الكوليرا، أم حسن، والحفيد الصغير حسن، هذا هو الثالوث الذي تدور من حوله قصة “اليوم السادس” لصاحبتها الأديبة العربية المستغربة “اندريه شديد”.
أما ما عداه من أحداث وشخصيات أخرى، فلا تعدو أن تكون تنويعات وتفريعات على لحن “اليوم السادس” الأساسي.. البعث.
فالقصة من أول صفحة، ولا حديث فيها إلا عن الوباء الذي نلقاه في حوار يجري بين “أم حسن”، وهي جدة تقدمت بها السن، وبين سائق العربة الكارو التي تحملها إلى “بروات” قريتها الممتحنة بالكوليرا، ذلك الوباء الذي اشتد فتكه وأصبح أمره شنيعاً.
وما أن تبدأ السطور الأولى من الصفحة الثانية (طبعة فلامريون 1984) إلا ويجيء ذكر الحفيد الصغير بفضل الشوق والحنين.
فهذه هي المرة الأولى التي تفترق فيها “أم حسن” عن ابن ابنتها المتوفاة، عن ابن روحها وها هي على العربة تتذكر كيف شرحت له قبيل الرحيل لماذا هي في أشد الحاجة لرؤية أهلها للاطمئنان عليهم.
لماذا كان من اللازم عليها– منذ أمد بعيد – أن تسافر إليهم.
ولماذا لم تستطع القيام بهذا الواجب حتى الآن.
وتتذكر كيف خففت من وقع الفراق ومرارته على الحفيد بوعدها له أنها لن تغيب طويلاً، لن تمكث في قريتها لأكثر من يوم واحد.
كوليرا وأشياء أخرى
وعلى كُلٍ، فما أن ألقت نظرة طائرة على قريتها البائسة المعذبة بالوباء، وتبين لها ما ألم بها وبأهلها من أهوال، حتى برّت بوعدها، أسرعت بالعودة إلى القاهرة حيث زوجها العليل وصغيرها الوحيد.
ثم لا تلبث أن تدلهم من حولها الخطوب، فالصغير يصاب هو الآخر بالشر العام، وهي لا تستسلم لليأس، تحاول أن تتجاوز محنتها بالتصدي للكوليرا إنقاذاً للصغير.
وهكذا، طوال جريان أحداث القصة، ونحن مشغولون بهذا الوباء، وبهذه الجدة البائسة وبهذا الصغير المصاب بالمرض الخطير.
والسؤال الآن، هل الكوليرا، الجدة، الحفيد، محل تركيز في رؤية “يوسف شاهين” السينمائية لليوم السادس، بحيث تثير اهتمامنا بهذا الثالوث، تجعلنا مشغولين به وحده لا شريك له، كما كنا في القصة أم لا؟
تبدأ رؤية “شاهين” لقصة “شديد” أول ما تبدأ بوجه “أم حسن” (داليدا) في لقطة مبكرة سابقة على العناوين، حينما نراها في سيارة نقل عائدة من قريتها حيث لا شيء سوى الموت بالوباء يحصد بغير حساب ما يشاء من الأقرباء.
وما تكاد تنتهي العناوين، حتى يبين لنا أن مصر موبوءة بالكوليرا، وأن هذا الوباء فيها، كما الحديث عنه، شائع مستفيض.
وما تكاد تنتهي المشاهد الأولى حتى نكون قد تعرفنا على شخصيات ثلاث رئيسية”أم حسن” والحفيد الصغير والمهرج والراقص والقرداتي المسمى بأوكازيون أو “أوكا” أو”عكا” (محسن محي الدين) ومعه قردته “روز”، التي هي له كظله، ثم شخصيات أخرى ثانوية صاحب سينما ركس الفلسطيني “رفحي” (يلعب الدور يوسف شاهين)، ومدرس الحفيد، وزوج أم حسن المريض بالشلل (حمدي أحمد) وصاحبة المقهى الشهوانية (سناء يونس) وممثلة السينما الفاجرة، صاحبة البنسيون (شويكار).
ويلفت النظر في الشخصيات أنها -وباستثناء المدرس والزوج- مختلقة، ليس لها وجود في قصة شديد.
الغناء تحت المطر
ثم ما يكاد ينتهي “القرداتي” من نمرته في حوش تطل عليه شواهد القبور حيث رقص وغنى أمام حشد من الصغار والكبار “ماسمعتش يا غايب حدوتة حتتنا”، حتى يتكشف لنا أننا بإزاء عمل سينمائي جانح إلى أن يكون فيلماً غنائياً راقصاً، لاسيما أن صاحبه قد أهداه بداءة إلى نجم الرقص الأمريكي إبان الأربعينيات “جين كيللي” الذي “ملأ أيام شبابنا بهجة”.
وما نكاد نفيق من هذه المفاجأة المذهلة، حتى يتضح لنا من سير الأحداث في الربع الأول من الفيلم، أن صاحبه قد انتقل بمحور القصة من العجوز “أم حسن” إلى القرداتي الشاب.
فهو أحياناً ينفرد في الفيلم بمشاهد بأكملها، وفي حالة عدم انفراده بالمشهد، ومشاركة “أم حسن” له فيه باستحياء شديد، فهو لا يستطيع على ذلك صبراً.
وسرعان ما ينفرد بأغلب اللقطات، كما في المشهد الفريد الذي رقص فيه أمام “أم حسن” وغنى “نركب سفينة من ميناء إلى ميناء، تحت المطرة حركة خطرة”.
ظاهرٌ إذاً أن ثمة فروقاً بين قصة شديد، وبين رؤية “شاهين” لها في فيلمه الروائي الأخير والتاسع والعشرين.. فما هي ؟
هي وهو
“أم حسن” عند “شديد” كما الأم الشجاعة في مسرحية “برتولد برخت” امرأة لها هدف وحيد كرست له حياتها، وهو في “اليوم السادس” إنقاذ الحفيد المريض، بالابقاء عليه حياً إلى هذا اليوم، ذلك أنها سمعت من الأستاذ معلم حفيدها قبل أن يحمل من المدرسة إلى المنزل مصاباً بالوباء، أن من لا يموت به حتى اليوم السادس من ابتداء القيء، تكتب له النجاة، ويبعث حياً.
وهي “أم حسن” لا تحيد، كما “أنتيجون” و”ميديا” في مسرحيتي “سوفوكليس” و”اوريبيديس” عن هدفها الأوحد.
إنها تحيا من أجله، تكرس كل وجودها سعياً إلى تحقيقه.
ولو شاءت لها الأقدار أن تفشل في مسعاها هذا، لفقدت إرادة الحياة، ولما بقيت على قيدها يوماً واحداً.
سر البسالة
ومصدر هذا الوجد الذي يملك على “أم حسن” كل شيء، ويصرفها عن كل شيء آخر سوى إنقاذ الصغير، مصدره كما الحال مع “أنتيجون” و”ميديا” وغيرهما من النساء الباسلات، إرادة قوية صامدة لا تنحني أمام النكبات والملمات.
ومنبع هذه الإرادة بالنسبة لأم حسن بالذات، أنها لم تذق للراحة طعماً، لم تستمتع بها يوماً، فهي امرأة تعمل بساعديها، بالتحديد غسالة، نازحة إلى المدينة البدينة، فراراً من الريف الحزين، وفقره الفقير، تعي حالها وظروف البؤس التي تحيط بها، مما يدفعها إلى القول في حوار مع النفس: “أنا لم أخلق للراحة” أي لليوم السابع (ص 143 من نفس الطبعة).
وبحكم حالها هذا، فهي لا تيأس أبداً من إنقاذ حفيدها، وذلك رغم أن الموت يغلبه قليلاً.. قليلاً.
مذبحة الأبرياء
إنه يقيم في عقلها وقلبها، تودعه خير ما فيها، فهي إذن في قلبه، هي إذن تقاسمه حياتها، ولذلك لن يموت.
ومن هنا هروبها به من دارها، في محاولة منها لإخفائه عن أعين البصاصين، حماية له من الوباء وسوء المصير.
ومن هنا سيرتها الملحمية، وهي تحمله على عربة تجرها في الحواري والشوارع، وهي تحتضنه صاعدة درجات أدوار ستة إلى حجرة الغسيل فوق سطح إحدى العمارات، وهي في ظلمة الليل تستقل معة عربة “حنطور” تذهب بهما إلى الفلك حيث تخفيه بين البالات.
فإذا ما رحل الفلك بهما شمالاً إلى حيث بحار الدهشة والحلم تعصم الصغير من الموت حتى اليوم السادس، أتت الرياح بما لا تشتهي السفن، انتزع الموت الصغير انتزاعاً من الحياة قبل اليوم الموعود.
وبموته ماتت العجوز، أو هكذا تصور القرداتي، ولموتها بكى قلبه لأول مرة.
بلا رحمة
وهذا القرداتي “أوكا” له شخصية في القصة على النقيض تماماً من شخصية “أم حسن”.
فهو أسير اللذات، يحب النرجيلة والشاي الأسود والنساء والمال حباً جماً، متقلب، مسرف في التقلب، ينفق حياته ملتمساً لمنفعته الخاصة القريبة الحقيرة.
وليس أدل على شرهه إلى المال، أنه إلتمسه من غير وجهه الصحيح، فهو يبلغ عن المصابين بالوباء ويتقاضى عن غدره هذا أجراً.
وهو يوفر مكاناً “لأم حسن” على ظهر الفلك مقابل وعد منها بإعطائه نصف ما أدخرته من مال اكتسبته بالحلال.
وليس أدل على عدم ميل مبدعة القصة معه، بل قل احتقارها لفلسفته وسلوكه في الحياة، أنها لم تظهره على مسرح الأحداث إلا مع ابتداء الجزء الثاني (ص 75)، وفي مناسبة كريهة، استغل فيها ثقة المعجبين ببهلوانياته استغلالاً منكراً.
فها هو ذا ساعة الغروب، على سلم وزارة الصحة، ممسكاً بورقة جديدة ناعمة خضراء قيمتها عشرة جنيهات، أعطيت له مقابل الكيد لأحد المبتلين بالوباء.
وها هو ذا يخاطب قردته منتشياً: “مانجة ابنتي.. فلتحيا الكوليرا.. خسارة أن الوباء قارب على الانتهاء.. لو كنا عرفنا مبكرين ، لأصبحنا الآن من أصحاب الملايين” (يلاحظ هنا أن القردة اسمها “مانجة” وليس “روز”.
أما في الفيلم “أم حسن” و”أوكا” القرداتي كلاهما له تقدير آخر.
هي امرأة محبطة، مكبوتة، تعيش مع زوج مشلول لا يستطيع أن يعول، خانها من قبل بالزواج من امرأة ثانية وعندما تفقد أملها الأخير بموت الصغير قبل اليوم السادس تحاول الانتحار.
وهو قرداتي فلاتي، ليس في خصاله ما يغري بالمكر والغدر، ويدفع إلى الخيانة والإثم، والتورط في أشياء كثيرة يأباها حسن الآداب.
نذير أم بشير
وليس أدل على هذه الرؤية الجديدة له، من مسلكه على ظهر الفلك قريباً من النهايات.
فهو الذي عقب اكتشافه الصغير ميتاً، ينكر الموت، يتحداه، يضع الجثة في قفة يعلقها بحبل الصاري، ثم يأخذ في شد الحبل حتى ترتفع القفة فيرى الصغير البحر ويتحقق الحلم.
هذا المشهد السينمائي الجميل، والذي فيه شيء غير قليل من شطحات الخيال المستحبة، ما هو المقابل له عند “شديد”؟
يكتشف القرداتي موت الصغير، تطلب إليه “أم حسن” أن يتكلم، يظل صامتاً هامساً لنفسه “غلبانة مجنونة” (ص182).
فإذا ما قفز القرد “مانجة” من بين ذراعي “أم حسن” إلى ذراعي “أوكا” انطلق الإثنان “القرد وصاحبه” في صراخ وعويل، من ذلك النوع الذي يصاحب عادة المجيء المفاجئ للموت، والذي لا يرجى منه نفع.
وفور سماع هذا الصراخ والعويل تسقط العجوز على الأرض، يذهب القرداتي إليها حيث ترقد، يرفع رأسها، يسندها إليه، يتحسس وجهها المتجعد، فيحس أنها ماتت بموت الصغير، بل يذهب إلى أبعد من هذا، لا يتمنى لها حياة (ص183).
البعث
وهنا يتدخل “أبو نواس” (يوسف العاني في الفيلم) “ريس” المركب.
إنه هو، وليس القرداتي الذي ينادي العجوز بأعلى صوته قائلاً “أم حسن.. أنت محقة.. الطفل حي”.
ومع تكرار هذا النداء من “أبي نواس” ومن “دسوقي” النوبي” محمد منير” الممسك بالدفة، ومع هذا الإصرار على أن الصغير حي يرى البحر، يبدأ القرداتي في المشاركة، فينادي هو الآخر العجوز “هل تسمعينني يا أم حسن.. أزف إليك البشرى.. الطفل سيرى البحر” (ص186 أو الصفحة الأخيرة).
فترتسم ابتسامة على شفتي العجوز، إنها تسمع الأصوات، ترى البحار وجنات تجري من تحتها الأنهار ويحملونها برفق دون أن تقاوم، فالطفل في كل مكان بالقرب منها، أمامها، موجود في صوت وفي قلب هؤلاء الرجال، لم يمت، بل لا يستطيع أن يموت.
وإذن، فالمبادأة لم تكن من القرداتي، بل كان هو الأخير من بين رجال الفلك في المشاركة.
والآن إلى من ننحاز؟ إلى رؤية “شديد” الأدبية أم إلى رؤية “شاهين” السينمائية؟ هذا هو السؤال، والإجابة عليه قد تبدو يسيرة ولكنها في حقيقة الأمر جد عسيرة.