سر السقوط

تحولت السينما المصرية في السنوات الأخيرة إلى سينما مناسبات، لا يجري عرض أفلامها علي مدار السنة، كما كان حالها أيام زمان، وإنما يكتفي بعرضها في مناسبات خاصة كالأعياد.

وكثيراً ما ينقطع عرضها في مناسبات خاصة أخري، كدوري كرة القدم ومواسم الامتحانات وشهر رمضان.

وسينما هذا هو وضعها الآن، وهو وضع مزعج بكل المعايير، لا يُرجى لها أي شفاء، فيما لو استمر الحال على هذا المنوال.

ومعروف أن أهم مناسبتين يجري فيهما عرض أفلامنا هما العيدان الصغير والكبير.

وفي أثناء العيد الأخير، قبل شهرين أو يزيد، جرى عرض، ولا أقول فرض، أربعة أفلام على جميع دور السينما بطول وعرض البلاد.

و”ساعة الانتقام” أحد هذه الأفلام، وأقلها شأناً من الناحيتين الفنية والتجارية.
ولن أقف عنده إلا قليلاً لأقول: إن مخرجه أحمد السبعاوي، وأن موضوعه يدور وجوداً وعدماً حول انتقام البطل “الشحات مبروك” من عصابة تتاجر في الرقيق الأبيض، قتلت شقيقه طالب الطب، عندما كان يحاول إنقاذ فتاة “نهلة سلامة”، لجأت إليه لانتشالها من براثن تلك العصابة، التي دفعت بها مكرهة، إلى ممارسة مهنة بيع جسدها إلى الرجال.

ومما يعرف عن أي فيلم للثلاثي “السبعاوي”، ” الشحات” و”نهلة” أن عرضه في دور السينما، إنما يَمُرّ مَرّ الكرام، ولولا العيد السعيد لما حظى بمكان بين الأفلام .

وأنتقل إلى الأفلام الأخرى وهي “البطل” و”مجرم مع مرتبة الشرف” و”دانتيلا”،لأعرض لها باختصار، أرجو ألا يكون مخلاً.

خيبة الأمل  

وأبدأ بـ”البطل” لأنه أول فيلم شاهدته وكان ذلك في حفلة الصباح من أول أيام العيد.

ولأن أحد أبطال الفيلم الثلاثة محمد هنيدي، فأغلب الحضور كانوا من الصغار.

وكم كان الفيلم مخيباً لما علقوا عليه من آمال كبار.
فهنيدي ، على عكس المتوقع، يلعب في الفيلم دور شاب مهزار، سرعان ما تتحول به الأحداث إلى بطل مناضل من أجل الاستقلال، وذلك بعد مقتل أحد رفاقه برصاص جيش الاحتلال.

ولم يكتف كاتب السيناريو “مدحت العدل” بهذا التحول المفاجئ، بل أضاف إليه استبسالاً في النضال انتهى بهنيدي مقتولاً، هو الآخر، برصاص المحتلين، محمولاً نعشه على الأعناق، حتي مثواه الأخير!!

وطبعاً كل هذا ما كان ليرد علي بال جمهور الفيلم بأي حال من الأحوال.

ومن هنا عدم استعداده لصدمة مشاهدة نجمه الهزلي، وقد تحول، دون مقدمات، إلى بطل مأساوي أشبه بأبطال الملاحم الإغريقية في سالف الزمان.

وخروجه من الفيلم محبطاً.

المأساة.. متي؟ 

ولا غرابة فيما أصاب الجمهور، فهنيدي بحكم تكوينه أهل لأن يكون نجماً كوميدياً رائعاً، وليس تراجيدياً.

وربما يتأهل للأدوار ذات الطابع المأساوي، مع زحف الشيخوخة بعد عمر طويل، مثله في ذلك مثل شارلي شابلن، عندما أصبح كهلاً، فلعب أدواراً تمتزج فيها الملهاة بالمأساة بدءاً من”المسيو فيردو” سفاح عجائز النساء.

ورغم أن كل هذا من البداهة، فإنه، ولا مراء، غاب عن إدراك المخرج الواعد “مجدي أحمد علي” صاحب “يا دنيا.. يا غرامي”. فكان أن أسند إلى هنيدي دوراً غير ملائم لشخصيته، مما كان سبباً في إضعاف مصداقية الفيلم إلى حد كبير.

ومن بين النماذج الأخرى المطروحة في الفيلم، وما أكثرها، نموذج النجار الشاب الذي يهوى الملاكمة، فضلاً عن سعد باشا زغلول زعيم الأمة ويؤدي دوره “أحمد زكي”.

الجديد الوحيد

وأحداث الفيلم تدور حول نجاحه في تحقيقه كل طموحاته، بمصاحفة زعيم الأمة في أثناء إلقائه خطاباً أمام الجماهير، وبالانتصار في مباراة ملاكمة عالمية على أحد الأبطال الأوروبيين، وبالزواج من امرأة تفانت في حبه، فأنجبت له الصبيان والبنات.

ودور أحمد زكي في الفيلم لا يعدو أن يكون تكراراً لدوره كملاكم في فيلمي “النمر الأسود” للمخرج عاطف سالم، و”كابوريا” للمخرج خيري بشارة.

والحق، أنه لا يصلح لهذا الدور الآن، وذلك بحكم زحف الأيام وترهل الأجسام.

ولعل الشيء الجديد الوحيد في الفيلم هو “مصطفي قمر” المطرب الشاب الذي يلعب دور فتى من أصل يوناني، عاشق لكل ما هو مصري، رافض لمعاملته وكأنه أجنبي، متمرد علي كل شيء مشارك في النضال.

سمك لبن تمر هندي

وإذا كان العيب الرئيسي الذي شاب “البطل” مرجعه التحول بهنيدي إلى ممثل مأساوي.

فعيب “مجرم مع مرتبة الشرف” مرجعه سيناريو اختلط فيه الحابل بالنابل، على نحو تحول بالفيلم إلى سمك، لبن، تمر هندي.
ففيلم “مدحت السباعي” ليس فيلماً واحداً وإنما عدة أفلام.

فهو يبدأ فيلم حركة وتشويق، تغلب عليه المغامرات والمطاردات، تصاحبها اللكمات والطلقات.

غير أنه ما إن تلتقي “دنيا” “بفؤاد” أو “رغدة” بـ”هشام عبد الحميد”، حتى يتحول إلى فيلم غرامي، ناعم، يتبادل فيه الإثنان القبلات، ويدور الحديث بينهما حول أيام ضاعت من العمر، قبل اللقاء.

من أجل ولدي

ولا يدوم الفيلم الغرامي طويلاً، إذ سرعان ما نواجه بأحداث فيلم آخر ميلودرامي عماده التضحية بالغالي والرخيص من أجل الأولاد، فلذات الأكباد.

وما نكاد نفيق من هول صدمة موت الطفل الصغير ابن “فؤاد”، وهو في أحضانه، داخل إحدى لقطات العودة إلى الماضي، قصد بها المخرج وكاتب القصة والسيناريو والحوار “مدحت السباعي” بيان أسباب انخراط “فؤاد” في عالم الإجرام.

أقول ما نكاد نفيق من هول تلك الصدمة، وصدمات ميلودرامية مماثلة، حتي يظهر أمامنا علي الشاشة فيلم أبطاله أصحاب ذقون سوداء ونفوس فظة، غليظة القلب، يتحرقون شوقاً لإرهاب المجتمع وترويعه بالقتل العشوائي، الذي ينحدر إلى حد الشروع في تفجير حافلة مدرسية، مزدحمة بالأطفال.

وبفضل هذا الظهور المفاجئ، تحول “مجرم مع مرتبة الشرف” إلى فيلم سياسي قوامه الدعوة إلى محاربة الإرهاب.

ومع هذه الكثرة في الموضوعات، كان لابد وأن تتعدد الشخصيات، وتتداخل على نحو مُحير للألباب.

أول القصيدة   

وإذا سلمنا بما جاء في العناوين فالفيلم من إنتاج “هشام عبدالحميد”، الذي يلعب فيه دور لص، نبيل، ليس في طبعه الإجرام.

وأغلب الظن أن أحد دوافع إقدامه على الإنتاج، هو المشاركة بفيلمه في معركة حماية الوطن من خطر طاعون الإرهاب.

والمشاركة علي هذا النحو، دافع ولا شك نبيل.

ومما يُعرف عن مخرج الفيلم أنه من فئة المخرجين المؤلفين.

ولقد خانه التوفيق أولاً في اختيار الممثلين وثانياً في المعالجة السينمائية لخطر الإرهاب.

فرغدة وماجدة الخطيب، كلتاهما تبدو في الفيلم أكبر سناً، الأولى من حبيبها هشام والثانية من زوجها “عبد العزيز مخيون” الذي يتقمص شخصية طبيب واسع الشهرة والثراء. كما أن رغدة في دور الأم الملتاعة على ابنتها الوحيدة المريضة بالقلب، لم تكن مقنعة.

أما لماذا خان التوفيق “السباعي” في معالجته السينمائية لخطر الإرهاب، فذلك لأنه خلط بين أكثر من نوع، بمواقف مضحكة مواقف محزنة، بمواقف عبثية مواقف جادة، وهكذا.. وهكذا، فكان أن جاء فيلمه “خلطبيطة”، كعنوان فيلم آخر له أخرجه قبل أربعة أعوام.

الانفراد بالتكريم

والآن إلى رابع أفلام العيد “دانتيلا”.
وبداية أقول: إنه انفرد دون الأفلام الأخرى بمشاهدة وزيرين مخضرمين له وهما وزيرا الثقافة والكهرباء.

كما انفرد باختيار لجنه المهرجانات بوزارة الثقافة له، ممثلاً للسينما المصرية في مهرجان شيكاغو السينمائي.

وفوق هذا انفرد صانعوه المخرجة إيناس الدغيدي، ونجمته يسرا، وكاتب السيناريو رفيق الصبان، انفردوا بتمثيل مصر في مهرجان “كان” الأخير، على حساب وزراة الثقافة، وهنا لا يفوتني أن أذكر أنه من بين من اختارتهم تلك الوزارة لتمثيلها في ذلك المهرجان “رغدة” نجمة “مجرم مع مرتبة الشرف”، والشاعرة التي لا يشق لها غبار، لاسيما بعد اختفاء “نزار”.

خيش أم دانتيلا

و”دانتيلا” لعله أول فيلم لإيناس بعد “لحم رخيص” الذي يعد بحق واحداً من أكثر أفلام السينما سوقية وسوءا.

هو لا يختلف في السوقية والسوء كثيراً عن لحم رخيص.

حقاً هو أفضل من الفيلم الأخير في التصوير، وفي تكوين بعض اللقطات، ولكنه أسوأ منه في أكثر من مجال.

ويكفي هنا أن أقول أنه أكثر ابتذالاً خاصة في مشاهد السرير التي تتكرر، لا لهدف سوى دغدغة الحواس.

ومشاهد يسرا، وهي تغني أوف.. أوف ودانتيلا.

وياليتها ما خضعت للإغراء، فشوهت صورتها في نظرنا، نحن المتفرجين، بغناء أقرب إلى تأوهات الغانيات، في أحضان طالبي اللذات.

والفيلم يبدأ بلقطات غير ملونة “أبيض وأسود” لفتاتين، إحداهما على وشك أن تغرق في البحر، والأخرى تنقذها من موت أكيد.

قبح وتشويه

وفي اعتقادي أنني لست بعيداً عن الصواب، بجنوحي إلى القول بأن تلك اللقطات، من أقبح ما شاهدته عيناي إخراجاً وتمثيلاً.

وسرعان ما يتضح لنا أمر هاتين الفتاتين، فإذا بإحداهما فتاة سيرك والأخرى بنت أكابر.

وإنهما، ويا للعجب، صديقتان.

وما هي إلا بضع دقائق، حتى تنتقل بنا صاحبة الفيلم من اللقطات البيضاء، السوداء الشديدة القبح إلى مشاهد ملونة أشد قبحاً.

فها هي ذي “يسرا” فتاة السيرك سابقاً، تتلوى وتتثنى في ملهى ليلي، درجة ثالثة، وهي تغني “أوف.. أوف” بين صياح سكارى، أشباه رجال.

وبعد ثوان، تسرع صاحبة الفيلم بمفاجأتنا بإلهام شاهين بنت أكابر، قادمة من القاهرة إلى الإسكندرية، كي تقيم مع حبيبة العمر “يسرا”.
أما لماذا غادرت بيت العز في القاهرة، ولماذا أقامت عند غانية، سكيرة، سيئة السمعة، وذلك رغم أنها محامية، وبنت ذوات، فكل هذا لا نجد له إجابة في سيناريو كتبه ثلاثة كبار “مصطفى محرم”، “إيناس” و”الصبان”.

الشرطة في خدمة الغانيات

وعلي كُلٍ، ولصيق المجال، فلن أعرض بالتفصيل لالتقاء الصديقتين أو الحبيبتين بضابط الشرطة “محمود حميدة” في أحد الأقسام.

ولا لوقوعه في حب بنت الأكابر التي ضحت بحبها له من أجل يسرا.

فكان أن عادت إلى بيت العز، حيث تزوجت من رجل أعمال، اصطحبها إلى كندا، حيث عاشت مملولة، إلى أن تخلصت من أسر الزيجة بالطلاق.

وإنما أكتفي بأن أقول بأن “إلهام” لم تعد إلى بيت العز في القاهرة، وإنما إلى بيت الغانية يسرا في الإسكندرية، حيث فوجئت بها زوجة لحميدة في الحلال.

وإذا بها تغضب لذلك غضباً شديداً، وهي التي سبق لها، وأن ضحت بحبها لحميدة من أجل سعادة حبيبة عمرها يسرا.

ولأن كيدهن عظيم تنجح إلهام في إغراء حميدة، حتى يتخذها زوجة وضرة ليسرا الهائجة عمّال علي بطّال.

وهنا ينحدر الفيلم إلى ملهاة رخيصة، عمادها مواقف مفتعلة أشدّ افتعالاً، تدور حول الصراع من أجل فحولة رجل بين امرأتين، ولا أقول، ذئبتين مفترستين.

ويستمر الفيلم في عبثهم العابث، حتى يصلوا بنا، نحن المتفرجين الضحايا، إلى ختام قلّ أن يكون له مثيل في الافتعال.

ولا يبقى لي مع فيلم كهذا سوى أن أقول: إنه به وبما شابهه من أفلام كان حتماً سقوط السينما في بلادنا سقوطاً مدوياً.

سينما اليأس – نساء قاتلات ورجال أموات

ما يلفت النظر فيما عرض من أعمال سينمائية خلال الأشهر الأخيرة من مسيرة الزمان تكفي لتبيان أننا أمام أفلام ظاهرها اليأس كل اليأس من الحاضر ومن المستقبل، ولا ترى في أيهما بارقة أمل.

والعجب كل العجب أنه رغم انعدم التجانس بين صانعيها في الروح والهدف، ورغم الاختلاف بينهم في كل شيء، فإنهم يتفقون في النظر إلى ما يدورحولهم بمنظار أسود متشائم كل التشائم يعتبرون الحياة من حولنا كلها نكر وشر، وبؤس ويأس “فبشير الديك” يرى المجتمع في “الطوفان” أول فيلم من إخراجه- وقد تحول إلى دغل يسيطر عليه المال، فينقلب بالانسان إلى كائن شائه أشبه بالوحوش الكاسرة، بل أشد هولاً.
فالأبناء في فيلمه “فاروق الفيشاوي” و”عبد الرحيم أبو ريه” و”ليلى يسرى” يتآمرون للتخلص من أمهم “أمينة رزق” لا لشئ سوى أنهم لو تركوها تشهد بالحق أمام المحكمة لضاعت عليهم أرض زراعية موروثة، أصبحت بالفساد أرض مبان، ولتبدد حلم الثراء بغير حساب وفي ختام مفجع، ينتهي بهم صاحب “الطوفان” إلى قتل الأم بالسم.
القتل الحلال

وقد يبدو للعين البريئة أن فيلمي “الحكم آخر الجلسة” لصاحبه المخرج “محمد عبدالعزيز” و”عفواً أيها القانون” لصاحبته المخرجة “إيناس الدغيدي” أقل هولاً.
ولكن لو دخلنا في الأعماق، وأمعنا النظر لتبين لنا أن بهما ضروباً وضروباً أشد من الطوفان هولاً.

فكلاهما يتناول مشكله الإنسان في مواجهة القانون، وكلاهما يعرض لها من منطلق حق المرأة في أن تتساوى مع الرجل فيما له، وفيما عليه.

فالمرأة سواء أكانت “أوصاف” (بوسي) الحاصلة علي الدكتوراة في علم الأجنة ووراثة الجنون أو “هدى” (نجلاء فتحي) الأستاذة الجامعية في النفس، وما يصيبها من اضطرابات، المرأة في كلا الفيلمين مهددة في حريتها بقانون لا يرحم.. القانون المكتوب.

وهي دفاعاً عن الذات، إنما تستلهم قانوناً آخر قانون السماء.

. الموت للحياة.   

وللحق فموقف المرأة إزاء القانون الظالم في الفيلمين إنما يذكرنا بـ”أنتيجون” بطلة مسرحية “سوفوكليس”.. تلك البطلة التي تقف وحدها متحدية قانون المدينة.

وهنا قد يكون مفيداً من باب المقارنة أن نسترجع أحداث تلك المسرحية التي اعتبرها كل من “جوته” و”هيجل” أعظم عمل فني كُتِب للناس.

شبّت حروب دموية اقتتل فيها شقيقا “انتيجون” وكلاهما وارث للعرش، وانتهت بإنقاذ طيبة وموت الشقيقين المتناحرين أثناء المعركة.

وبعد ذلك أصدر الملك الجديد “كريون” فرماناً مقتضاه التمييز بين الشقيقين في الدفن، فأحدهما، وهو الذي دافع عن تراب طيبة، يوارى جثمانه الثرى بمراعاة طقوس الدفن بما تنطوي عليه من خشوع وإجلال للأبطال.

أما الآخر، وهو الذي تحالف مع العدو، فقد تركت جثته نهباً لخساس الطير والكلاب تنهشها في العراء.

وهنا تتدخل “انتيجون”.. لماذا؟ لأنها تعتبر أن من الحق عليها نحو شقيقها الميت أن ترتكب جريمة دفن جثته حسب الطقوس إنزالاً لحكم السماء.

وطبعا يلقى القبض عليها، ويصدر “كريون” فرماناً يعاقبها فيه بالإعدام. ويحتج خطيبها “هايمون” محاولاً دون جدوى، تبصير أبيه الملك إلى عاقبة الظالمين.

وبعد فوات الآوان- وتحت تأثير الرائي “تيريسياس” وشيوخ المدينة يتوب “كريون” يُبدي ندمه على فعلته في حق “انتيجون” وشقيقها غير المدفون.

أقول بعد فوات الآوان لأن “انتيجون” كانت قد فارقت الحياة.. و”هايمون”خطيبها كان قد انتحر حزناً عليها.. و”اوريديس” أمه كانت هي الأخرى قد اختارت من بعده الانتحار طريقاً للخلاص.

وها هو ذا “كريون” وحيدا محاصار بالموت أو بمعنى أصح بالحياة لأن انتيجون، وهي تقوم بدفن جثمان شقيقها متحدية القانون الظالم إنما كانت تسعى بذلك إلى إعداد أخيها بعد الموت لحياة أخرى، لأنه بدون دفن فلا بعث ولاحياة.

أما أوصاف وهدى في فيلمي “الحكم آخر الجلسة” و”عفواً أيها القانون” ففاجعتهما ذات طابع آخر مخالف تماماً.
فهما تقاومان الطغيان لا من أجل استمرار الحياة وإنما من أجل حق غريب كل الغرابة، شاذ كل الشذوذ، حقهما في تسليم الحياة للموت بالقتل العمد.

فالأولي تتعمد قتل الجنين في أحشائها خوفاً من أن يكون ملوثاً بجنون موروث عن زوجها “نور الشريف” لا أمل في علاج منه أو شفاء.

والثانية تقتل زوجها “محمود عبد العزيز” بوابل من رصاص، وهوفي الفراش، وأثناء المحاكمة يطلب الدفاع البراءة لها لأنها ضبطت القتيل متلبساً بخيانتها.

وغني عن البيان أنه في كلتا الحالتين ثمة افتعال لمآس تبريراً لقتل الأطفال والرجال.

فإذا ما انتقلنا إلى فيلمي “للحب قصة أخيرة” لصاحبه المخرج رأفت الميهي و”مشوار عمر” لصاحبه المخرج محمد خان لوجدناهما في كل مشهد، بل في كل لقطة يقطران يأساً أو ضياعاً.
جزيرة ورمز 

فأحداث أولهما تجري على ضفاف النيل أمام القاهرة في أرض خراب اسمها جزيرة الوراق، حيث يختلط الريف بالحضر وحيث توجد صناعة طوب بناء في طريقها إلى الزوال.

وبفضل لقطات سريعة يبدأ بها الفيلم تعرف أن بطله “رفعت” (يحيى الفخراني) مدرس إبتدائي وصاحب قلب عليل، يماطل الداء، لا يحسبه رجفة في القلب تزول بالحماية والوقاية، ومع ذلك فهو يعيش ما تبقى له من أيام غير متذمر مقبلاً على الحياة، لا يكبل خوف الموت خياله واستمتاعه.

وإذا كان “رفعت”- ورغم مرض الموت، يرى الحياة جمالاً وسلاماً ومحبة، فزوجته (معإلى زايد) لا تواجه المأساة هكذا بروح متفائلة، إنها تكوى بأوجاع الخوف عليه من هذا الموت القريب الذي يعكر صفو الحياة.

وكذلك حال أمه (تحية كاريوكا) التي يعتصر الألم قلبها لأن ابنها الوحيد قد تزوج بالتحدي لإرادتها.

وفوق هذا لأنه لو جاءه الموت فثروة العائلة من صناعة الطوب- وهي ثروة طائلة- يتهددها الضياع.. لماذا؟

لأن امرأة ابنها عاقر، ولا أمل في أن ترزق بولد يرث أرض الجزيرة ومن عليها.

.عذابات وخزعبلات.   

ولو اقتصر خطر الموت على “رفعت” لهان الأمر، فأغلب الأفلام يتشابك فيها الموت بالحياة دون أن يطغى عليها، ولكن للموت شأناً آخر في فيلم “رأفت الميهي” الأخير، إنه أقوى من الحياة التي تبدو بجواره ظلالاً باهتة.

فطبيب الجزيرة الشاب (عبد العزيز مخيون) يعيش أسير أم عجوز بلغت من الكبر عتياً (95عاماً)، تعاني سكرات الموت منذ سنوات، وهي في غيبوبة لا تعي من أمر نفسها شيئا، حتي إذا ما كتب لها أن تلفظ أنفاسها الأخيرة، رأينا ولدها الطبيب يمارس الجنس مع عاهرة مرتاح البال منشرحاً، يكاد لموتها يطير فرحاً.

و (عبد الحفيظ التطاوي ) وزوجته (روحية جمال) يعيشان على شاطئ الجزيرة الملعونة بالموت والخزعبلات (عودة الشيخ التلآوي) أزمة انقطاع أخبار وحيدهما “سامي”، هو يخفي عنها أنه هارب من الأيام مع مطاريد العدالة في متاهات الجبال، وهي تخفي عنه ما نُشر في الجرائد من أن دمه قد سُفِك، وأن وهدة الموت تفصل بينه وبينهما إلى الأبد.

والخالة “دميانه” هي الأخرى تستسلم للموت فجأة بعد أن غارت قطرات حياتها في مسار الزمان.

وها هو ذا جثمانها محمول في موكب جنائزي حافل مهيب ما عرفت الجزيرة نظيره، منقولاً عبر النيل إلى المقابر شرقي القاهرة الساهرة بعيون لا تنام.

ولعلي لست بعيداً عن الصواب إذا ما قلت أنه ليس لمشهد الموكب الجنائزي هذا مثيل في تاريخ السينما علي أرض مصر، بل هو من ناحية امتداد عرضه زهاء ربع الساعة يكاد يكون وحيداً في نوعه خلال عمر السينما وهو مائة عام إلا قليلاً.

وإذا كنا لا نسمع في ” للحب قصة اخيرة” سوى صوت واحد.. صوت الموت، فإن الصوت الوحيد الذي نسمعه في مشوار “مشوار عمر” هو صوت الضياع.

مونت كارلو .. لماذا؟

وأول مفاجآت هذا الفيلم المأخوذ عن سيناريو مبتكر كتبه الناقد “رءوف توفيق” مع المخرج هو شريط الصوت، فلا موسيقى تصويرية تصاحب المشاهد بضوضاء حمقاء كما المعتاد في معظم الأفلام المتكلمة بلغة الآباء.

فمنذ لحظة ظهور العناوين تحمل أسماء مبدعي مشوار الضياع، ونحن لا نسمع مع متابعة اللقطات سوى صوت راديو مونت كارلو منطلقاً تارة بالأخبار، وتارة بالحوار مع نجوم المجتمع في التافه والجليل، وفي أكثر الأحوال منطلقاً بموسيقى الروك والديسكو حارة صاخبة تشد السامع إلى أسفل سافلين، ولا تعطي الفكر راحة، تتركه مضطرباً، متوتراً.
فعمر “فاروق الفيشاوي” بطل المشوار، وإن كان متخرجاً في كلية الحقوق، إلا أنه شاب مدلل لا يعمل، حياته مدارها اللهو واللعب إنه يمتلك سيارة فارهة إلكترونية اشتراها له أبوه الثري “محمد رضا” تاجر المصوغات بأربعين ألف جنيه فقط لا غير، وهو أسير هذه السيارة اللعبة مسلوب الإرادة إزاء سحرها، لا يعيش إلا بها ولها، لا يتركها إلا ليعود لها.

وطبعا صوت مونت كارلو من لزوم الانحباس فيها.

والمشوار يبدأ به في سيارته يطارح فيها إحدى الفتيات الغرام.. إنه إذن شاب مستهتر، تستبد به إمبراطورية الحواس، يحركه سلطان الغرائز، لا يستطيع أن يفرق بين ما هو صواب، وما هو خطأ، بين ما يجوز فعله وما لا يجوز.

.سكة الضياع.   

وبعد هذه الفاتحة يكلفه أبوه بتسليم كمية من الذهب الثمين إلى أحد التجار في طنطا.

ومن هنا المشوار مع نماذج بشرية، وصور من حياة مضطربة متنافرة بعيدة كل البعد عن الاستقرار.

وأول انحراف عن سكة السيد البدوي يقع عندما يتجه “عمر” بسيارته أو معشوقته إلى مطار القاهرة حيث يستقبل صديقاً عائداً من انجلترا، لم يجن من سنوات الغربة سوى بعض حقائب طويت علي ملابس، وبعض ذكريات لمغامرات مع نساء ساقطات، وقارورة ويسكي هدية “لعمر” صديق العُمْر.

وتتابع الأحداث من خلال لقاءات مع أنماط غريبة أولها شاب ريفي ساذج (أحمد بدير) يريد العودة إلى “بنها” يشير إلى السيارة بالتوقف، يسمح له “عمر” بالركوب إلى جانبه من منطلق التفاخر والإبهار.

ولكنه تخوفاً من جنون السرعة وحرصاً علي حياته سرعان ما يغادر السيارة فزعاً، بعد أن يكون “عمر” قد انعطف بها في سكك زراعية جانبية تهرباً من مطاردة شرطة المرور.

وهنا يبدأ مسلسل من مفاجأت تتحول بالمشوار إلى فيلم آخاذ مثير، يريد أن يقول في الضياع الشيء الكثير.

فها هو عمر نراه، وقد أطلت عليه جاموسة من وراء زجاج نافذة السيارة.

وها نحن نكتشف أنه قد بات الليل بطوله داخلها، وأنه يواجه معضلة كيف يحصل لها علي وقود.

وما أن ينتهي هذا المشهد المدهش الذي أبدع تصويره الفنان الصاعد “طارق التلمساني” حتى يبدأ مشهد مدهش ثان لسيارة لوري تحمل عمال تراحيل، فيستقلها “عمر” إلى أقرب محطة بنزين حيث يلتقي بنقيضه، فلاح ضائع من المعذبين في الأرض يعمل في المحطة، ويحمل بدوره اسم “عمر” (ممدوح عبدالعليم).

.الخسران المبين.

وعلي قارعة الطريق، فيما بين السيارة والمحطة، تجري الوقائع لاهثة حتى ينتهي الأمر بعمر القرية منقذاً لعمر المدينة من جريمة نكراء كان سائق اللوري (أحمد عبد الوارث) قد أوشك على اقترافها.

وبصرف النظر عن التفاصيل الشيقة اللاحقة لمشهد الجاموسة وعمال التراحيل فالفيلم- بعد أن يقبل “عمر” المسكين عرض “عمر” الغني العمل في محل أبيه- ينتقل بهما إلى سكة كلها بشاعة وعبث فقريباً من القرية يلتقطان غانية من بورسعيد “نجاح” (مديحة كامل) ومرة آخري ينحرف “عمر”: يتغلب الحيوان الذي فيه.. ينصاع إلى الجوع الذي في دمه، ينقاد إلى نداء الجسد بجواره يشتري لذة لحظة بندامة عمر.

فعلى نغمات موسيقى مونت كارلو، يعربد العمران والغانية يحتسون خمر قارورة الويسكي حتى الثمالة حتى إذا ما أفاقوا لم يجدوا من متاع الحياة شيئاً، فقد اختفت السيارة، واختفى معها ذهب الأب، وتفرّق الجميع بعضهم لبعض عدو.

ويجئ الختام مناسباً منطلقاً من شريط الصوت. إنه سعر الدولار نسمعه مع “عمر” خبراً مذاعاً من راديو السيارة بعد العثور عليها حطاماً فوق صخرة بارزة من صخور شاطئ البحر الأحمر.

ومع صوت الدولار نرى “عمر” حبيس السيارة وحيداً، ضائعاً عاجزاً، معلقاً لا يدري إلى أين يمضى..

!إعصار العنف في السينما.. الي أين؟

سارت سفينة الحياة به في بحر ساكن لا موج فيه، حتي قارب الستين. هنا فاجأه شيء لم يكن في الحسبان كان خارجاً من السينما بعد الانتهاء من مشاهدة فيلم “الإخوة  موزار” عائداً مع شريكة حياته إلى المنزل سيراً على الأقدام، وإذا به- ودون مقدمات- على الثلج مُلقى يقترب من عالم الأموات، يصبح ماضياً جميلاً لا يبقى منه سوى ذكريات.

من القاتل

فمن هو ذلك الرجل الذي دارت به الأيام دورتها ليجد نفسه وجها لوجه أمام عنف عنيف يعترض سبيله برصاصات وأين ؟.

في بلد هادئ وجد حلاً لبعض مشاكله بالبعد عن الحروب لا يشارك فيها منذ بونابرت وأيامه السود.

إنه أول رئيس وزراء لدولة أوروبية عريقة في الديمقراطية يُغتال- وهو في السلطة- منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، إنه ذلك الرجل الذي انفرد بشخصية متميزة جعلت منه سياسياً شجاعاً لا يهاب بأس واشنطن، لايتردد- وهو رئيس وزراء- في أن يدين العدوان على فييتنام، يصف قصف “هانوى” بالصواريخ والنابالم بالبربرية، يصف استخدام أسلحة الإبادة الكيمائية ضد الشعب الفيتنامي بالنازية.
ولعله ليس صدفة- بعد ذلك- أن يكون آخر ما كتبه بخط يده، قبل أن تجيئه الطعنه القاتلة من حيث لم يكن يتوقع- وهنا ضعفه- هو التوقيع باسمه “أولف بالم” على نداء سلام يدعو إلى وقف التجارب النووية. وليس من شك أن اختفاء رئيس وزراء السويد بهذا الأسلوب الدموي، قد كشف عن حقائق عديدة من بينها ان استمرار بقاء العالم على شفا الهاوية مهدد بالفناء الذري كما يُشّكل تربة خصبة تستنبت فيها كل ضروب العنف وتزدهر، وأن أحداً ليس بمنجاة من العنف يعصف إعصاره بالأخضر واليابس، لا يقف شيء أمام دوامته التي تحمل الموت والدمار.

التكامل

وبعد هذا كله فما علاقة الفن السابع بهذا الإعصار ومنجل الموت الذي يحمله، هل ثمة مغازلة بينهما.. ولماذا؟.

من الملحوظ أن العنف مرتبط بالسينما، موجود فيها منذ وجودها، متصاعد مع صعودها.

فهو إذن ليس بدعاً وافداً عليها.

إن له أصولاً قديمة ترجع الى أيام أن كانت السينما خرساء لا تستطيع الكلام، أي منذ مائة عام إلا قليلاً، وقت أن كان الجمهور يقف مشدوهاً في الأسواق كي يشاهد لقطة لرأس ملكة سكوتلاندا، وهي تُفصل بالمقصلة عن جسدها، فتسقط متدحرجة على الأرض.

وبعد العنف جاء دور الجنس انطلاقاً من قبلة بين رجل وامرأة تظهر على الشاشة البيضاء لأول مرة بفضل جرأة نفر من رواد السينما في مملكة صغيرة أو جزيرة منعزلة اسمها الدنمارك.

وبعجلتي الجنس والعنف تحركت عربة هوليوود لتصل بقيم الفيلم ونجومه إلى أقاصي الأرض، فلا تلبث أن تؤثر بالغ الأثر في التفكير، وفي نهج الحياة الاجتماعية والسياسية.

اللقطة الرصاصة   

وفي الحق فلو أردنا أن نؤرخ للعنف في السينما فلابد أن نبدأ بالفيلم الأمريكي “سرقة القطار الكبرى” (1903) لماذا؟

لأنه أول فيلم عظيم، والمقصود بالعظمة هنا أنه كان أول عمل سينمائي يأسر الوعي، يبقي أثره مترسباً في تلافيف العقل الباطن الأمريكي ودهاليزه.

ولا ريب في أن اللقطة التي ينتهي بها كان لها دور فاصل في أحداث هذا الأمر.

ففيها نرى الشاشة، وقد احتلها شخص ذو ذقن عريض مشقوق، وشنب كث، تغطي رأسه قبعة راعي بقر كبيرة، نبصره يستل غدارته، يصوب فوهتها نحونا، يشد الزناد، فتنطلق رصاصة منها متوجهة إلينا، تصرعنا جميعا بلا استثناء!!
وابتداء من هذه اللقطة الأخيرة المهلكة، أصبح من تراث السينما الأمريكية أن يصوب مخرجوها فوهات البنادق إلى المتفرجين، أن يشدوا الأزندة إثارةً وإبهاراً.

وطبعاً كل هذا كان قبل اكتشاف أرض الميعاد في هوليوود، قبل أن يتحولوا بها إلى كعبة السينما وخير وارث للعنف، تعتبره نعمة لا نقمة، شيئاً مادياً كارتشاف قدح قهوة.

ومن حسنات العنف على السينما الأمريكية- إذا كان له حسنات- أنه جعل منها سينما زاخرة بالتوتر والحرارة، بالعنفوان والحركة.

صوت العالم 

وهذا كان مؤداه النجاح والاكتساح، أن تفرض هوليوود نمطها، بل قل أسلوبها على جميع صانعي الأفلام في العالم مهما اختلفت البيئات والثقافات.

وعلى كُلٍ ففي خضم الأزمة العالمية وما تلاها من انتصار النازية واندلاع الحرب العالمية الثانية، في ذلك الخضم الهائل، المتلاطم بشتى الأهواء والشهوات والنزوات والتيارات، أخذ الجنس والعنف في التصاعد، وأعتاد جمهور السينما على مشاهدة الحب والعنف من القبلات إلى اللكمات كما تصورها هوليوود داخل إطار رقابي انحدر في نفاقه إلى حد حظر ظهور الرجل والمرأة معاً بالكامل في مخدع واحد، حتي ولو كان مخدع الزوجية.

أفعال فاضحة

وظل الحال كذلك حتى اقتراب الخمسينات من النهاية، فتحت تأثير الفيلم الفرنسي، وبخاصة المد الفني الذي أتى بالموجة الجديدة، أخذت الجسور الرقابية في الانهيار.

ولعل فيلم “العشاق” للمخرج الفرنسي “لويس مال” أحد الأعمال السينمائية القليلة التي لعبت دوراً إيجابياً هاماً في تحرير الفن السابع من القيود الرقابية في مجال الجنس.
فقد استطاع صاحبه أن يتغلب على كل العقبات الرقابية وذلك رغم جرأة الموضوع الذي يدور حول حب محرم من خلال مشاهد عارية أخاذة لعاشقين يتبادلان الحب بمصاحبة أنغام إحدى رباعيات “براهمز” تحلق بالمتفرج إلى أقصى سماء.

وبفضل نجاح الفيلم فنياً وتجارياً خرجت من أحضان عاشقيه مشاهد أخرى من الحب لا تُنسى في روائع “لانطونيوني” و”ريتشاردسون” و”برونويل” وغيرهم كثير، وفي نفس الوقت خرجت منها مشاهد جنسية سوقية في أفلام لا عد لها ولا حصر ازدحمت دور العرض بطوفانها المبتذل.

ومع انهيار الكثير من الجسور الرقابية إلى حد أدى إلى الترخيص بعرض أفلام الجنس الفاضح المسماة بالزرقاء، بل وإلى إلغاء الرقابة تماماً على جميع الفنون بما في ذلك السينما، كما هو الحال الآن في مملكة الدنمارك وبعض دول أوروبا وآسيا والأمريكتين، مع هذا الانهيار بدأ اقبال الجمهور على أفلام الجنس في الانحسار.

مرحلة تنتهي

وكان لابد من البحث عن بديل ناجح للجنس. وسرعان ما وجد تجار السينما ضالتهم المنشودة في العنف والتصعيد له.

وهنا قد يكون من المفيد أن أسرد حكاية السينما مع العنف في مرحلة ما بعد انهيار الرقابة، لا من البداية وإنما من النهاية.

منذ عام أو يزيد، وضمن جدران إحدى دور السينما بمدينة نيويورك، صاحت شابة في العتمة غاضبة “يا للبشاعة”.

هذه الصيحة تبعتها صيحات متفرجين آخرين داخل قاعة العرض آثار اشمئزازهم ما يجري أمام بصرهم من مشاهد منبتة الصلة بالذوق السليم.

كان من بين المشاهد محل الاستنكار، منظر مائدة عشاء عامرة بالطيبات، صُفت علىها جماجم محشوة بأمخاخ قردة تتصاعد منها الأبخرة، إناء كبير مليء بحساء يغلي تقفز منه كرات أعين تشع فزعاً، تنين مُزقت أحشاؤه لتخرج منها حيات صغيرة تسعى.

هذا المنظر، مع مناظر أخرى شبيهة في الفظاعة والبشاعة من بينها لقطة لقلب ينبض بالحياة، نراه يُنتزع من صدر إنسان، تكون بعضاً من تسالي قنبلة موسم 84/1985 “أنديانا جونز والمعبد الملعون” لساحر هوليوود وصانع معجزاتها “ستيفن سبيلبرج” صاحب “الفك المفترس” فيلم الرعب الشهير.

الآن، وبعد هذه النهاية المفزعة، فقد آن الاوان للارتداد إلى الوقائع القديمة التي بدأت بها حكاية ما بعد الانهيار.

محرر العبيد   

لعلى لست بعيداً عن الصواب إذا ما قلت أن إشارة البدء بتصعيد العنف هي أفلام “كلنت ايستوود” في مرحلتها الإيطالية وذلك بما أدخلته على أفلام “رعاة البقر” من عنف بدائي ساذج ورخيص.

فنجاح تلك الأفلام وولع الجمهور “بكلنت ايستوود” لوجهه القاسي الحاد التقاطيع نَبّه منتجي السينما إلى أهمية العنف وضرورة الإسراع بتصعيده جلباً لمزيد من الربح.

والأدهى والأدهش أنه في الدعاية لفيلمه الأخير “الفارس الشاحب” (1985)- وهو من إخراجه وتمثيله- أفردت صفحات وصفحات في كبرى المجلات لعقد مقارنات بينه وبين الرئيس “رونالد ريجان” في مدى الشعبية وبينه وبين رئيس آخر “إبراهام لينكولن” في مدى تشابه ملامح الوجهين.

وكعهدنا بكل اتجاه جديد في السينما خرج من العنف المتصاعد تياران:

تيار غير فني سائد يستغل العنف بغير هدف سوى الربح، وآخر فني يتناول العنف درامياً بهدف الدمغ والكشف له.

فارس الاوهام

ومن عجب أن الرقابة وفريقاً من الساسة والنقاد خلط بين التيارين على وجه انتهى إلى تقبل الأفلام غير الفنية التي تسيل دماً طالما أنها تعرض للعنف بخفة واستهتار وكأنه نكته تثار.

وإلى الاعتراض على الأفلام الفنية التي تطرح قضية العنف في المجتمع بجدية تحمل الاتهام له في مختلف صوره وأشكاله.

ففي الوقت الذي ارتاح فيه ضمير بعض الرقباء والساسة والنقاد إلى أفلام صعدت العنف، ولا هدف لها سوى أن تتخذ من ذلك وسيلة للإثارة المدرة للربح كأفلام “الطيب والشرير والقبيح” و”الفجر الأحمر” و”رامبو” هذا الفيلم الذي يمجد العنف وسفك الدماء بلا حساب، والذي أشاد به “ريجان”، عند استقباله لرهائن الطائرة الأمريكية المختطفة في بيروت، قائلاً “لقد شاهدت فيلم (رامبو) وأصبحت أعرف كيف أتصرف في المرات القادمة”.
في هذا الوقت بالذات أستيقظ الضمير فجأة ضد روائع “كالقطيع المتوحش” لسام بيكينباه و”أندريه روبليف” لأندريه تاركوفسكي لما فيها من عنف جامح لم تألفه عين، وضعت به بعض المشاهد بغرض إحداث تأثير درامي يجنح بالمتفرج إلى استنكار العنف والإيمان بعدم جدواه وسيلة للحياة.

صدمة عنيفة

ومما زاد من حدة هذا الاضطراب في الحكم الرقابي، وهذا الاهتزاز في الميزان النقدي هجمة لمجموعة من الأفلام ذات المستوى الفني الرفيع، ومع ذلك فيها من العنف الشيء الكثير.

وعند فيلمين من هذه المجموعة أقف قليلاً:

أولهما “كلاب قش” لصاحبه “سام بيكنباه” وبطله “داستن هوفمان” الذي يمثل دور أستاذ رياضيات أمريكي وديع، آثر الإقامة مع زوجته الانجليزية “سوزان جورج” في قريتها الهادئة على ساحل “كورنوول” بانجلترا بعيداً عن فوضى العنف بالولايات المتحدة، آملاً في أن يتفرغ للبحث العلمي عاماً كاملاً، غير أنه غاب عنه أن العنف لا فكاك منه في عالم يسوده العنف.

ففي هذه القرية التي تبدو هادئة رجال يطمعون في زوجته، ويدفعهم هذا الهوى الطائش إلى الاغتصاب والتعرض لحق الأستاذ في أن يكون سيداً في بيته.
وفي لحظة استفزاز، وبعد أن فاض إناء الصبر، يقول الأستاذ “هذا بيتي.. ولن أسمح بارتكاب العنف ضد بيتي” وتنشب المعركة بينه وبين عصابة المشاغبين المهاجمين لتنتهي بأفرادها جميعاً مقتولين.

أما الفيلم الثاني وهو”البرتقالة الآلية” فمن إخراج “ستانلي كوبريك” صاحب “لوليتا” و”سبارتاكوس” و”أوديسة الفضاء” و”باري ليندون”.

وفيه يتناول من خلال رؤياه الساخرة القاتمة مشاكل مجتمع المستقبل القريب.

القطعان والطوفان

ووفقاً لهذه الرؤية تتنازع شوارع لندن قطعان من الفتيان تائهة في اللذة، يتحكم فيها هوى الخروج على القانون بالاغتصاب والسرقة والقتل وما إلى ذلك من ألوان الانحراف.
أما السلطة ففي يد حكومة فاسدة يستبد بها وزير داخلية يحاول بوسائل التكنولوجيا الحديثة أن يروض زعماء هؤلاء الفتيان.. أن يجعل منهم آلات طيعة مجندة لتحقيق أطماعه السياسية.

فإذا ما انتقلنا إلى المعارضة وجدناها متمثلة في صحفي مضلل يتشدق بألفاظ جوفاء عن الحرية، يصف الشعب بهذه العبارة “الشعب قطيع يُساق.. يُقاد.. يُدفع”

ومن مهازل القدر أن يلقى عرض هذين الفيلمين من الجمهور والرقابة التأييد كل التأييد، في حين لا يلقى الفيلم الأول من النقاد سوى الاعتراض ولا يلقى الفيلم الثاني من وزير داخلية انجلترا سوى الامتعاض.

صحوة رقابة

فالجمهور أقبل على مشاعدة رائعتي “بكنباه” و”كوبريك” مستمتعاً بداستن هوفمان وهو يقتل المعتدين على كوخه دفاعاً عن شرفه، معبراً عن اغتباطه بنجاح الأستاذ في إبادة القطيع المهاجم بالصياح “حسناً فعلت”، مندمجاً مع “ملكولم ماكدوول” بطل “البرتقالة الآلية” حين يتغلب على غسيل المخ ويعود سيرته الأولى متمرداً مغتنماً اللذات.

ومدير هيئة الرقابة على السينما في انجلترا يدافع عن قرار إباحة عرض “كلاب قش” قائلاً لمراسلة “السنداي تايمز” لقد شاهدت الفيلم ثلاث مرات.. وما أزال انتفض من تأثيره حتى الآن.. إنه يقول شيئاً ما بأمانة.. ونحن لم نشعر أن العنف في الفيلم جاء اعتباطاً وبلا مسوغ.. ربما يحمل النقاد له كراهية شديدة، ولكني لا أظن أن أحداً منهم عاب في إخراجه أو قال عنه أنه غير رائع.

يُقال لنا دائماً أن الحرب والعنف وسيلتان لفض المنازعات.. ولكنك لا يمكن أن تشاهدي هذا الفيلم ثم تخرجي من السينما وأنت مؤمنة بأن العنف يصلح وسيلة لحل أية مشكلة.

إن الرقابة لا يجب أن تحول بين الناس وبين مشاهدة كل ما هو عاجل وهام حتى ولو نجم عن ذلك بعض معاناة”.

غباء وغضب

أما النقاد فأرسلوا خطاباً غاضباً إلى جريدة “التايمز” هاجموا فيه “كلاب قش”، عابوا على الرقيب “ستيفن مورفي” تناقض أحكامه الرقابية وتضاربها وضربوا مثلاً على ذلك بقرار منع عرض فيلم “عفاشة” لصاحبه “أندريه وارهول” الذى يعرض فيه لمأساة تعاطي المخدرات.

ولقد انعكست سورة الغضب هذه على “ديليز باول” حين كتبت مقالتها الأسبوعية في “السنداي تايمز” لتقول وهي جزعة “لأول مرة في حياتي أجدني أحس بالقلق على مستقبل السينما”.

والظاهر ان اهتمام وزير الداخلية بالعنف في السينما اقتصر على “البرتقالة الآلية”.
فلأول مرة في تاريخ انجلترا يتوجه الوزير بنفسه لمشاهدة فيلم سبق وأن أجازته الرقابة ليتأكد مما إذا كان عرضه يتهدد القانون والنظام العام.

وأغلب الظن أن ما حدا به إلى إعادة مراقبة الفيلم خروجاً على التقاليد هو انطواؤه على سخرية مريرة بدولة الغد العصرية ذات الطبيعة البوليسية. وكشف لوسائلها الفاشية في القضاء على ملكة الذكاء، وإحالة المواطن إلى لاعق حذاء.

ومهما يكن من أمر هذه الأزمة التي فجرها تصعيد العنف في الأفلام. فإن أزمة السينما المعاصرة إنما ترجع في جوهرها إلى أسباب أكثر عمقاً واتساعاً.

ومن بين هذه الأسباب تحكم الغرباء في السينما على وجه يضطر معه صانعو الأفلام إلى البحث عن وسائل للإثارة حتى ولو أدى الأمر إلى التضحية بالفن السابع وبحرية التعبير من خلاله.

وارتفاع المستوى الثقافي لجمهور السينما- على عكس جمهور التليفزيون- الأمر الذي أثار التساؤل حول مصير الرقابة هل استمرارها لازم أم أختفاؤها هو اللازم.

فمن المعروف أن الرقابة تقوم أساساً على فكرة مضمونها وصاية من يعرفون “الرقباء” على من لا يعرفون “الجمهور”، وهي وصاية تستهدف حماية الجمهور من مخاطر مشاهدة ما قد يضره، وذلك بافتراض أن الرقباء لا يتأثرون بما يشاهدون مهما كانت درجة خطورته لأنهم محصنون ضد جرثومة الإفساد.

وأن الجمهور ضعيف وبالتالي لا يمكن أن تمنح له حرية مشاهدة كل ما شاهده الرقباء، لأن مثل هذه الحرية المسرفة في الثقة به، لابد وأن تؤدي إلى انحرافه على وجه ضار بالصالح العام.

وغني عن البيان أن هذا المنطق المتعالي لا حُجّة فيه، آية ذلك الاتجاه العام- رغم خطر العنف المتزايد في الأفلام- إلى إلغاء الرقابة على السينما بالنسبة للكبار أو تخفيف أحكامها في كثير من الدول التي للرأي العام فيها وزن واحترام يسمح للمواطن باسترداد كل أو بعض حرياته السليبة في مجال الاستمتاع بالفن السابع إبداعاً وتلقياً بلا رقيب أو حسيب.