إلي عهد قريب كانت أنشطة وزارة الثقافة تحكمها مجاملات وتجاوزات أفرغت فكرة الثقافة من معناها المتعارف عليه، شرقاً وغرباً وشقت وحدة المثقفين، فميزت ما بين معسكرين أحدهما ضم أهل الولاء، الذين أجزل لهم العطاء، والآخر ضم الفئة التي أبت الاستسلام إلي شتي وسائل الإغراء، وقتها كنا نعيش في حقيقة الأمر، أياماً حالكة السواد. فرائحة العفن وليد الفساد كانت منتشرة ليس في أروقة وزارة الثقافة فحسب، بل في كل مكان، بطول وعرض البلاد، وكان ذلك يؤذن بأن النظام علي وشك الانهيار في تلك الأيام المشحونة بالترقب والانتظار، فوجئنا بتهليل وتكبير غير مسبوقين لسيناريو من تأليف شاب مجهول، عاش زمناً طويلاً في ربوع إيطاليا حيث كان يدرس فن السينما.. وقد تزعم ذلك التهليل والتكبير نفر من النقاد المخضرمين.
ما أن انتهوا من قراءة السيناريو بتكليف من وزير الثقافة وقتها، حتي تحمسوا له حماساً شديداً، علي نحو جنح بهم إلي المطالبة بترجمته إلي لغة السينما في فيلم، تعود بفضله وزارة الثقافة إلي سابق عهدها الذهبي، حيث كانت تقوم بإنتاج الأفلام الروائية الطويلة لا لهدف سوي الارتقاء بمستوي السينما المصرية، وذلك بعد امتناع انحدر إلي حد العناد، عن القيام بذلك النوع من الإنتاج، استمر زهاء ثلث قرن من عمر الزمان.
ولم تكتف كوكبة النقاد المخضرمين بالحماس الشديد للسيناريو بل انتهي بها حماسها الفياض إلي القول بضرورة إسناد إخراج الفيلم المأخوذ عنه إلي صحابه، أي صاحب السيناريو، بزعم أنه يدخل في عداد فئة المخرجين المؤلفين.
وما أثار دهشتي اكتشاف أن صاحب السيناريو ليس في رصيده أي فيلم روائي طويل، وأن الفيلم المزمع إسناد إخراجه إليه من نوع الإنتاج الضخم بحكم اعتماد ميزانية له قدرها عشرون مليون جنيه، أو يزيد.
كما زاد من دهشتي العلم بأن «أحمد ماهر» هو ذلك السينمائي المقول بأنه مؤلف لا يشق له غبار.. أما لماذا زادت الدهشة، فذلك لأنه سبق لي قراءة السيناريو ومشاهدة ما أخرجه من أفلام قصيرة، بناء علي تكليف من اللجنة المنوط بها النظر في أمر المرشحين لجوائز الدولة التي توزع سنوياً.
وخلصت مما قرأته وشاهدته إلي أنه لا سيناريو ولا رصيده من تلك الأفلام، يؤهله للفوز بجائزة التفوق وهي أقل مرتبة من جائزة الدولة التقديرية.
وكان من بين ما حدا بي إلي التوصية بعدم الموافقة علي طلبه الترشيح لجائزة التفوق أن السيناريو مفتعل أشد افتعال، غامض علي نحو حال بينه وبين أن يقدم الفكرة السائدة التي يدور حولها الموضوع، بجلاء ومنطق واضح يترتب لاحقه علي سابقه، فضلاً عن عجزه عن أن يبعث في قارئه الإحساس بمأساة بطله في صورها المختلفة.. وفعلاً أخذت اللجنة بتلك التوصية وامتنعت عن تزكية ترشيحه لجائزة التفوق، كل ذلك ضربت به عرض الحائط كوكبة النقاد المخضرمين.
وإذا بـ «أحمد ماهر» مسنداً إليه إخراج الفيلم الذي اشتهر تحت اسم «المسافر» بميزانية لا تقل عن عشرين مليون جنيه.. وإذا بمدير الرقابة وأحد أعضاء تلك الكوكبة، معيناً في سابقة ليس لها مثيل، منتجاً منفذاً لذلك الفيلم، ولأمر ما لعله تعثر الإخراج، يعين إيطالي «ماركو أونوراتو» مدير تصوير الفيلم.
وفي زفة إعلامية كبري تليق بنظام علي وشك الانهيار ذهبوا بالمسافر وفي صحبته جمهرة من النقاد المؤلفة قلوبهم إلي مهرجان فينسيا «2009» حيث خرج من معترك الصراع علي الجوائز خاسراً، وخرج في نفس الوقت فائزاً ولأول مرة، بالأسد الذهبي، أرفع جوائز المهرجان فيلم إسرائيلي اسمه «لبنان»!