تتخذ النقاشات حول خطورة الرقابة ودورها، ضرورتها وحدودها، أهمية ملحوظة وحجماً متزايداً في الحياة الثقافية المصرية، خصوصاً بعد الضجة التي أثارتها أخيراً استقالة درية شرف الدين من منصبها، متهمة بعض المسؤولين في وزارة الثقافة بعدم التعاون معها بما فيه الكفاية، هذا الحوار مع مدير سابق للرقابة، يعطي فكرة عن عمل هذا الجهاز الذي يتحكم بالحركة الفكرية والابداعية، ويسّلط الضوء على فلسفته ونقاط ضعفه، ويطرح السؤال حول ضرورة تحديثه؟
يندهش المرء حين يكتشف أن سلطات الاحتلال البريطاني في مصر، هي التي “قننت” المحظورات المتعمدة من قبل أجهزة الرقابة على “المصنفات الفنية” منذ بداية القرن. وتزداد الدهشة حينما نتبين أن معظم المحظورات بقي على حاله حتى الآن، مع بعض التغيرات البسيطة التي واكبت الأحداث المهمّة مثل سقوط الملكية عام 1952، لكن فلسفة الرقابة بقيت نفسها، تدور حول محور واحد “الممنوعات”.
وفي العام 1955 مثلاً – صدر القانون رقم 43، وهو أول قانون لـ”تنظيم” الرقابة على “الأشرطة والمصنفات الفنية الأخرى” كما وصفت في صدر القانون. وظلت أحكامه سارية المفعول من دون أيّة تعديلات قرابة سبعة وثلاثين عاماً ثم جاء القانون رقم 38 لسنة 1992 ليتضمن تعديلات تقول إنها “تسد النقص في أحكام الرقابة على أشرطة واسطوانات الڨيديو”.
بل أن هناك ما يسمّى “تعليمات إدارة الدعاية والإرشاد التابعة لوزارة الشؤون الاجتماعية” والتي كان معمولاً بها منذ شهر شباط “فبراير” لسنة 1947، وهي تعلميات غير منشورة اكتشفها ــ وأعلنها مصطفى درويش، حينما تسلم منصبه كمدير عام للرقابة للمرة الأولى عام 1972، ودرويش أول مدير للرقابة حتى الآن، يتولى هذا المنصب مرتين متتاليتين، ويتخلى عنه في كل مرة بطلب من السلطات الثقافية المسؤولة. “الوسط” إلتقته في مناخ يشهد تساؤلات واعادات نظر عديدة، فكان هذا الحوار حول تجربته ودوره، وحول طبيعة الرقابة في مصر وآفاقها على عتبة قرن جديد.
ماهي فلسفة الرقابة في مصر؟
قبل تحديد فلسفة الرقابة في مصر، علينا أن نفهم علاقة الرقابة بالدولة، بالنظام الحاكم. فقبل ثورة يوليو كانت المحظورات الرقابية تشمل “عدم سب وتحقير الألقاب والرتب والنياشين أو الباشوات” وعدم السماح بدعاية “ضد الملكية أونظام الحكم القائم أو التعريض بدستور البلاد أو بنظام الحياة النيابية في مصر”. وبعد يوليو سمح بالتعريض بالملكية والأحزاب، لكن حظر التعريض بالنظام الجمهوري. وبقي معظم المحظورات كما هو بما فيه مثلاً، منع التعرض لموضوعات فيها المساس بشعور المصريين أو النزلاء الأجانب، وحظر الأحاديث والخطب السياسية المثيرة أو السخرية من القانون.
وتسهر الرقابة على عدم الاساءة إلى سمعة مصر والبلاد الشقيقة، بإظهار منظر الحارات الشعبية البادية القذارة والعربات “الكارو” ومبيض النحاس، وبيوت الفلاحين ومحتوياتها إذا كانت حالتها سيئة، والتسول والمتسولين…..
وتطول القائمة التي تضم 33 محظوراً من الناحية الاجتماعية والدينية، إضافة إلى 31 محظوراً يتعلق بالأمن والنظام العام، فلسفة الرقابة إذا هي “المحافظة على الأمن والنظام العام وحماية الآداب ومصالح الدولة العليا” كما جاء في المذكرة التوضيحية لقانون الرقابة.
ما الذي أتى بك إلى الرقابة، وكيف خرجت منها؟
أنا في الأصل قاض…ومن الجائز تعيين مدير للرقابة من خارجها، شرط أن يكون على وعي بـ”سياسة” الدولة. أنا كنت مهتماً بالسينما منذ فترة طويلة، وحدث “فراغ” في قمة الجهاز الرقابي، ولما كان ثروت عكاشة، وزير الثقافة وقتها، على علم بخبرتي واهتماماتي، استدعاني وأسند إليّ منصب الرقيب العام. ثم حدث تغيير وزاري، وتولى عبد القادر حاتم وزارة الثقافة بدلاً من عكاشة. سألني أن أطلب إلغاء انتدابي من سلك القضاء، فرفضت بحجة أنني أعمل في “الدولة” ولا أعمل عند “وزير” بعينه لكنه ألغى انتدابي، فخرجت من الرقابة بعد قرابة خمسة أشهر من توليها.
أما المرة الثانية، فكانت بعد “إخراج” الدكتور حاتم من وزارة الثقافة و”ارجاع” عكاشة إليها. وهذا الأخير أعادني بدوره رقيباً، ثم ألغى هو انتدابي بعد تسعة عشر شهراً استجابة للضغوط التي نسبت إليّ تهمة “إفساد” عقول شباب الأمة! كان ذلك في عام1967 بعد الهزيمة…
نعرف أن مساءلتك تمت بواسطة اللجنة الثقافية في مجلس الشعب (مجلس الأمة ذلك الوقت).
بالفعل، كشفت الهزيمة عن تيار رجعي سلفي موجود في مؤسسات الدولة، وخصوصاً في وزارة الثقافة، صدمة الهزيمة أخرجتهم من جحورهم، طالبوا بإغلاق دور السينما والمسارح وإعلان “الحداد” العام، اتهموني بالتصريح بأفلام “تفسد” الشباب، مع أن هذه الأفلام التي أشير إليها عرضت بعد الهزيمة، لا قبلها، وبما أن الوزير كان بدأ يستجيب لضغوط هذا التيار، فقد وافق على مطالبهم، سحب الأفلام من دور العرض ثم أنهى انتدابي.
نحن على أعتاب قرن جديد، والقوانين الرقابية لم تتغير منذ زمن. ما هي المتغيرات التي شهدتها القوانين منذ بداية القرن ؟
لم يحدث بالفعل سوى تغيرات بسيطة، هناك قرار وزير الإعلام والثقافى رقم 22 لسنه 1976بشأن القواعد الأساسية للرقابة على المصنفات الفنية، أهم ما يلاحظ أنه اقتصر على “دمج” المحظورات الوارد ذكرها في تعليمات وزارة الشؤون الاجتماعية، بحيث تحولت من 64 إلى 2 محظوراً، ولم يتح هذا القانون الجديد بصراحة لأي ممنوع سابق أن يصبح مشروعاً، إذا استثنينا المخدرات التي أصبح تناولها مشروعاً شرط ألا يوحي ظهورها على الشاشة بأن تعاطيها شيء مألوف.