الصهيونية في السينما.. من الوصايا العشر إلي شبكة التليفزيون

لست أدري لماذا كلما جنحت إلى التفكير في الصهيونية وألاعيبها في السينما، رحلت مع الزمن داخل صورة من بين صور كثيرة من ماضي هوليوود البعيد أحتفظ بها عظة وعبرة.. رحلت متذكراً.

فما هي هذه الصورة العبرة، وما صلة السينما والصهيونية بها؟

الصورة لكوكبة من الرواد الأوائل الذين ساهموا في بناء مصنع الأحلام على شاطئ المحيط الهادي منذ سبعين عاماً أو يزيد، العدد لا يزيد عن سبعة رجال وامرأة حسناء “جلوريا سوانسون” نجمة هوليوود الأعظم أيام البطولة تبدع فناً جديداً من العدم أيام السينما الأولى قبل أن تتعلم الكلام.
والحق يقال إنه ليس من بين هؤلاء الرجال من يستحق الاهتمام سوى ثلاثة شاءت الأقدار أن يتراصوا مُحيطين بالنجمة المُتدثرة بمعطف من فرو أسود ثمين يُقدّر الآن بالملايين. فمن هؤلاء الرجال الثلاثة الذين وقفوا إلى جوار بعض متساندين ومن حول النجمة الحسناء صاحبة الفراء ملتفين؟

الثالوث غير المقدس

أولهم إلى يسار الصورة هو “هربرت روتشيلد” يليه “أدولف زوكور” ثم “سيسيل ب دي ميل”، أي الممول فالمنتج فالمخرج.

كل واحد منهم قد لعب دوره الهام وبتنسيق تام في مصنع الأحلام.

ويبدو لمن يحكم بظاهر الأمور أن دور ثانيهم وثالثهم في النهوض بهوليوود هو الدور الحاسم ما في ذلك شك. “أدولف زوكور” باعتباره الرائد عابر المحيط من المجر مع أفواج اليهود الهاربين من الفقر والهوان، فإذا ما استقر به المقام في أرض العم سام اكتشف بقرة السينما الحلوب، أسهم في تأسيس شركة بارامونت- وهي بحق أهم احتكارات هوليوود وأكثرها تأثيراً في مسار السينما العالمية- تحت عبارة “الجمهور لا يُخطئ أبداً” لتتخذ منها عاصمة السينما شعاراً لسلعها التي غزت بها القلوب والجيوب، اكتشف نظام النجوم لا تزال سماء كعبة السينما مرصعة بها.

و”سيسيل دي ميل” باعتباره الرائد الأمريكي الذي شارك بجسارته ومهارته في انتاج وإخراج سبعين فيلماً بدأت صامته بـ”زوجة الهندي” (1913) وانتهت متكلمة بـ “الوصايا العشر” (1956). واستباح الأديان والقصص في الكتاب المقدس فاظهر موسى على الشاشة مرتين صامتاً في الأولى (1923) ومتكلماً في الثانية (1956) والمسيح في “ملك الملوك” (1927) و”شمشون ودليلة” (1949) واستحدث بعض القواعد لتحريف التاريخ وتشويهه لا تزال جمهرة مخرجي هوليوود على هديها تسير، نشر أسطورة معجزة السينما الأمريكية بدوام الزهو والتباهي بالحيل السينمائية التي استعملها مرة أيام السينما الصامتة في “جواد لوب” بكاليفورنيا ومرة أخرى في “أبي رواس” بمصر لتصوير البحر الأحمر وهو ينشق بإرادة الرب ليُفسح طريقاً لقوم “موسى” خروجاً من أرض النيل ثم وهو يغشى فرعون مصر وجنده مع الاصرار على الامتناع عن إفشاء سر هذه الحيل وكأنها سرٌ إلهي لم ولن يوحى به لأحد سواه.

الاحتفال والوعد

قد يكون من المفيد التذكير هنا بأن فيلم “الوصايا العشر” جرى الاحتفال بعرضه في مدينة الشيطان الأصفر “نيويورك” يوم التاسع من نوفمبر سنة 1956 أي فور غزو القوات الإسرائيلية لشبه جزيرة سيناء بأيام بل قل ساعات معدودات.

ولكن الدور الحاسم الرئيسي كان- في حقيقة الأمر- من نصيب أقل الثلاثة اتصالاً بالفن الوليد، وأقلهم إعلاناً عن نفسه، كان من نصيب “هربرت روتشيلد”. ولا عجب ولا غرابة في هذا لأنه من أشهر بيت مال: بيت روتشيلد الذي يعرف متى وأين يستثمر رأس المال، ولأية غاية يكون الاستثمار، والذي منه قدم البارون “دي روتشيلد” الدعم المالي للمستعمرات الصهيونية الأولى على أرض فلسطين.

وليس صدفة أن كتاب وزير خارجية بريطانيا “آرثر جيمس بلفور” المؤرخ 2 من نوفمبر 1917 والذي اصطلح على تسميته بـ”وعد بلفور” قد وُجّه إلى اللورد “والتر روتشيلد” عميد فرع بيت المال العتيق في الإمبراطورية التي لم تكن تغيب عنها الشمس، ولم يُوجّه إلى يهودي آخر.

هكذا، ومنذ البداية تحددت معالم الطريق لصناعة فن ناشئ سرعان ما أصبح له شأن كبير وتأثير خطير. الممول والمنتج من شعب الله المختار، والنجم الأعظم سواء أكان ممثلاً أو مخرجاً يسبح في الفلك المرسوم له، عنه لا يحيد.

حدوتة باربارا

ولعل في قصة “باربارا سترايسند” وفيلمها “ينتل” (1983) الذي توزعه “بارامونت” ما يؤكد ما تقدم. فهي نجمة أعظم تعشق أرض الميعاد ومن عليها من بني إسرائيل. يقع اختيارها على قصة “اسحق سنجر”- وهو أديب إسرائيلي مغمور رغم سابقة منحه جائزة نوبل- لتصنع منها فيلماً.
وهي تزعم أنها أخرجت “ينتل”، ويزعم آخرون أن نفراً من عمالقة الفن السابع- من بينهم الشاب اليهودي المعجزة “ستيفن سبيلبرج” صاحب “الفك المفترس” و”آي تي” و”غزاة صندوق العهد المفقود” الممنوع عرضه في مصر لانطوائه على فكر مشوب بالصهيونية- كانوا وراءها في الظل يساعدون ولحسابها يخرجون.

ومن عجب أنها لم تكتف باختيار القصة وإدعاء الإخراج والمشاركة في كتابة السيناريو، ولا باختيار نفسها- وهي في خريف العمر- لأداء دور صبية مراهقة تنتحل شخصية صبي لكي تلتحق بمعهد ديني حتى تتمكن من دراسة التلمود والإحاطة بما يحتوي من أسرار.

إنها تطلب المزيد، ترى أن من حقها أن يتوّج فيلمها بالأوسكار. فإذا ما خرجت به من مولد الجوائز بلا حمص سارعت- وهي في مكتب رئيس الوزراء السابق “اسحاق شامير” بالقدس حيث حضرت افتتاح الفيلم- إلى الإعلان عن أسفها بل واستنكارها لسلوك المشرفين على الأوسكار القائم على اضطهادها لا لسبب سوى أنها من جنس النساء؛ وطبعاً- وفي مناخ كهذا- يكاد يكون أمراً مستحيلاً أن يفلت من وراء قضبان مصنع الأحلام في هوليوود فيلم يتعاطف مع العرب، يقف لمحاولات التشهير بهم، ولمؤامرات الاعتداء على حقوقهم في فلسطين وخارجها، يقف لها بالمرصاد.

مؤامرة أم ماذا؟

وعلى كُلٍ- وفي ضوء هذه المقدمة الطويلة- أرى من المناسب أن أقف قليلاً عند فيلم واحد من إنتاج هوليوود “الشبكة” أو “شبكة التليفزيون” (1976). لماذا؟
لأنه عرض على شاشة التليفزيون الصغيرة (برنامج أوسكار) ليلة الواحد والعشرين من فبراير سنة 1985 مع إشادة بعرضه صباح يوم الإثنين الموافق الخامس والعشرين من الشهر المذكور في جريدة ذات جلال في كل العهود. وفوق ذلك لأنه من انتاج وتوزيع شركة الفنانين المتحدين- وهي مع شركتي يونيفرسال ومترو جولدين ماير، قد ابتلعها فك “بارامونت” مفترساً.

والنتيجة أن الشركات الأربعة تُشكل حالياً احتكاراً جباراً قطع في السينما العالمية مثل خنجر مسموم.

والآن ماذا عن “الشبكة”.. ما خطبها؟
بادئ ذي بدء يتعين التنبيه إلى أن الفيلم لم يعرض على شاشة التليفزيون المصري كاملاً غير منقوص، بل عُرض ممزقاً شر ممزق، محذوفاً منه كل ما يتصل بالتشهير بالعرب من قريب أو بعيد. فهل لذلك سبب.. وما هو؟

لو استعملت كلمة “شبكة” بمفردها دون أن تُضاف إليها “تليفزيون” لما عرفنا معناها عندهم في الولايات المتحدة وانها إحدى شبكات التليفزيون الكبرى التي تحتكر الارسال.. وعددها ثلاث شبكات عملاقة ليس لها في دنيا الارسال مثيل. ومن هنا اختيار تلك الكلمة بما لها من دلالات عنواناً لفيلم قيل أن صاحبه المخرج “سيدني لوميت” قصد به أن يعّري هذا الاحتكار، أن يكشف ما يحمل للناس من أخطار. ولكن الفيلم انحرف عن هذا القصد، افتعل عدواً وهمياً، وتعامل معه كأنه الخطر الأكبر الذي يهدد الشعب الأمريكي.

كيف حدث كل هذا.. ولماذا؟

الصعود والهاوية

نظرة طائرة على مسار الفيلم قد تكشف السر: من المعروف أن قيمة المذيع في شبكات التليفزيون الأمريكية إنما تتحدد صعوداً وهبوطاً وفق درجات يُقاس بها مقدار شعبيته أي مدى اقبال المتفرجين على مشاهدة برنامجه.

فإذا مازادت هذه الدرجات أصبح المذيع نجماً مرغوباً تتخاطفه الشبكات. أما إذا حدث العكس وانحدرت الدرجات هوى نجمه إلى زاوية الضياع والنسيان.

وبطل الفيلم “هواردبيل” (بيتر فينش) واحد من ضحايا هذا التقدير الغريب للكفاءة. إنه مذيع تليفزيوني نجمه آخذ في الأفول، شعبيته نزلت إلى الحضيض وشبكة “أو. ب. اس” في سبيلها إلى الاستغناء عن خدماته نهائياً.

يبدأ به الفيلم مع “ماكس شوماخر” (ويليم هولدن) رجل الإدارة المُكلّف بإبلاغه قرار الرفت، وهما يحتسيان الخمر، يتبادلان أطراف الحديث في اشمئزاز حول مسلسل “ساعة الموت” المخصص لحوادث الانتحار، الاغتصاب، السرقة بالإكراه للمصارف والخزائن، وما إلى ذلك من ألوان الترفيه التي تستغل الانتهاك اليومي للحرمات.

الوعد والوعيد

في اليوم التالي- وهو على شفا انهيار عصبي مبعثه الاكتئاب- أخطر “بيل” مستمعيه في آخر ظهور له على الشاشة الصغيرة بواقعة الرفت، أعلن على الملأ عزمه على الانتحار بعد أسبوع- داخل الاستوديو- وعلى مشهد من الملايين.

وطبعاً كان لهذا البيان وقع الصاعقة على الشبكة، حاول المسئولون عنها إقناعه بالرجوع عن قرار الانتحار حفاظاً على ما تبقى للشبكة من سمعة.

فلما وافق سُمح له بالظهور أمام العدسات حتى يطمئن الجمهور إلى أنه لن يسفك دماً ويوجه له كلمات الوداع الأخيرة.

وكانت المفاجأة الثانية

فقد انتهز الفرصة لا ليتراجع ويودع وإنما ليُبرئ ذمته ليقول بعض الحقائق الأولية ليفصح عن أنه- وعلى مر السنين- لم يكف عن الكذب والتضليل للناس وليكشف عن مدى كراهيته لأسلوب الحياة في المجتمع الأمريكي وكيف ضرب به سوس الرذيلة والفساد والإنحلال.

النبي المجنون

ولم يكن سهلاً بعد كل هذه الإهانات أن تُبقيه الشبكة. كان من المفروض أن يختفي من الشاشة وإلى الأبد. ومع ذلك حدث أمر لم يك في الحسبان. ارتفعت شعبيته، اكتشفت “ديانا كريستنسن” (فاي داناويي)- وهي قناصة تبحث عن الأخبار المثيرة تتغذى بها برامج الشبكة- في جنونه ما يؤهل لأن يصنع منه نبياً تلفزيونياً ناهياً عما يراه منكراً، داعياً إلى تغيير ملامح العصر.
وبكل بساطة جعلت “ديانا” من “بيل” نجماً مرة ثانية تحولت به- وبفضل الجنون- إلى نبي دجّال. واستمرت اللعبة.. استردت الشبكة جمهورها، كثرت الإعلانات، أصبحت “أو. ب. اس” الأولى بين الشبكات. ولكن النجاح دخل بـ”بيل” منطقة جنون العظمة؛ فقد صدق أنه صاحب رسالة، جلجل صوته بالتحدي والغرور، ومع ذلك احتملته “الشبكة” لأنه خير وبركة إلى أن خرج على قواعد اللعبة بأن كشف مؤامرة العمر، صفقة بيع الشبكة إلى العرب، التفريط في أعزّ ما تملك أمريكا، تسليمه لقمة سائغة للغرباء ملوك النفط الأثرياء.

الصفقة والمنصة

وهنا يتحرك جمهور النبي المجنون- وهو بالملايين، ينهال ببرقياته على البيت الأبيض احتجاجاً، فتتوقف الصفقة المؤامرة.

وهنا كذلك تتدخل الشبكة لتصحيح المسار الذي خرج عن المدار المخطط له، يستدعيه الرئيس الأعلى، الرأس المفكر وراء الصفقة مع العرب، يعلمه الحكمة، يفهمه أن العالم إنما تتحكم فيه الشركات متعددة الجنسيات والفلوس وأن الأخلاق والقيم لا مكان لها. يخرج النبي المتكبر من عنده مكسوراً منطوياً على نفسه لا يقول في البرنامج شيئاً له قيمة أو تأثير.

وبالطبع- ومع هذا التغيير المفاجئ توقف البرنامج عن الصعود، فقد الشعبية. وكان لابد- وبعد هبوط أسهم “بيل”- من التخلص منه. كيف؟ ورفته غير وارد لأنه في حماية الرئيس الأعلى. إذن فليكن بالقتل، فهو يستحقه بامتياز.

وفعلاً نراه على شاشات التليفزيون صريع طلقات سريعة من مدافع رشاشة يحملها أفراد عصابة من الإرهابيين تتعاون مع “ديانا” في واحد من برامجها الجديدة الناجحة “ساعة ماوتزي دنج” وينتهي الفيلم.
العجب العجاب

وختاماً يحق لنا أن نتساءل هل هو فيلم عن التليفزيون ومخاطره أم هو فيلم عن العرب ومخاطرهم؟

الأكيد أن بيت القصيد منه هو التصعيد للحرب النفسية ضد العرب، وتحريض الرأي العام الأمريكي بتخويفه من خطر وهمي، خطر استيلاء العرب بفضل أموال النفط على المؤسسات الاقتصادية الأمريكية وفي مقدمتها أجهزة الإعلام.

أما التليفزيون ومشاكله فمن الواضح أن المخرج “سيدني لوميت” وكاتب السيناريو “فادي تشايفسكي”- وكلاهما من يهود نيويورك- قد استخدماه كخلفية حية مثيرة لقصة متشنجة تستغل ارتفاع أسعار النفط لافقاد الرأي العام القدرة على الرؤية والاختيار، لإقناعه تحت تأثير التخويف بأن العرب خطر ما بعده خطر.

وأخيراً فمن الحق علينا أن نتساءل لماذا حذفت رقابة التليفزيون عندنا المشاهد المعادية للعرب من الفيلم ولمصلحة من أتاحت عرضه على الشاشة الصغيرة بالخداع للمشاهد الذي لم يكن في قدرته- بعد الحذف- أن يعي من أمر الشبكة شيئا.