راسبوتين والقيصرة

الأيام التي لها تاريخ قليلة.. بل قليلة جداً.. ويوم 8 من شهر مارس سنة 1917 واحد من هذه الأيام.. بدأ فيه الشعب الروسي ثورة كُبرى ضد الحكم المطلق ازاحت نيقولا الثاني عن عرش القياصرة وانهت حكم آل رومانوف لروسيا الذي استمر ثلاثة قرون.. انهته إلى غير رجعة.
وحول هذه النهاية وكيف جاءت يدور فيلم “نيقولا والكسندرا” (1971) المستوحى عن قصة بنفس الاسم “لروبرت ماسي” اشترى حق انتاجها سينمائياً “سام سبيجل” صاحب “لورنس العرب” و”جسر على نهر كواي” ثم كَلَّف “فرانكلين شافنر” الحاصل على الأوسكار عن فيلمه “باتون” بإخراجها و”فريدي يونج” مبدع “دكتور جيفاجو” و”ابنة رايان” تصويرها. ولأمر ما شاءت الصدف “لنيقولا والكسندرا” أن يكون عرضه في القاهرة قريباً من ذكرى انقضاء ستين سنة على الثورة التي سُميت بثورة فبراير لطبيعة في التقويم الروسي القديم جعلته متأخراً عن التقويم الميلادي السائد أياماً قليلة.

نهاية قيصر آخر

وأن يبوء هذا العرض بالفشل فلا يمكث الفيلم في السينما إلا أسبوعاً واحداً، ويجيء من بعده- ودون حدٍ فاصل- فيلم آخر عن نهاية قيصر آخر “كل رجال الرئيس” للمخرج “آلن باكيولا” وهو نقلٌ أمين إلى لغة السينما لكتاب بنفس الاسم ألفه الصحفيان “بوب وودوارد” و”كارل برنشتين” (أدى دوريهما الممثلان روبرت ردفورد وداستن هوفمان) عن فضيحة ووترجيت ما هي؟ كيف ارتُكِبَت الجريمة.. وكيف أدى هذا الكشف بالرئيس السابع والثلاثين لأغنى دولة في العالم “ريتشارد ميلهاوس نيكسون” أن يخرج من البيت الأبيض مرتعش الصوت من فرط التأثر وهو يقول أن المرء لا يُدرك روعة القمة إلا عندما يذوق مرارة الحضيض.

إرادة الله
ولنيقولا والكسندرا (أدى دوريهما مايكل جايستون وجانيت سوزان الممثلان في فرقة شيكسبير الملكية) نهاية غير نهاية نيكسون.
والفيلم يكتفي بعرض سيرة القيصر والقيصرة من منتصفها لا من أولها، وهو يبدأ بداية سعيدة.. بلحظة من سنة 1904 يزف فيها الأطباء إلى القيصر بُشرى أن القيصرة قد أنجبت له أخيراً- وبعد أربع بنات- ولي عهد وزنه ثمانية أرطال يرث أرض روسيا المقدسة ومن عليها. ولكن السعادة لحظاتها لا تدوم.. فروسيا في حرب مع بلاد الشمس المشرقة تنتهي بالأسطول الروسي في قاع المحيط الهادي.
وولي العهد مريض بالهيموفيليا (نزف دم وراثي جاءه من أمه حفيدة الملكة فيكتوريا) لا يُرجى له شفاء.. يظل مُعلقاً بين اليأس والأمل حتى يُدركه الموت في سن الشباب.. والعمال في مظاهرتهم السلمية بقيادة الأب جابون يُطلق عليهم الرصاص فتصطبغ الثلوج بدماء ألف قتيل في ساحة قصر الشتاء حيث يُقيم القيصر ويحكم بإرادة الله (22 يناير 1905).
ولم يعرض الفيلم شيئاً من تفصيل حياة القيصر والقيصرة خلال هذه الحقبة السابقة على ثورة 1905، وإنما عرض خلاصتها في كثير جداً من الإيجاز. ولو عرض شيئاً من تفصيلها لظهر أمامنا القيصر رجلاً ضعيف الشخصية يؤمن أن الله وضعه على عرش روسيا.. وأن من حقه أن يحكم دون قيود من دستور ودون رقابة من مجلس نيابي منتخب انتخاباً حراً.. يظن أن شعب روسيا متعلق به وبعائلته حباً، إنهم يمارسون كل حقوقهم باسم الله.
ولظهرت القيصرة امرأة متعجرفة ألمانية الأصل.. الأسباب بينها وبين الشعب الروسي مُنقطعة. رسالتها في الحياة أن تساعد زوجها “نيقولا” في مقاومة ضغط هذا الشعب الذي هي عنه غريبة، والحفاظ على سلطاته القيصرية كاملة غير منقوصة له ولابنها ولي العهد من بعده.. تعتقد في الخزعبلات.. إذا ما اصطدمت مصالحها بالعلم وقوانينه لجأت إلى الروحانيات “ابني ليس مريضاً” وتطرد الأطباء لتبحث عن خلاص لها ولوحيدها العليل عند دجال من الذين يتاجرون بالدين اسمه “جريجوري افيموفيتش راسبوتين” (أدى دوره في الفيلم توم بيكر الممثل بالمسرح القومي الإنجليزي) تلتقي به هي والقيصر في إحدى الحفلات في نوفمبر سنة 1905.
ومع هذا اللقاء تتشابك خيوط المأساة وتتلاحم لتتصاعد بأحداثها إلى أن نرى القيصر وأفراد عائلته الستة قريباً من النهاية وقد ساقتهم العاصفة المميتة سجناء في مدينة ياكاترينبورج (سفردلفوف) على مشارف سايبريا (يولية سنة 1918).

الوعد الحق
وهذه النهاية التي هي تمهيد لنهاية أبشع سبقتها أحداث جسام في الحقبة ما بين ثورة 1905 وثورة أكتوبر 1917 (7 نوفمبر 1917) أعرضها كما جاءت في “نيقولا والكسندرا”- وهو فيلم طوله يكاد يقترب من ثلاث ساعات مشوقة تمر في غير إملال- أي من خلال رؤية المخرج التي تجعل من حياة القيصر والقيصرة عماد تاريخ روسيا في الربع الأول من القرن العشرين!!
اضطرت ثورة 1905 القيصر أن يتراجع فيخرج على الشعب ببيان صاغه “ويت” (لورنس أوليفر) يعد فيه بإقامه مجلس تشريعي منتخب (دوما) وبمنح حريات سياسية ومدنية وبالحكم من خلال مجلس وزراء يخضع لرقابة المجلس النيابي المنتخب.
غير أنه- مع عودة الهدوء إلى البلاد- إذا به يتراجع عما التزم به في بيانه فيحل المجلس النيابي ويقيد الحريات ويعزل مجلس الوزراء برئاسة “ويت” ذي الميول الليبرالية.. ويستمر في رجعته فحل كل مجلس لا يجيء على هواه ويعين “ستولبين” رئيساً للوزراء (1907) ليتحول مرة أخرى بروسيا سجناً للشعوب وليظل يحكمها بالحديد والنار إلى أن يغتاله يهودي بينما هو جالس مطمئن داخل مسرح بمدينة كييف، وفي حضور القيصر وأفراد عائلته (14 سبتمبر 1911) ورغم رجعية “ستولبين” فالقيصرة لم تكن تطمئن إليه.. شخص واحد كانت ترتاح إليه.. تثق فيه بل تبجله لأنها ترى فيه قديساً يقرأ قلوب الناس.. أرسله الله الرحيم الكريم لينقذ العرش وروسيا المقدسة، وليكون صوت الشعب الذي كانت تعتقد أنه لا يزال يدين بالولاء للقيصر حاكماً مُطلقاً وذلك على عكس مجتمع المتعلمين الذي كانت تخافه ولا تحمل له سوى الإزدراء.. هذا الشخص هو راسبوتين!!
وعند اندلاع نيران الحرب العالمية الأولى التف أعضاء المجلس التشريعي حول القيصر مؤيدين سياسة الاتجار بالشعب الروسي وقوداً للمدافع في اجماع لم يَشُذّ عنه سوى نفرٌ قليلٌ جداً من البلاشفة ذهب بهم السلطان إلى سيبريا.
فإذا ما تلاحقت الكوارث والفواجع على روسيا بسبب هذه الحرب وانكشف فساد النظام وعجزه عن إدارة الأمور.. اتسعت الهوة بين الشعب الذي ضاق بالحرب وأهوالها وبين النظام المندفع إلى الهاوية. ومما ساعد على اتساع الهوة اعتقاد القيصرة الراسخ في ضرورة الحكم المطلق ونجاحها في اقناع القيصر بمغادرة العاصمة إلى الجبهة ليتولى بنفسه قيادة المعارك، وبالتالي انفرادها بحكم البلاد بأسلوب غَلُب عليه التعسف والهوى.

لعنة راسبوتين
ولارتيابها في المجلس التشريعي.. وفي الوزارة المُنبثقة عنه برغم أنها محافظة فقد دأبت على الاستغناء عن الوزراء الأكفاء.. وعلى الاستعانة برجال نكرات أو إمعات ممن يسعون إلى الوصول بالفساد، وليس لهم من مؤهل أو سند سوى رضاء راسبوتين.
وبدلاً من أن تثوب إلى شيء من الرشد فتتخفف من ثقل مسئوليات الإنفراد بالحكم، وتسمع صوت النذير لاسيما بعد مصرع راسبوتين بتدبير من أمراء العائلة المالكة مساء ليلتي 30 و31 ديسمبر 1916 استمرت في عنادها لا تتعظ.. تحطم في طريقها كل من تحميه وتريد له الخلاص.. وكأن قوة غامضة تسعى بها إلى حتفها وحتف كل من تحب.
ولهذا كله فقد كان لا مناص من ثورة 8 مارس تُجبر القيصر- بعد ثمانية أيام من بدئها- على التنازل عن العرش لشقيقه الارشيدوق ميخائيل الذي اعتذر عن قبوله.. تحددت اقامته هو وأفراد عائلته الستة “بتزاركويي زيلو” إلى أن يؤمروا بالرحيل إلى غربي سيبريا في 14 أغسطس 1917.

عودة ثائر

قبل ذلك وبالتحديد في 16 إبريل 1917 عاد لينين من منفاه في سويسرا إلى روسيا عبر أرض الأعداء- ألمانيا.. وبعد شهر من ذهاب القيصر وعائلته إلى توبولسك غربي سيبريا أُعلنت الجمهورية واختفت القيصرية إلى الأبد.. فإذا ما جاء نوفمبر اهتزت الإنسانية لخبر انتصار أول ثورة اشتراكية في العالم.

وتمر أيام هي في حساب التاريخ أقرب في قيمتها إلى الأعوام ويُعقد صلح برست ليتوفسك الذي به تنتهي الحرب بين روسيا وألمانيا.
ولسوء الحظ فما أن توقفت هذه الحرب ومذبحتها التي استمرت أربع سنوات وذهب ضحيتها من الجيش الروسي سبعة ملايين من أبناء العمال والفلاحين، إلا وبدأت مذبحة ثانية بتحريض وتأييد من انجلترا وفرنسا والولايات المتحدة واليابان.. وكان لها ضحايا بالملايين من بينهم نيقولا الذي كان قيصراً وعائلته.. ففي ليل 29 يولية 1918 أُعدم هو وعائلته بالرصاص في بدروم منزل بياكاترينبورج قبل سقوطها في أيدي البيض المعادين للثورة بأيام.
وبمشهد إعدام العائلة التي أساءت حكم روسيا طوال ربع قرن من عمر الزمن ينتهي فيلم “نيقولا والكسندرا”.. وهو من تلك الأفلام التي تصور الثورة الروسية بغير حب بل بكثير من العداء.
ومن عجب أن صانعيه يريدون من المشاهد أن يتعاطف مع “نيقولا والكسندرا”.. ولكن المشاهد أخلف ظنهم.. فبرغم إظهار الفيلم الثوار غلاظاً بقلوب صهرت من حديد فالمشاهد لا يتعاطف مع “نيقولا” الطاغية الصغير الذي نسمعه يقول وهو قريب من لحظة النهاية الفاجعة: “لا أعرف أيُ خطأ اقترفت.. لو عرفت لاسترحت”!!