لاأعرف. ما أكثر العبارات والكلمات التي أود لو استطعت التحرر منها”
إنه يطمح إلي تغيير هذا العالم، ولكن التغيير يرتهن بالمعرفة؛ فليرحل إذن إلي الريف ليفهم العالم من خلال تأمل الطبيعة وقراءة الفلسفة!!
وهكذا يظن كلود أنه سائر بفضل هذا السلوك الطفلي التآمري في طريق تغيير العالم.
وقد يكون اكثر أفلام الشباب فهمًا لمأساتهم وعمقا في تناولها الفني هو فيلم المخرج المجري استفان زفايو “عصر الأوهام”، فبطل هذا الفيلم “جانوس” متخرج في كلية الهندسة ومتخصص في الهندسة الإلكترونية. كان يتوهم لحظة تخرجه أنه يحمل جواز مرور نحو مستقبل مشرق ، غير أنه الآن في قبضة الضياع ، فهذا العلم الذي يُحسنه لا يفتح له أبواب السيادة علي العالم. إن الحياة أكثر تعقيدا مما كان يظن، أكثر تعقيدا من الآلات الإلكترونية، فالآلات يعلم عنها الكثير، كل جزء منها له وظيفة دقيقة محددة، أما الحياة فهي عالم غامض كله أسرار، عناصره الأولي ما تزال مجهولة استعصي فهمها عليه.
ويتمرد الشاب، ويسري الشك في دمه سريان السم. إن الناس جميعا في نظره كاذبون، مخادعون مستهترون، لا تنطوي قلوبهم إلا علي العداء له. لا فائدة إذن في هذا الدبلوم الذي يحمله ولا في هذا العلم الذي يختزنه، فهما لن يفتحا له باب اليقين إلي مستقبل يليق بعلمه. فالجيل القديم يقف حجر عثرة في الطريق علي أهبة الإستعداد لاستغلال الشباب، ولن يتخلي أبدا عن مراكزه. ان هذا الجيل هو الحائط العازل الذي يجب العصف به، حائط الباهتين المترهلين الصفر من المواهب، هؤلاء الذين يقودون ويخططون ويصدرون الأوامر والتعليمات ويتصرفون بأساليب بالية وعتيقة، هؤلاء الجهلة بماهية التكنولوجيا، وبروح العصر. ورغم ذلك يغدق لهم العطاء.
وكما كانت إيطاليا موطن الواقعية الجديدة فإنها تعتبر حاليا موطن السينما الشابة الغاضبة، فهناك “سالفاتوري سامبيري” مخرج فيلم “شكرًا يا عمتي” و “روبيرتو فاينزا” مخرج فيلم “التصعيد” وكلاهما تقل سنه عن الخامسة والعشرين وكلاهما قد تأثر بالثورة التي أحدثها المخرج ماركو بللوشيو في حقل السينما الشابة بإيطاليا.
وبطل فيلم “شكرًا ياعمتي” ابن رجل ثري تربطه بعمته علاقة سوء، وهو يعاني من وهن في إرادته وضعف في خلقه يعجزانه عن الإحتجاج علي طريقة الحياة في الدغل المحيط بفنيسيا، ويقعدانه عن التمرد.
وكذا الحال بالنسبة لبطل فيلم “تصعيد”، فهو الآخر ابن لرجل من رجال الرأسمالية الإيطالية الجديدة، هارب من مسؤولياته، لا يهمه في شيء أن يعيش مليونيرا صاحب سطوة في الفردوس الإستهلاكي.
ويعد “ماركو بللوكيو” رائد الموجة الغاضبة في إيطاليا، وله فيلمان أحدثا دويا هائلا في وسط الدوائر السينمائية والسياسية: الأول “قبضات في الجيب” والثاني “الصين قريبة” وكلاهما مرآة صادقة للفوضي الثقافية التي يعاني منها الشباب في إيطاليا حيث يحكم يسار الوسط، ولانعكاس أثر هذه الفوضي عليهم في شكل اضطرابات عاطفية. وتتسم نظرة ماركو بللوكيو إلي الحياة السياسية والجنسية في إيطاليا بأنها نظرة مخرج شاب ساخر متحرر من هذا الحنين الرقيق إلي الماضي الذي تتميز به أفلام فيلليني. ومن هذا البرود العلماني الذي يغلف أفلام أنطونيوني ومن هذا التناول المرح السطحي السوقي الذي اشتهر عن كل من بيترو جيرمي وجريجوريني، ولعلنا لا نغالي إذا ذكرنا أن أغلب أفلام السينما الشابة إنما تصور حياة الشباب في مجتمعات مفتوحة استبد بها القلق والتردد في الاختيار بحيث أصبح التمرد عليهالا معني له.
ولا غرابة فى هذا لان المجتمع الذى يفيض بالحماسة والحيوية, ويلتزم بنظام خلقى معين وبقواعد سياسية ودينية محددة, هذا المجتمع هو الذى يكون مسار التمرد فيه مرسوما فى وضوح.
والتمرد في مثل هذا المجتمع يتخذ أشكالا متنوعة، فالمتمرد قد يكون مفكرا حرا، أو مناصرا لدريفوس أو معاديا للحرب إلي آخر ذلك.
وعلي النقيض من ذلك المجتمعات الغربية المعاصرة فهي بحكم أنها مجتمعات قلقة ومترددة في اختياراتها، وأكثر انفتاحا من أي عهد، فإن الشباب بها قد أصبح أسير حيرة الإختيار بين الإندماج فيها أو الرفض لها.
وليس من نتيجة هذا القول إن الإلتزام الأيديولوجي قد فقد كل معني له لدي الشباب.
فالأزمات التي يتناولها بالمعالجة المخرجون الشبان داخل المجتمعات الغربية ما تزال في أصولها وجوهرها ذات طابع سياسي في الغالب الأعم من الأفلام، فالوعي بالإضطهاد الذي تعاني منه مقاطعة كويبك الفرنسية في قارة يسودها الأنجلوساكسون, هذا الوعي هو نقطة البدء في رفض كلود للحياة السهلة وتعلقه بحب باربارا في فيلم “القطة في القفة” وتردد فابريزيو في قبول الإلتزام السياسي الذي يعرضه عليه صديقه الشيوعي سيزار هو محور محاولاته التحرر من عائلته، ومن الوسط البورجوازي الخانق المحيط به، وهي المحاولات التي يدور حولها فيلم برتولوتشى “أول الثورة”
وعلي هذا فإن أميز ما يميز السينما الشابة ليس فقط فقدانها للطابع السياسي، وإنما انطباعها الصادق بجزع الشباب وحيرته وضياعه وعجزه عن التمييز بين الخير والشر.
ولعل تفرد السينما الشابة بهذه الخصائص الفريدة خير شهادة لها، وأقوي دليل علي أن السينما، باعتبارها لغة العصر، تستطيع أن تكون تعبيرا ذكيا وصادقا عن مشاكل الشباب مستقبل الإنسانية.