المهرجان الحائر بين الفوضي والاستقرار

عجيب أمر مهرجان القاهرة السينمائي فله من العمر سنين طوال. ومع ذلك فثمه لعنة تطارده كل سنة.. لعنة أن يكون أو لا يكون.

فدائماً، ومع اقتراب الموعد المحدد لاقامته يثير غير المستفيدين منه حملة شعواء ضده، تشكك في جدواه، تقيم أمامه العراقيل تفتعل أسباباً لإلغائه لو اقتنع بها حماة المصلحة العامة لانتهت بهم إلي إراحة بالهم بالتضحية به خلاصاً من مسئولية لا تحمل لصاحبها إلا كل همّ وغمّ.

وأسباب التي افتعلها دعاة الإلغاء تنحصر فى:

أولاً: أن فكرة المهرجانات لا تتناسب مع نداءات التقشف وشد الأحزمة سداداً للديون.

ثانياً: أن المهرجان بهرجة لا تليق مع ما نحن فيه من حزن على من مات ومن سيموت فيما هو آتٍ من الأيام.

فلما أسقط فى يدهم، وبدا أن المهرجان على وشك أن يُقام، أطلقوا وابلاً من الشائعات حول طبيعة الأفلام لعل أهمها الزعم بأن “طريق إلى الهند” فيلم الافتتاح مُعادٍ للإسلام، و”شاهد” الذي اشتركت به هوليوود- بعد مقاطعة للمهرجان دامت سنوات- فيلم يمجد شعب الله المختار.
ولولا هاتين الشائعتين لكان معظم الكلام عن الروائع السينمائية التي عرضت خلال المهرجان- وما أكثرها- وأذكر منها علي سبيل المثال لا الحصر:

1ـ “الروح.. السيمفونية الخيالية” “لتيتوس ليبر”- نمساوي-.

2ـ “المرآة والغريب” لرينو سيمون- ألمانيا الديمقراطية-.

3ـ “ويزربي” لدافيد هير- إنجيزي- وكلاهما حاصل علي الجائزة الأولي لمهرجان برلين “1985”.

4ـ “أحلام المدينة” لمحمد ملص “سوري” وحاصل على الجائزة الأولي لمهرجاني قرطاج وفالنسيا “1984”.

5ـ “تعالى وانظر” “لكليموف”- “سوفييتي” وحاصل على الجائزة الأولي لمهرجان موسكو “1985”.

6ـ “برلين علي الشاطئ” لايريك رومير “فرنسي”.

7ـ “بلاد يحلم فيها النمل الأخضر” لفيرنر هرتزوج “ألمانيا الاتحادية”.

8ـ “البرازيل ” لتيرى جيليام “انجليزى”.

9ـ “الدواء” لشريف جونن وحاصل على الجائزة الأولى لمهرجان دمشق 1985.

10ـ “يرما” عن مسرحية الشاعر الأسباني “جارسيا لوركا”- مجري ـ.

11ـ “المرأة” للمخرج التركي “ايردن كيرال” “ألمانيا الاتحادية”.

الاستثناء.. لماذا؟

وعند الفليم الأخير، وقبل الكلام عن الفيلمين المتهمين- أتوقف قليلاً.. لماذا؟

لأنه ينتسب إلى سينما بلد محسوب ضمن بلدان العالم الثالث المتخلف. ولأنه يُعتبر، ورغم فقر الامكانيات واحداً من أجمل الأفلام التي ازدان بها المهرجان وأخيراً لأنه لو كانت الرياح تجري بما تشتهي السفن لوقع الاختيار عليه دون “طريق الي الهند” ليكون فيلم الافتتاح.

والمرآة فيلم يتميز بأسلوب يذكرنا بعباقرة السينما العالمية أمثال “ميزو جوش” الياباني و”روبرت بريسون” الفرنسي و”بيير باولو بازوليني” الإيطالي، مع قدرة على الاحتفاظ بأصالة تستطيع أن تستخرج من الأشياء العادية أشعاراً وأقماراً.

وفكرة المرآة بسيطة كل البساطة.. أبطالها ثلاثة: فلاحة “زيليهان” وفلاح زوجها وفارس “الاغا الصغير” الذي هو في حبها ولهان.

والفيلم يبدأ بلقطة مكبرة لورقة مالية تسقط فى الحقل حتى تراها عينا “زيليهان” التي ترفض الإغراء.

يلقي الاغا الممشوق القوام بباقة من الزهور في دلو مليء بالماء تحمله “زيليهان” التي تفرغه من كل ما فيه دون أن تطرح الفارس التحية.

يقترب الاغا حذراً ومعه مرآة صغيرة من زيليهان إلى أن تبصر وجهها ثم وجهه فيها. وعندما تشكو “زيليهان” أفاعيل الفارس إلى زوجها تبدأ المأساة.

فبقوة جذب هائلة وليدة ليل طويل من الهوان يأمر الفلاح زيليهان، بأن تقبل الهدية وتطرح التحية. فإذا ماعاد إلى الكوخ ووجد ورقة مالية تأكد أن الاغا طامع في زوجته، فقرّ قراره على إعداد كمين له ينهي به دهراً من الحرمان.

الموت والتحول

ومع قتل الاغا ودفن جثته في الكوخ ثم سفر الزوج القاتل إلى المدينة في محاولة منه لإخفاء معالم الجريمة، تنعطف الحكاية انعطافاً شديداً.

فها هي”زيليهان” وحيدة، خائفة، حزينة مع جثة في مملكة الموت.

وعندما يعود الزوج ترفضه، تنشغل عنه بطيف القتيل العاشق الذى تبصره في كل مكان، تبصره في الوديان فارساً ملء الأرض والفضاء ممتطياً آلامه، حاملاً في كفيه مرآة كبيرة تتوحد معه فيها في لقطة نادرة ساحرة.

وتزداد هوة الصمت بين الزوجين اتساعاً، تملأ القاتل خوفاً يمتد في كل الجهات، ينحسر بالإنسان الذي فيه. كل ذلك بأقل القليل من الكلمات، بلا موسيقى تصويرية في أغلب المشاهد اكتفاء بالمؤثرات الصوتية، تاكيداً للغة سينما راقية تصعد بالإنسان ليبصر.

والآن إلى الفيلمين المشبوهين..

“طريق أو ممر إلى الهند” أجمل قصة أبدعها خيال الأديب الإنجليزي “فورستر”. وعن حكايته معها يقول صاحب الفيلم “دافيد لين” “جزء من كيان صانع الفيلم هو سعياً بحثاً عن قصة يقع فى حبها”.

رحلة عذاب

ولقد حدث اللقاء السعيد مع “طريق إلى الهند” التي تعلق بحبها، عندما وقع بصره علي شخصياتها تتحرك على المسرح بفضل “سانتا راما راو” الذي حول القصة الي عمل مسرحي.

حاول أن يشتري حق التحول بها إلى فيلم، ولكن عبثاً، فمؤلفها عبس وأبى لا لسبب سوى أنه كان لا يثق فى السينما، متخوفاً مما قد تُلحقه بقصته من تشويه يفقدها تماسكها القائم علي توازن حساس دقيق في رسم حدود العلاقة بين الإنجليز والهنود وما يحيط بها من مآخذ بسبب التسلط والاحتلال.

ولم يلبث أن ودَّع “فورستر” الحياة ومضت أعوام والحلم لا يتحقق منه شيء إلى أن اتصل المنتج “جون برابورن” قريباً من نهاية سنة 1981 بالمخرج الكبير المعتزل الإخراج منذ فشل فيلمه “ابنه ريان”- 1970- طالباً إليه أن يصنع فيلماً من قصة “فورستر”.

ولم يكد يتم الاتفاق حتي كتب “لين” السيناريو، اختار لورد “ستودن” مصوراً للفيلم، يمم شطر أرض الغرائب والعجائب بحثاً عن موقع لالتقاط المناظر، وعن ممثل هندي “فيكتور بانرجي” يتقمص شخصيه الدكتور “أحمد عزيز” تلك الشخصية التي أراد “فورستر” لها أن تكون محوراً لقصته، تبدأ بها وصاحبها حائر متردد، فاقد للكيان الموحد.

فإذا ما عبر إلى بر الأمان متغلباً على محنة الاتهام له بالشروع فى الاغتصاب، انتهى الأمر به متجاوزاً التجربة، مسترداً الثقة بالنفس والاعتبار صائحاً في أنفة وكبرياء صائحاً قريباً من نهاية الفيلم “أخيراً أنا هندي”.

الإمبراطورية صدى

والظاهر أن تخوف “فورستر” على مصير درّته فى السينما كان له ما يبرره. فـ”لين” مال إلى شخصية الآنسة “اديلا كويستد” “جودي دافيز”.

بدأ الفيلم بها وهي فى انجلترا تحجز تذكرتي سفر إلى الهند ثم بها مع السيدة “مور بيجي اشكروفت” أم خطيبها، وهما معاً في القطار المتجه إلى “شاندرابور” حيث يشغل الخطيب منصب رئيس محكمة. إنها فتاة في حيرة من أمرها، ساقها الفضول إلى بلاد تركب الأفيال، هيأ لها التردد أن بالإمكان اكتشاف الهند الحقيقية.

فإذا ما دخلت أحد كهوف”مارابار” في محاولة منها للغوص في الأعماق، اضمحلت الهند التي سعت إلى اكتشافها حتي غدت لا شيء.. مجرد صدى يتردد يذهب أثر كل نداء.
كيد النساء

وهنا قد يكون من المناسب التساؤل: لماذا مال “لين” إلى العنصر النسائي، لماذا جعل من “اديلا”  محوراً للفيلم بدلاً من الدكتور”عزيز”؟

“في آخر حوار أجرته معه مجلة “بريمير” الفرنسية أبريل 1985 حول فيلمه قال: “في انجلترا دائماً ما نردد الاتهام بأن الإمبراطورية قد فقدت بسبب النساء”.

وفي اعتقادي أن هذا الاتهام لا يجافيه الصواب، فالرجال الذين بعثت انجلترا بهم إلى الهند قاموا بأداء ما كُلّفوا به من واجبات. وهذا الأداء كان في بعض الأحيان رائعاً وفي أحيان أخرى بشعاً.

أما النساء فموقفهن بشكل عام كان محل استهجان، كان مثيراً للاشمئزاز.

و”فورستر” في كتابه قد وجَّه الاتهام إلى جميع البريطانيين الرجال منهم والنساء علي حد سواء. ولكني آثرت التفرقة واضعاً التعبيرات الأكثر بلاهة علي لسان النساء”.

حساسية الانحياز

واضح إذن أن “لين” قد انحاز الى جانب رجال الإمبراطورية الذين خدموا في “جوهرة التاج” ميزهم بالفعل والقول علي الجنس اللطيف”.

ومن هنا فقدان الفيلم للتوازن الحميد، فالرجال رسمت شخصياتهم على وجه أوشكت أن تختفي معه رذائل التدخل والاحتلال وعيوب العنصرية والتعال.

وهذا التجميل لغزاة الشمال كان لابد وأن يصاحبه انحدار في رسم شخصية الرجال الهنود.

فعلى سبيل المثال شخصية الأستاذ “جود بول” “اليك جينيس”- وهي هندوسية براهمية- تناولها “لين” بسطحية كادت تصل بها الي حافه الكاريكاتورية المقيتة.

سحر الأبهة

ومهما يكن من أمر هذه المآخذ، فالقدر المتيقن أن الفيلم أخذ ينساب من خلال لقطات أجاد “لين” توليفها فأشّعت سحراً على مدى ثلاث ساعات إلا قليلا.

ومع ذلك فلا ملل أو سأم يُصاب به المشاهد ولو لثوان.

وهو يبدأ بمدينة بومباي في العشرينات. فرقة تعزف موسيقى عسكرية، فرسان يمتطون جياداً مطهمة، حشود من البشر علي امتداد البصر، نائب الملك وحاكم الهند مع قرينته عائدين من انجلترا.

هاهما يمران تحت بوابة ضخمة تملأ الشاشة فإذا بهما يتضاءلان، يتحولان إلى رمز لا غير، لأبهة إمبراطورية غابرة، يذوبان في شبه القارة التي تبدو وكأنها لا أول لها ولا انتهاء.

الهائمون

وفجاة ينتقل بنا صاحب الفليم الي ليل وقطار يتلوى كالثعبان بين الوديان تستقله انجليزيتان أكثر تواضعاً “اديلا” والسيدة “مور” في طريقهما إلى “شاندرا بور”.

وها هو القطار يظهر وكأنه لعبة صغيرة تائهة تحت أقدام أرض الهند، تطل علينا بمعابدها وقصورها فنحس دواراً يأخذنا أخذاً شديداً.

وكيف لا.. وأمامنا تتلاحق أطياف ثقافات وأديان وتاريخ عجيب يشبه المعجزة لا يملك الغرباء له تفسيراً أو تأويلاً.
وفي صباح يوم، وبعد أسابيع من الاستقرار في ساندرا بور عثرت أديلا علي مغامراتها، التقت أو ظنت أنها التقت بالواقع الهندي، ألقت عليه نظرة قصيرة ولكن مريرة.. كيف ؟

تعرفت علي الدكتور”عزيز”- وهو طبيب أرمل وأب لثلاثة أطفال- تعرفت عليه بفضل المدرس “ريتشارد فيلدنج” “جيمس فوكس” أنبل أفراد الجالية البريطانية في “شاندرا بور” وأكثرهم تبرماً بكل ما حوله، لا يروقه من سلوك مواطنيه العجرفة واحتقار الهنود.

واحتفالا بها رتّب الدكتور لها هي والسيدة “مور” رحلة مكلفة علي حسابه إلى كهوف” مارابار” الواقعة فى التلال القريبة من شاندرا بور.

وها هما معاً علي ظهر فيل مهول.

ومع ذلك فهذا الحيوان الضخم القديم قدم الدهر وطابور الخدم والحشم الذى من خلفه يسير، هذا كله تقلصت به الصخور الوحشية المطلة من التلال المحيطة بطريق القافلة، فإذا به يضيع فيما حوله، وإذا به كأن لم يكن شيئا.

وفي فوضى الكهوف وحشود الزوار ضلّت “اديلا” الطريق، وجدت نفسها فى كهف يحيط بها الظلام ولا تسمع سوى لسان الصدى.

اندفعت إلى الخارج فزعة، عادت إلى شاندرابور حيث نسبت إلى الدكتور” عزيز” تهمة الشروع في الاغتصاب. وطبعاً أسرع ضابط الأمن البريطاني فألقى القبض علي الدكتور المتهم وزجّ به في مهاوى السجون لا يخرج منها حتي يوم الحساب أمام القضاء.

انقسمت شاندرابور إلى فئتين متخاصمتين.. أقلية أجنبية تقف وراء “اديلا” دفاعاً عن الشرف الانجليزى المُهان وأغلبية أهل البلد تساند الدكتور المسجون إيماناً منها بأنه برئ مما يصفون.
القول الفصل 

وقبل بدء المحاكمة بقليل غادرت السيدة “مور” الهند وقد فقدت إيمانها بابنها وخطيبته، غادرتها دون أن تعرف عن جوهرة التاج شيئاً.

وفي الطريق إلى عدن فارقت الحياة، دُفن جسدها في مياة المحيط حيث ألقى مجهول باقة من ورود.

ويوم المحاكمة المشهود، وأثناء الجلسة الأولى والأخيرة حدث أمر لم يكن في الحسبان.

نطقت”اديلا” بالحق، اعترفت بأن الدكتور لم يقتف أثرها في الكهف وسحبت الاتهام.

بعد هذه الجلسة الفريدة، وبعد أن ثبت أن الدكتور مسلم برئ لم تمكث “اديلا” في  شاندرابور إلا أيام ثم غادرت شبه القارة منبوذة من الانجليز، ملعونه من الهنود غادرتها وليس في ذاكراتها من جوهرة التاج سوى صدى يلقي الرعب في القلوب.

الفردوس المفقود

والفيلم الآخر المتهم “شاهد” تدور معظم أحداثه في ريف ولاية بنسلفانيا بالولايات المتحدة حيث يوجد قوم بيض يعيشون كما كان يعيش أجدادهم في سويسرا وأجزاء من ألمانيا منذ حوالي مائتي سنة، أي بدون راديو أو تليفون، سينما أو تليفزيون ولا يستعملون داخل مملكتهم الصغيرة السيارات أو القاطرات أو الطائرات.
بأختصار يمارسون الحياة، وكأن ساعة الزمن قد توقفت عند بداية القرن الثامن عشر، يمارسونها متحررين من رق الأشياء التي ابتدعها خيال انسان القرنين التاسع عشر والعشرين، وذلك لأنهم أصحاب ملة تؤمن بفلاحة الأرض وقدسية العمل اليدوي، تعتقد في جمال البساطة وسحر البراءة، ترى الخير كل الخير في الطيبة والحب ومسالمة الغير.

وعلى كُلٍ، فما علاقة هذه الجماعة واسمها “الأميش” التي تعيش في الماضي بالسينما؟

من المعروف عن مخرج الفيلم “بيتر فير”- وهو استرالي- أنه مولع بتناول موضوعات تعرض لشخصيات يتنازعها عالمان، و”جون يوك” “هاريسون فورد” في “شاهد” نراه مضطراً للذهاب إلى عالم “الأميش” هرباً من أيام سود، بحثاً عن مأوى يلوذ به من رفاق سوء خشية جبروتهم، ومخافة بأسهم.

حتى إذا ما استقر به المقام وشعر بالأمن والأمان أحسّ بأن ثمة أسلوباً آخر للمعيشة والحياة لم يعهده من قبل، فنراه، وقد أصبح ممزقاً بين دنياه ودنيا “الأميش” التي تبدو معلقة في الزمن، ثابتة بلا حراك.

العزاء للجميع  

والفيلم لا يبدأ به في فيلادلفيا حيث يعمل شرطياً، إنه يبدأ بلقطات رعوية في ربوع ريف أخضر لجمع من طائفة “الأميش” مرتد السواد حداداً علي”يعقوب لاب”، في وداعه حتى مثواه الأخير.

وها هي أمراة المتوفي “راشيل” “كيللي ماكجيليس” تتقبل العزاء في الفقيد العزيز مع ولدها الوحيد “صاموئيل” “لوكاس هامس” البالغ من العمر ثماينة أعوام والأب “ايلي” “بان روبيس” بلحيته الوقور.
ومن خلال هذه اللقطات الأولي بما فيها من عربات عتيقة تجرها جياد خشنة وأردية وعادات وتقاليد عفا عليها الزمن، يذهب بنا الظن أن أحداث الفيلم مستوحاة من عصور موغلة في التاريخ البعيد.

أما كيف ومتي نكتشف حقيقة تلك الأحداث، وأنها قريبة وليست موغلة في القدم، فهذا ما يحكيه “شاهد” بطريقة جذابة خلابة.

المصير المجهول

بعد مدة من رحيل زوجها إلى دارالموتى، أسودت الدنيا في قلبها وعينيها، حاولت الخلاص من قسوة وحدتها، قررت أن تشد الرحال مع صغيرها إلى “بالتيمور” حيث تقيم شقيقتها.

وها هي الآن مع الصغير داخل محطة في انتظار القطار السريع المتجه الي فيلادلفيا.

أذن نحن لسنا في زمن قديم، نحن في قرن غزو الفضاء.

وبينما هي في محطة فيلادلفيا تنتظر قطار “بالتيمور” المتأخر ثلاث ساعات عن الميعاد كان الصغير يلهو ويلعب مشدوهاً بالسلالم المتحركة، بالتليفونات ألاوتوماتيكية وما إلى ذلك من أعاجيب وألاعيب ليس لها في دنيا “الأميش” مثيل.

طبعاً، وهو هكذا منبهر، لم يكن ليتصور أنه مقبل خلال ثوان، علي أمر خطير به تتغير حياته هو وأمه الثكلى من حال الي حال.
جرائم شرطة

فقد ذهب إلى دورة مياه الرجال حيث رأي منظراً لن ينساه ما دام حياً.

رأى فيما رأى رجلاً أسود يذبح رجلاً أبيضاً ذبح الشاه.

ولا يكاد يخرج مذهولاً من مخبئه ويلقي نظرة مذعورة علي جثة القتيل التي انطفأ من عينيها نور الحياة، حتى يتأكد أن صاحبها قد أسلم الروح.

وهنا، وبطبيعة الحال، يتدخل ضابط الشرطة الرائد “يوك” إنه يحتاج للصغير باعتباره الشاهد الوحيد.
وتتوالى الأحداث سريعة نشاهد من خلالها صراعاً دموياً بين نقيضين عجيبين.. بين البراءة في أروع مظاهرها والوحشية في أبشع صورها.

ففي رحلة البحث يكتشف الرائد بفضل الشاهد الصغير أن القاتل واحد من الرفاق حماة القوانين.

وفوق هذا يكتشف- بعد أن أصابه طلق ناري بجرح خطير- أن رئيس الشرطة في المدينة هو العقل المدبر لجريمة محطة السكة الحديدية، والسبب أحراز كوكايين تقدر قيمتها بالملايين.

وتمضي اللقطات كالطلقات، فها هي الأرملة الملتاعة يحيط الشر بها وبصغيرها يطاردهما في غير رحمة، يستبد بهما في غير عطف.. فما العمل؟

لم يضع”يوك” الفرصة، رأى من الحق عليه أن يعود بالأرملة والصغير من حيث جاءا حماية لهما، انطلق بهما في سيارته إلى أكناف السهل والجبل حيث فردوسهما المفقود.

وبحكم أن الفيلم أمريكي وبطله “فورد” فارس “انديانا جونز” ومسلسلها الذي لا ينتهي، فقد كان لابد أن نراه في الختام وقد هزم الأشرار وحده، نراه وقد خرج من الفردوس منتصراً وحيداً.

لا علينا من هذه النهاية، ولننظر إلى جماعة “الأميش” وقد قال عنها مطلقو الشائعات إنها من جنس اليهود.
فما هو نصيب هذه الشائعة من الصحة؟

بالرجوع إلى الموسوعة البريطانية تبين أن “الأميش” جماعة تنحدر من طائفة مسيحية اسمها المينونية نسبة إلى الأب”مينو سيمونس” “1496 ـ 1561” وهو من المحتجين علي كنيسة روما.

ومهما يكن من الأمر فلا ذكر لليهود، ولا إسرائيل في “شاهد” اللهم لقطة خاطفة لمسافر ملتح في محطة فيلادلفيا ممسك بجريدة “الجيروساليم بوست” فهل تكفي دليلاً على الاتهام؟

عار الكيف مرة أخري

“الكيف” للمخرج “علي عبد الخالق” و”الوجه المدمر” للمخرج الأمريكي “بريان دي بالما” فرسا رهان، الاثنان يعرضان في وقت واحد وسط القاهرة، بل في شارع واحد “ميامي وأوديون” والاقبال عليهما منقطع النظير.
والاثنان يعرضان للمخدرات وسمومها من خلال مشاهد غير مألوفة لشم الكوكايين والحقن بالهيرويين لتثير الفزع في النفوس والرعب في القلوب.

والاثنان لكاتبي السيناريو “محمود أبو زيد” و”أوليفر ستون”، وكلاهما له خبرة واسعة في دنيا المكيفات وغرائبها.

فالأخير صاحب سيناريو “قطار منتصف الليل السريع”.. وهو فيلم مداره عالم مهربي الكيف بالشم وخلافه وجرائمهم التي لا تنتهي.

أما “محمود أبو زيد” فقد سبق له وأن أبدع سيناريو “العار” ذلك الفيلم الزاخر بالاسقاطات علي أخلاقيات الفئات المتوسطة القائمة علي محاولة الإثراء بأية وسيلة حتى لو وصل الأمر إلى حد الإتجار بالمخدرات، والتعرض لما تجلبه، في نهاية المطاف ، من عار ودمار ما بعده دمار.

أرواح ميتة

وفي “الكيف” كما في “العار” بطلا الفيلم من الفئات الدنيا المنحدرة من الطبقة المتوسطة.

إنهما “جمال” محمود عبد العزيز و”صلاح” “يحيي الفخراني”.

والفيلم يبدأ بأولهما مقبوضاً عليه مع أفراد فرقة موسيقية إثر خناقة مع أصحاب أحد الأفراح وبفضل لقطات سريعة نكتشف أنه شاب فاسد مستهتر، يعيش وحيداً لا يهمه من متاع الحياة الدنيا سوى الجنس والمخدر، فشل في كلية الحقوق فلم يكمل الدراسة، ولا أمل في أن يسترد الوعي ويتحرر.

وعلي العكس من ذلك شقيقه “صلاح”، فهو رب أسرة صالح ناجح، متخرج في كلية العلوم، يعمل كيمائياً في إحدى شركات القطاع العام، يعيش مع زوجته “رجاء” “نورا” وابنه “كوكي” “كريم أبو زيد” عيشة تبدو مستقرة هانئة، هادئة، ولكنه الهدوء الذي يسبق العاصفة.. كيف؟
السقوط.. لماذا؟

فدخله من عمله الشريف قليل وأعباء الحياة ومتطلباتها كثيرة، فهو مثلاً، ورغم علو مركزه، غير قادر على توفير المال اللازم لالحاق ابنه الوحيد بإحدى المدارس.

وفي سبيل الخروج من هذا المأزق الصغير، يقتنع بمنطق شقيقه الفاسد، فيوافق على صنع كمية من تركيبة كيميائية شبيهه بالحشيش لوناً ورائحة ومذاقاً بغرض الإتجار.

ومع هذه السقطة الأولى يبدأ مسلسل مرعب من الانحدار ينتهي بالأسرة كما في العار إلى نهاية فاجعة.

فها هو ذا “صلاح”– بعد أن أمر “البهظ” “جميل راتب” كبير تجار المخدرات بحقنه بالهيروين لإجباره على الاستمرار في صنع تلك التركيبة.. ها هو يتحول إلى مدمن فاقد الوعي اختصرت إنسانيته حتى أصبحت أصغر من حبة خردل.

شطحات وخيالات

والكيف يعرض للانهيار من خلال أحداث تجري في خطين متوازيين.. خط الكيف ولوازمه من ناحية، وخط الأغنية الهابطة ومشتقاتها من ناحية ثانية.

والخط الأول ليس فيه جديد سوى فكرة التركيبة الكيمائية الشبيهه بالحشيش يتعاطاها المدمن فترتفع به إلى سماء الدهشة، تسافر به إلى مدن الغرابة كما الحشيش غير المغشوش تماماً؟!
وفي اعتقادي أن تلك الفكرة بعيدة عن الواقع، أقرب إلى الخيال العلمي وشطحاته منها إلى أي شيء آخر..

ومن هنا إفلات البناء الدرامي من يد صاحب السيناريو في الثلث الأخير من الكيف.

وعلى كُلٍ، فهذا المأخذ لا يقلل من أهمية الكيف، ولا يحول دون إبداء الإعجاب به ككل، والإعجاب بحدوتة صعود جمال أو “مزاجنجي”.. اسم شهرته في الأوساط السفلى– في عالم الطرب والغناء.

دائرة الكسل

والشيء الأكيد أن “الكيف” مثله في ذلك مثل “العار” قد نجح في الخروج من دائرة الإعادة والتكرار.

فتجار المخدرات فيه يعربدون يفرضون قانون الغاب دون تخوف من شرطة مختفية لا تشعر بأن لها وجوداً.

وأماكن الأحداث فيه قد تم اختيارها بعناية فائقة، وبحس معماري رفيع، وجرى تصويرها بكاميرا “مأمون عطا”.. وهو فنان واعد يتقن لعبة الظل والتمويه.

وحوار الأبطال فيه شيق لاهث، يضيء كالبرق، فضلاً عن رسم لشخصية “جمال” المزاجنجي” وللشخصيات الثانوية وبالذات “الريس ستاموني” فؤاد خليل، مؤلف أغنية “يا قفا.. يا قفا” من خلال لمسات سريعة، وجمل معبرة من حوار بارع.

والأكيد.. الأكيد أن وراء الكيف كاتب يفكر، وليس فيلمه سوى واحد من الجزر الجميلة القليلة التي يهديها الفكر للسينما المصرية.

حيرة رقابة بين المشروع والممنوع

كان مأخوذاً عن قصة “نيقولا والكسندرا” للكاتب “روبرت ماس” اشترى “سام سبيجل” حق تحويلها إلى عمل سينمائي وهو منتج “لورنس العرب” و”جسر على نهر كواي”.

كان أحد الأفلام الضخمة التي تنفق عليها الملايين بغير حساب. وكان مُقدراً له أن يستمر عرضه في عاصمة مصر مدة تطول إلى أسابيع.

ولأمر ما جاء عرضه بعد منتصف شهر يناير سنة 1977 بقليل، وربطت الرقابة على المصنفات الفنية بين أحداثه الملحمية، وبين وقائع 18و 19 يناير المسماة فى قول بانتفاضة شعبية وفي قول آخر بانتفاضة الحرامية، فكان أن سحبت قرار إجازتها له بعد أسبوع واحد من عرضه، وذلك بحجة أنه فيلم “بلشفى”.

ولفهم هذا الموقف الرقابي، قد يكون من اللازم المفيد سرد بعض أحداث مأساة آخر القياصرة “نيقولا والكسندرا”.

تبدأ سيرة القيصرة والقيصر فى الفيلم بلحظة فرح، حين يزف الأطباء إلى صاحب روسيا بشرى أن زوجته قد انجبت له- وبعد أربع بنات- ولي عهد وزنه ثمانية أرطال يرث الأرض ومن عليها، غير أن الفرح لا يدوم فثمة حرب ضروس مع بلاد الشمس المشرقة تنتهي بالأسطول الروسي فى قاع المحيط الهادي حطاما.
وولي العهد المريض بالهيموفيليا “نزف دم وراثي جاءه من أمه حفيدة الملكة فيكتوريا”، ولا يُرجى له شفاء.

والقيصرة امرأة متعجرفة تنحدر من أصل ألماني، رسالتها فى الحياة الحفاظ على سلطات القيصر كاملة غير منقوصة ولابنهما العليل من بعده، تعتقد في الخزعبلات، إذا ما اصطدمت مصالحها بالعلم وقوانينه لجأت إلى الدجل والشعوذة.

اللعنه

وهي في بحثها عن الخلاص لوحيدها تلتقي برجل يتاجر في الدين اسمه “راسبوتين”.

ومع هذا اللقاء تتشابك خيوط المأساة، وتتصاعد إلى حيث نرى القيصر وأفراد عائلته السته قريباً من النهاية، وقد ساقتهم العاصفة المميتة إلى مشارف سيبريا سجناء (يولية سنة 1918).

وهذه النهاية تمهد لما هو أبشع ففي المشهد الأخير من الفيلم نرى نيقولا والكسندرا وأولادهما، وهم يُقتلون جميعاً برصاصات تنطلق من فوهات بلاشفة قساة .

وهذه المذبحة جرى تصويرها وكأنها مذبحة أبرياء، بقصد أن يخرج المتفرج متأثراً، متعاطفاً مع آل رومانوف، غاضباً على البلاشفة غلاظ القلب.

ومع ذلك فالرقابة عندما جنحت لمنع “نيقولا والكسندرا”- بعد اليوم السابع- تذرعت بأنه خطر على النظام العام بمقولة أنه يحمل من التأييد للثورة البلشفية الشيء الكثير!!

. بعد السقوط . 

هناك إذن خلطٌ شديد.

هناك رقابة المشكلة معها أنها لا تعرف أين هي، ماذا يٌراد منها. إلى أين اتجاهها، وفى سبيل أية غاية أو هدف.

وعلى كُلٍ فالثابت أنها، وهي تطيح “بنيقولا والكسندرا” قد أستندت إلى المادة التاسعة من قانون الرقابة رقم 431 لسنة 1955.

وهي نفس المادة التي أستندت إليها بعد ذلك بست سنوات عندما كشرت عن أنيابها لفيلمي “درب الهوى” و”خمسة باب” فسحبت ترخيصيها لهما بالعرض على امتداد أرض مصر.
ماذا تقول هذه المادة التي أصبحت سيفاً مسلطاً على رقاب أصحاب الأفلام يعيشون من اساءة استعمالها في رعب وعذاب؟

تقول أن السلطة القائمة على الرقابة يجوز لها أن تسحب الترخيص السابق اصداره فى أي وقت بقرار مسبب إذا طرأت ظروف جديدة .

وغني عن البيان أن المقصود بتلك الظروف في ضوء التفسير الصحيح للمادة هو ما تعلق منها بالنظام العام وحسن الآداب ومصالح الدولة العليا.

وبديهياً أن ظروفاً هذا شأنها تتغير بين يوم وليلة. وبالنسبة للفيلم لا يتصور تغيرها بعد انقضاء أيام معدودة من عرضه. وهذا التفسير الصحيح ضربت به الرقابة عرض الحائط. فبعد سبعة أيام لا تزيد من عرض “نيقولا والكسندرا”.

وبعد ستة عشر يوماً من عرض “خمسة باب” أصدرت قرارها بسحب الترخيص لهما بالعرض العام.

وقد اعترفت لنا أنها منعت الفيلم الأول- وهو أمريكي الجنسية- لأنه بلشفي، وهو اتهام ثبت أنه إلى التخليط الشديد أقرب. أما فيلم “خمسة باب” فقالت تبريراً لمنعه أنه قد اتضح لها- بعد عرضه- أنه “أحدث انطباعاً سيئاً لدى الجماهير”.

.اليتيم المجهول.

والمقصود بالجماهير مقال يتيم نشرته جريدة أخبار اليوم فى العشرين من أغسطس سنة 1983 حمل رأياً نسب إلى مجهول تستر وراء توقيع “مصري”.

وهذا الرأي يعترض على “خمسة باب” يقول فيه ما قاله مالك فى الخمر، يستنفر وزير الثقافة إلى التدخل حماية للآداب.

مرة أخرى تتعثر الرقابة فى الخلط. ولا تفرق بين الجماهير ومقال يتيم مجهول الصاحب.

فالفيلم بحكم أنه عمل فني يمكن أن تختلف من حوله الآراء، ولا يشترط فيه أن يكون موضع استحسان الجميع بلا استثناء، فاختلاف الآراء فى شأنه- قبولاً أو رفضاً- أمر وارد فى جميع الظروف والأحوال.

وعلى كُلٍ فلا يمكن أن يتصور فى الجدل أن يكون مقالاً يتيماً مجهول الصاحب من قبيل الظروف المستجدة التي عناها القانون، والتي تبيح للرقابة سحب قرارها بالترخيص. فمثل هذه الظروف يشترط لتوافرها:

أولاً: أن تكون ظروفاً واقعية أو قانوية جديدة.

ثانياً: أن تكون من شأن توافرها تقويض الأساس القائم عليه القرار الصادر بالترخيص.

ثالثاً: أن تكون غير واردة فى تقدير السلطة المختصة وقت الترخيص.

ولا يُعقل أن يكون لمقال وحيد كل هذا التأثير وباستبعاده كسبب معقول للحكم على “خمسة باب” بالإعدام، فكيف كان للرقابة إذن أن تعرف أن الفيلم قد أحدث انطباعاً سيئاً لدي الجماهير؟

فمن المعروف أن مصر لا يوجد بها معهد أو أسلوب علمي لقياس الرأي العام كما أن هذا القول غير مقبول منها وهي التي رخصت للفيلم بالعرض العام بعد أن قدرت أن المجتمع المصري قد تطور وأصبح يتقبل هذه النوعية من الأفلام .

وليس من شك أن الإقبال على مشاهدته هو خير معيار وخير دليل على أن الجماهير بريئة من تهمة العداء لخمسة باب وغيره من الأفلام .

.مذبحة الأفلام .

ومن أسباب هذا الخلط الجهل بطبيعة العمل السينمائي، بأنه شكل متميز من أشكال التعبير عن الفكر لا يجوز الحجر عليه إلا في أضيق الحدود.

وهذا الجهل والسكوت عليه أديا إلى مزيد من التخبط فى الأحكام الرقابية، إلى زحف غير مقدس للمنح بحيث أصبحت الأفلام تهمة، وإجازتها تهمة أخطر، وأخذت المعرفة بينها وبين الرقابة شكل المذبحة.

فكل فيلم هو بالضرورة صوت الرذيلة يحمل تخريبا للنفوس.

ونظرة طائرة على بعض الأفلام الأجنبية الممنوعة تؤكد فساد هذا الاتجاه وخطورته على حرية التعبير.

.خطوة..خطوة.

فمفيستو واحد من أهم الأفلام فى تاريخ الفن السابع جاء إلى الرقابة تسبقة سمعة أنه أول فيلم مجري يفوز بجائزة أوسكار أحسن فيلم أجنبي (1981).
موضوعه يدور حول المثقف الشريف عندما يدخل مصيدة المهادنات.. كيف يتهاوى وينهار متذرعاً بحجج وتبريرات زائفة مثل “إذا لم أفعل ذلك فغيري سيفعل ما هو اسوأ”. “أنا بذلك أستطيع أن أفعل شيئاً أساعد به أصدقائي”  “أنا أدافع عن الثقافة وقيمها”، “على المرء أن يتلاءم مع الظروف”، “الواحد لا يعيش إلا مرة واحدة”، “من حقي أن استغل مواهبي”. وفى نهاية المطاف يجد نفسه وحيداً، لم تنفعه كل تهادناته، كل تحالفاته مع الشيطان.

ولكن يبدو أن الرقابة لا تريد لأحد أن يتعلم درس”مفيستو” أن يستفيد من أخطاء الآخرين، فكان أن منعت الفيلم، أعادت نسخته من حيث أتت، إلى شركة فوكس للقرن العشرين.

“وحمر” هو الآخر جاء إلى الرقابة تسبقة سمعة أن شركة “بارامونت” صرفت علىه أربعين مليون دولار، وأنه فيلم سياسي غرامي، الحب فيه قصة آخاذة متميزة، تدور حول نفرٌ من الناس التحمت حياتهم بوقائع صاخبة جرت في أزمنة باهرة لن تتكرر أبداً.

وهذا التميز في قصة الحب رأته الرقابة- بحكم الاعتياد على قصص الحب التافه في السائد من الأفلام- رأته رذيلة تستوجب حرماننا من مشاهدته حماية لنا من الحب غير التافه الذي كان بين “ريد” (وارن بيتى) صاحب كتاب “الأيام العشرة التى هزت العالم” وبين “لويز براينت” (ديان كيتون)، تلك الفتاة التي ولدت مثل “ريد” في مدينة “بورتلاند” من أعمال ولاية “اوريجون”، انغمست منذ الصبا فى الدعوة الى تحرر المرأة، ثم رحلت بعد طلاقها من طبيب فى تلك المدينة فى أعقاب “ريد” إلى نيويورك حيث ارتبطا بالزواج.

وحياتهما المشتركة التي اعتبرتها الرقابة خطرا كبيراً يتهدد النظام العام- هذه الحياة كانت من النوع العاصف. فما أكثر الهزات التي تعرضت لها بسبب غياب “ريد” الطويل بعيداً على طريق السياسة، وبسبب سحابة حب عابر بينها وبين كاتب المسرح “اوجين اونيل” (جاك نيكلسون).

.غضب الرب.

وعلى مر الأيام يشتد الطوفان، يتكاثر المنع، تفتعل له الأسباب.

فـ”فيكتور وفيكتوريا” إخراج “بليك ادواردز” وتمثيل زوجته “جولي اندروز” و”توتسى” إخراج “سيدنى بولاك” وتمثيل “داستن هوفمان” يُمنعان لا لسبب سوى أن الرجال والنساء على حد سواء ينتحلون شخصيات من الجنس الآخر.
“والبحث عن جودبار” إخراج “ريتشارد بروكس” وتمثيل “ديان كيتون” و”الجوع” إخراج “توني سكوت” وتمثيل “كاترين دي نيف” لا يُرخص بعرضهما لاحتوائهما على مشاهد جنسية تتنافى مع الطبيعة الأخلاقية للسينما.

واثنان في واحد” للمخرج “جون هيرتنيلد” وتمثيل “جون ترافولتا” يُحال بينه وبين العرض لأنه يبدأ بصوت آت من بين النجوم يتحدث مع الممثلين، يتحاور معهم مفاضلاً بين الحياة هنا على الأرض وبينها هناك بعيداً فى السماء.

و”سنة الحياة في خطر” إخراج “بيتر فير” وتمثيل “ميل جيبسون” لا يُرخص له لأن قصته عن الأيام الأخيرة من حكم الرئيس “سوكارنو”، كيف انقلب العساكر على نظامه.. كيف سالت الدماء أنهارا.

وهكذا.. وهكذا تختنق السينما بطوفان المنع يصل إلى الذروة بصدور قرار يحظر أفلام شركة “كولومبيا” جميعها وبلا استثناء حتى “غاندي” لم يسلم من القرار ووجد نفسه متهماً.. خارجاً على القانون.

التخليط لماذا؟

ومع هذا كله، فإن هناك ما هو أفدح وأخطر، وأعني به انعدام المعيار الواحد في الحكم على الأفلام.

فالرقابة التي ارتأت أن “الوجه المدمر” للمخرج الأمريكى “بريان دى بالما” غير مشوب بعيب العنف فأجازته، هذه الرقابة نفسها انتهجت نهجاً آخر عندما ارتأت أن “شوارع من نار” للمخرج الأمريكى “والتر هيل” فيلما مشوباً بهذا العيب مما يوجب عليها الامتناع عن إجازته.

ولو بدأنا بتأمل الفيلم الأول لوجدناه زاخرا بموانع متفجرة كفيلة ببث الرعب فى قلب أي رقيب، نسف ما قد يكون متبقياً عنده من مدخرات الشجاعة.

فما هي هذه الموانع، ما الذى في “الوجه المدمر” يفزع، يحمل لأي رقيب الهمّ والغمّ؟

فيه كمٌّ مهول من العنف لو وزّع على عشرات الأفلام لفاضت دماءً ودماراً. ولا غرابة فى هذا فمخرجة اشتهر بالتعطش للدماء، رأيناها حمراء تسيل بلا حساب فيما اتيح لنا أن نشاهده مما جادت به قريحته من أفلام . وفيه كذلك مشاهد للكوكايين وشمه فى العربات الفارهة والقصور والأوكار، لم تقع على مثلها عين من قبل.
ولا عجب في هذا “وأوليفر ستون” كاتب السيناريو له خبرة طويلة فى عالم تهريب المكيفات وغرائبه، لمسناها في “قطار منتصف الليل السريع” ذلك الفيلم الذى يعرض لحياة مهرب مخدرات شاءت له الأقدار أن يُزَّج به فى واحد من سجون تركيا حيث لاقى أهوالاً يشيب لها الولدان. وفيه مشهد ختامي، لعله واحد من أكثر مشاهد العنف عنفاً.

أمامنا “توني مونتانا” المجرم الكوبي ذو الندبة “ال باشينو”. لقد ذهب شم المسحوق الناصع البياض بعقله. إنه ممسك بمدفع رشاش، تنطلق منه الرصاصات الى القلب من قصره، حتي إذا ما انتهت المعركة الدائرة بينه وبين الفرقة الانتحارية البوليفية التي أرسلها أباطرة الكوكايين للخلاص منه، بسقوطه من شرفة القصر جثة هامدة فى النافورة التي تزين البهو، ران صمت كصمت القبور وسط أشلاء ودمار ودماء.

أما “شوارع من نار” فله قصة آخرى لعب فيها الحظ العاثر دوراً كبيراً.

. قصة الحي الشرقي .

هو من نوع الكوميديا الموسيقية الذى ابتدعته هوليوود بدءا من السادس من أكتوبر سنه 1927.

يبدأ بأفراد واحدة من عصابات شيكاغو بالولايات المتحدة في زمن الروك والرول بأنغامه الشابة الصاخبة. إنهم صعاليك يرتدون ملابس من جلد أسود سميك، يضعون على صدورهم الجمجمة شارة الموت، يمتطون دراجات بخارية يسابقون بها الريح، ينطلقون عابثين تحت سمع وبصر شرطة لا تملك من أمر أمن الشوارع شيئا، إذا دخلوا مكاناً أفسدوه، نشروا فيه الذعر والدمار وألسنة النار.

وهم في لقطات الفيلم الأولي نراهم داخل قاعة رقص كبيرة بها حشد هائل من الشباب المراهق يهلل لكلمات تشدو بها إحدى ملكات الروك “ديان لين”. وفي ثوان يصعدون إلى خشبة المسرح يختطفونها، يذهبون بها أسيرة إلى مكان أمين.

ولايكاد ينتهي المشهد إلا ويكون “الشجيع” (مايكيل باري)و “الشجيعة” (امى ماديجان) قد ظهرا.

وكما في أفلام الغرب الأقصي (رعاة البقر) تبدأ المعارك حامية ضارية بين الخير يرمز إليه الفارس الأوحد، وبين الشر تمثله عصابة من الأوغاد.

وطبعاً ينتهي كل شيء بانتصار الأخيار على الأشرار، بإنقاذ المغنية المخطوفة من براثن زعيم العصابة، طاهرة لم يمسسها بشر، بعودتها إلى محبيها عشاق أغانيها معززة مكرمة.

إذا ما تعمقنا الفيلم قليلاً لتبين لنا أنه بلا دماء بلا قتلى من البشر.

قتلاه- إذا جاز استعمال هذه العبارة- من نوع جديد، دراجات بخارية يطلق عليها الشجيع الرصاص من غدراته فى موضع خزان البترول، فتخر صريعة والنار مشتعلة فيها.

ومن هنا اسم الفيلم “شوارع من نار”، واضح إذن من السرد المتقدم أن نصيب الفيلم الثاني من العنف أقل بكثير من نصيب “الوجه المدمر” ورغم ذلك رد الفعل الرقابي اختلف.
الإباحة لفيلم قصر عرضه فى الولايات المتحدة على الكبار، والمنع لفيلم مباح عرضه في نفس الولايات للجميع.

ما سر هذه المفارقة الصارخة ؟

هنا يتدخل الحظ العاثر.

فوقت عرض “شوارع من نار” على الرقابة ارتكب نفر من الشبان جريمة الحي الشرقي في ضاحية المعادى.

تلوث الجو، صار مشحوناً بهوس الخوف من ذئاب بشرية لا هم لها إلا الاغتصاب، هوس تحريض العدالة على إنزال أشدّ عقاب بتلك الذئاب.

وفي ظل هذا الجو المسموم كان لابد أن يزداد القمع الفكري، أن تنهار معايير التقدير، أن تتقلص رقعة حرية التعبير. وكان لابد أن يصيب الرقابة خوف شديد معه يضيع من الذاكرة التاريخ القريب.

ومن منطلق الخوف هذا نقبت الرقابة في”شوراع من نار” فاكتشفت أن ثمة فتاة اختطفت، وأن شبابنا لو تعرض لفتنة مشاهدة لقطة اختطافها لأندفع من دارالعرض فاقد الوعي، مفسداً فى الأرض.

ومن هنا كان التضاد المحزن بين التبرئة “للوجه المدمر” وبين القضاء على “شوارع من نار” بالإعدام.

المهم فى الأمر أن الرقابة في حيرة، وأشدّ جوانب هذه الحيرة مدعاة للحسرة أنها تفعل مع الفن السابع ما تشاء بغير أسباب وبغير حساب.