مقال الناقدة صفاء الليثى المنشور اليوم الاربعاء فى صفحة السينما بالجمهورية

مصطفى درويش الناقد الساخر .. قاضي الفن ومجنون السينما الراقية .. تتذكره : صفاء الليثي

كنت بدأت سلسلة لقاءات مع رواد السينما لباب بمجلة الفن السابع ( محمود حميدة – محمود الكردوسي ) وسجلت لقاءات مع عبد الحميد سعيد ورحلته المتعثرة مع أرشيف السينما، ومع أحمد الحضري نجاحاته وإحباطاته مع السينما ثقافة ودورا مؤسسيا، وفكرت في مصطفى درويش، المستشار مصطفى درويش قاضي مجلس الدولة الذي أسندت إليه مهمة الرقابة على السينما بعد هزيمة 1967 .

سجلت معه ولم أقم بنشر اللقاء ولم أكمل تفريغ الشرائط- كنت أتبع الوسائل القديمة بالتسجيل على شرائط كاسيت- وحين التقيت بمصطفى درويش بادرني بسؤال لم ينتظر إجابته، ( ما نشرتيش كلامنا ليه، ما لقتيش فيه جديد ). نعم كان الأستاذ ناقدا لنفسه قبل أن يكون ناقدا لآخرين، يصف كتاباته بأنها مقيلة، أي مقال قصير يقصد عمود كان ينشر في مجلة أسبوعية، وعلى قصر المقال وقلة عدد كلماته كان يتميز برأي متفرد ومعلومات مكثفة من متابعاته لأحدث الأفلام يحضرها بنفسه من ألمانيا التي كان يسافر إليها كثيرا، أو يوصي عليها فيرسلها له – ابن الشقيقة- يقولها بالفصحى ويضغط على حرف القاف. شقيقته سيدة أرستقراطية كان يعيش معها في منزل الوالد بوسط القاهرة، ولها ابن وحيد، ابنه أيضا فالخال والد، يقولها ويضحك ضحكة صغيرة. توفت أخته منذ سنوات وازدادت وحدته وكان هناك مكالمة دولية يومية مع ابن الشقيقة حضرت احداها أثناء زيارتي له .

الزيارة التي تكررت وكنت أمر عليه للدردشة والاتفاق على الفيلم الذي سيعرضه ضمن عروض جمعية نقاد السينما المصريين _ عضو الفيبريسي – في برنامج أسميناه مختارات مصطفى درويش، كان ينسخ نسخة من الأصل الذي يقتنيه ونتأكد من صلاحيته للعرض، يأتي في موعده تماما يشرب شايه وهو يتهيأ لتقديم الفيلم مع النقاد بينما تنطلق تسمياته الساخرة التي تطال الجميع فهذا بالفريك وهذه فامباير يضحك قبل ابتسامتنا المندهشة .

تقديس العمل ودقة المواعيد وندرة الاختيارات صفات جدير بها الناقد المثقف الذي عمل قاضيا لفن السينما في أصعب ظرف تاريخية مرت على مصر. علاقته بثروت عكاشة وانفتاحه على سينما العالم لتعويض منع عرض الأفلام الأمريكية بعد قرار عبد الناصر بمقاطعة أمريكا لوقوفها ضدنا في حربنا مع اسرائيل، هذا المنع الذي بسببه شاهدنا أفلاما إيطالية وفرنسية وهندية تعرض عرضا عاما في دور السينما، والرقيب مصطفى درويش يسمح بعرض أفلام سياسية، وأفلام فنية دون حذف ما قد يوجد بها من مشاهد غير معتادة على ذائقة المشاهدين.

وقتها سمح أيضا بعرض أفلام مصرية بدا أنها تهاجم عبد الناصر شخصيا ونظام حكمه، وأشهرها فيلم ” شيء من الخوف ” الذي رفض عبد الناصر قرارات الرقباء وطلب منهم السماح بعرضه، سمعت من توفيق صالح أن عبد الناصر قال إذا كنا هكذا فلنستحق ما يجري لنا، يندرج ما حكاه توفيق صالح تحت انحيازه لعبد الناصر ورفضه لما يمكن أن يعد تصرفا منفردا من الرقيب مصطفى درويش وتأكيد على أن قراراته، التقدمية إذا جاز التعبير كانت توجها عاما للنظام وليست شجاعة خاصة منه.

يبقى لنا مصطفى درويش أول المتحمسين لشادي عبد السلام وفيلمه المومياء، وللمخرجة عطيات الأبنودي في كل أفلامها التسجيلية الهامة، وصداقته بها حتى أنها كانت حريصة رغم مرضها على حضور الاحتفال بعيد ميلاده في إطار مشروع فريدة مرعي بتوثيق مسيرة رواد السينما والاحتفال بهم وسط من يختارونه من أصدقاء، وبعد الاحتفال نستمع إلى مشواره مع السينما الذي يسجل على شرائط فيديو. روح الدعابة وحس الفكاهة الذي كان يتمتع به الناقد الكبير أضفى جوا مرحا على الجلسات التي حضرها أصدقاء له مثقفين ومفكرين وسياسيين خلافا لزملائه من النقاد.

مضت أيام وتغيرت أحوال واستمر تواصلي معه تليفونيا لأطمئن على أحوال المثقف العائش وحيدا في 13 ش البستان بالقاهرة متمتعا بأحدث وأجمل الأفلام، راضيا بما لديه، ساخرا من كل من حوله مكتفيا بحب ابن الشقيقة، ابن أخته الوحيدة، الوحيد الذي استقبل عزائه بعد الرحيل في الرابع من مايو 2017 قبل ذكرى هزيمة 1967 بشهر واحد، تلك الهزيمة التي ارتبط عمله بها، توفى الساخر المستشار مصطفى درويش بعد غريمه الناقد سمير فريد، وبعد زملائه يعقوب وهبي وأحمد الحضري، جيلين متعاقبين من نقاد السينما ينفرط عقدهم، غيبهم الموت وتبقى سيرتهم عطرة، ودورهم مشهود في خدمة فن السينما ورفعة الثقافة السينمائية، كل حسب جهده، وتبقى لي ذكريات معه هو البرجوازي الكبير واحد من النخبة المثقفة المصرية، ناقدها المقل ورقيبها في منصب شغله نجيب محفوظ.