الحنين إلى السينما الصامته

لم أولد والسينما صامته، عاجزة عن الكلام عشت عمري مع السينما وقد تكلمت من حين لآخر، كنت افاجأ بفيلم صامت من عصر ولى، وأصبح في ذمة التاريخ وكان في غالب الأمر فيلماً من نوع الملهاة لتشارلي شابلن أو لوريل وهاردي من انتاج هوليوود فيما يسمى بالعصر الذهبي لسينما الملهاة، وكان مواكباً للحقبة الصامته من تاريخ السينما في مشارق الأرض ومغاربها.

واستمر الحال كذلك إلى أن فؤجت وأنا أتابع أخبار مهرجان كان الأخير (2011) بأن ثمة فيلماً صامتاً تحت اسم “الفنان” قد جرى عرضه ضمن الأفلام المتسابقة من أجل الفوز بالسعفة الذهبية الجائزة الكبرى لذلك المهرجان.
وأن عرضه هذا قد أحدث ضجة كبرى لايزال صداها يتردد حتى الآن. وأن بطل الفيلم الممثل الفرنسي “جان دي چاردان” قد خرج من المسابقة متوجاً بجائزة أفضل ممثل عن ادائه الصامت لدور نجم “فالنتان” أخذت شعبيته في الانحدار حتى كاد يصبح نسياً منسياً بمجئ السينما المتكلمة التي اكتسحت السينما الصامته وجعلتها أثراً بعد عين، ولأن الأفلام في عصر السينما الصامته كانت باللونين الأسود والأبيض فقط فقد روعي أن يكون فيلم “الفنان” هو الآخر بهذين اللونين وليس بالألوان الطبيعية على غير المعتاد في أفلام هذه الايام.

ومع اقتراب موسم حرب النجوم حيث ترشح الأفلام وصانعوها لجوائز الكرة الذهبية والاكاديمية البريطانية “بافتا” والاكاديمية الامريكية “أوسكار” ولغير ذلك من جوائز اتحادات النقاد والمخرجين والممثلين والمنتجين وما شابه ذلك، أخذ فيلم “الفنان” لصاحبه المخرج الفرنسي “ميشيل هازانا ڤيسييو” يحتل مركزاً مرموقاً بين الأفلام المتسابقة، فلقد جرى ترشيحه لأكثر من جائزة من جوائز الكرة الذهبية، فاز بثلاث منها أولها جائزة أفضل كوميدي “ملهاة” فضلاً عن جائزتي أفضل ممثل وأفضل موسيقى تصويرية، وبعد ذلك جرى ترشيحه لإثنى عشرة جائزة “بافتا” متغلباً بذلك الرقم المذهل على جميع الأفلام المتنافسة وقبل بضعة أيام أعلن عن ترشيحه لعشر جوائز أوسكار وبذلك العدد من الترشيحات يمثل المركز الثاني بين الأفلام المرشحه للأوسكار أما المركز الأول فيحتله فيلم “هيجو” لصاحبه مارتن سكورسيزي المخرج ذي الصيت، وذلك بفضل ترشيحه لإحدى عشر جائزة أوسكار و”هيجو” هو الآخر فيلم ملئ بالحنين إلى السينما الصامته، يظهر فيه جورج ميلييس ساحر السينما الفرنسية في بدايات القرن العشرين، وقد أفلس ولا يملك من حطام الدنيا سوى كشك صغير لبيع لعب الأطفال والحلويات بمحطة مونبارناس بباريس.

وبهذه المناسبة فقد جرى ترميم فيلمه “رحلة إلى القمر” عام 1902 وعرض في مهرجان كان الأخير وان يكون كلا الفيلمين “الفنان” و”هيجو” هما الأكثر ترشيحاً لجوائز الأوسكار مليئاً بذلك النوع من الحنين فذلك لمما يدل دلالة قاطعة على أن ثمة جنوحاً إلى بعث السينما الصامته بوصفها نوعاً من أنواع الفن السابع ما كان يجوز أن يتعرض لعاديات الزمان فيصفى وكأنه رمة بالسينما المتكلمة بدءا من السادس من أكتوبر 1927 ذلك اليوم الذي عرض فيه بمدينة نيويورك أول فيلم متكلم “مغني الچاز” وأرجح الظن أن النجاح منقطع النظير الذي حققه فيلم “الفنان” رغم أنه صامت وباللونين الأسود والأبيض فقط، سيكون عاملاً مساعداً في إعادة الحياة إلى نوع من الفن السابع غلب على أمره بواسطة قانون سوق لا يرحم تحت شعار “الجمهورعايز كده” أي يريد السينما المتكلمة بديلاً للسينما الصامته التي عفا عليها الزمان.

يبقى لي أن أقول أن موضوع “الفنان” الذي يعتبر بحق درة فريدة بين الأفلام إنما يدور حول السينما وتاريخها وبالذات في لحظه فارقة في ذلك التاريخ، لحظة نطقها بعد صمت طويل إنه فيلم مداره السينما وبخاصة ما كان منها متصلاً بمصنع الأحلام في هوليوود يحكي قصة صعود وسقوط مدارها صعود نجم ممثله في ريعان الشباب وأفول نجم ممثل في خريف العمر لاسيما بعد سقوط فيلمه الصامت “دموع الحب”، الذي قام بانتاجه من ماله الخاص، متحدياً بذلك استديو “كينوجراف” الممول لأفلامه السابقه والذي تحول إلى انتاج أفلام متكلمة، مجاراة منه لروح العصر وقانون الشباك ولن احكي كيف انتهى به الأمر بعد فشل “دموع الحب” وافلاسه فذلك شيء يطول مكتفياً بأن أقول أن اداء “دي چاردان” الصامت لدور “فالنتان” وهو في أوج مجده، وهو في لحظة انكساره يعتبر أول اداء صامت رفيع المستوى منذ حوالي ثمانين عاماً وعنه استحق بجدارة جائزة أفضل ممثل في مهرجان كان الأخير وجائزة الكرة الذهبية قبل بضعة أسابيع ولعله فائزاً بأوسكار أفضل ممثل رئيسي بعد أربعة أسابيع وتحديداً يوم السادس والعشرين من شهر فبراير الحالي.