كيف تحول النجاح الي فشل

بلغة الاقتصاد.. المخرج السينمائي الموهوب عملة نادرة.. بل لعله أكثر العملات النادرة ندرة.

وإلى الباحثين عن خلاص للسينما المصرية.. إلى أعضاء اللجان حكومية كانت أم أهلية.. أسوق وقائع حدوتة أراها غريبة كل الغرابة.. حدوتة حدثت لمخرج أراه موهوباً أي عملة نادرة..
وأنا لا استرجع وقائعها بدفعة انفعالية.. وأنما أسترجعها وأسوقها لكثرة ما رددت عبارة الأديب “بدر الديب” في “أوراق زمردة أيوب”.. (لا لن يستطيع أحد أن يجعلني أصمت بعد الآن، لم يعد هناك وقت للصمت، لقد آن لنا أن نتكلم جميعاً)!!

لم يكن للسينما المصرية سابق صنع بتاريخنا الحضاري بطوابقه الثلاثة (الفرعوني والقبطي والإسلامي) حتى أمسية من يوم ثلاثاء قريب من نهاية عام 1969 وبالتحديد 16 من ديسمبر، حين مر أمام العيون على شاشة نادي السينما بالقاهرة مقتطف من كتاب الموتى الفرعوني يقدم لفيلم “ليلة حساب السنين” بكلمات تقول: “يا من تمضي ستعود.. يا من تنام ستصحو يا من تموت ستبعث.. فالمجد لك.. للسماء وشموخها.. للأرض وعرضها.. وللبحار وعمقها”.

منذ تلك الأمسية بدأت الصلة حميمة بفضل المخرج شادي عبد السلام ورائعته الأولى. ولم يكن غريباً أن يكون صاحب “ليلة حساب السنين” أو “المومياء” الرائد في هذا المجال الخصيب، فشغله الشاغل كان، ومايزال، مصر البعث تصون أمجادها الحضارية، وبخاصة ما كان منها فرعونياً.

نهب مصر!

ونظرة طائرة على درته تكفي لبيان كيف أن مصر بماضيها، بواقعها.. مصر التي تحلم وتتحرك، إنما تسكن في أنحاء قلبه الذي يخفق بعشقها.

محور الفيلم حادثة وقعت فعلاً.
الكشف خلال عام 1882 عن مخبأ يضم موميات ملكية في الدير البحري، بقايا أربعين فرعون من مختلف الأسر أُعيد دفنهم في عجلة منذ ثلاثة آلاف عام أو يزيد حماية لهم من لصوص القبور..

قبيل هذا الكشف كان علماء الآثار في القاهرة في حيرة من أمر ظهور أجزاء متفرقة من كنز قديم بين الحين والحين في السوق السوداء.. كانوا على جهل بأن قبيلة جبل الحوربات تتعيش من التجارة في موميات ملكية مكانها الخبيء سر مكتوم لا يباح به إلا للورثة ساعة وفاة رئيس القبيلة.

وقصة الفيلم تبدأ بين أطلال وادي الملوك بطيبة، يوم أن مات “سليم” كبير القبيلة. وهي تحكي من خلال صور تجمع بين الجمال والجلال المأساة التي دفعت “وانيس” إلى أحضان “أفندية القاهرة” القادمين من بعيد، من المجهول، على مركب مُضيء يحمي الماضي المنهوب، يحمل إلى الوادي المقدس نور المستقبل!

أهل الكهف

وحسب فهم الناقد الفرنسي “جي هينيبيل” لرائعة “شادي” فهي إنما ترمز إلى “حتمية مجيء يوم الحساب، هذا اليوم الذي انقض على مصر كالصاعقة، فأيقظ مثقفيها من نومة كهف طالت”.

ولعل خير وصف لكيف فاجأ “شادي” النقد السينمائي العالمي بفيلمه، مقال “ديليز باول” ناقدة “السانداي تايمز” تحت عنوان “وعد من تاريخ مصر”، فقد بدأته بكلمات ساحرة: “منذ زمن بعيد، وأثناء حضوري مهرجان كورك، اسأت إلى سمعتي عندما قهقهت ضاحكة في تعال من فيلم مصري أريد له أن يكون جاداً، ولم يردني إلى صوابي إلا تذكرة من جار صدمه سوء سلوكي بأن مخرج الفيلم جالس معنا في قاعة العرض، وعلى كُلٍ فقد كنت أظن أنه ليس هناك ما يدفعني إلى الاهتمام بما تعرضه الشاشة المصرية، غير أني اكتشفت أنه لزاماً علي أن اهتم بعد أن شاهدت “ليلة حساب السنين”..
ثم تطرقت فور الانتهاء من هذا الاستهلال الساخر إلى الكلام عن فيلم “شادي” باعتباره الفيلم الذي غيّر من نظرتها إلى السينما المصرية، وحدا بها إلى أن توليها ما تستحق من اهتمام. وهي من فرط حماسها له تختاره ضمن قائمة الأفلام الإثنى عشر التي اعتبرتها أحسن أفلام عام 1972.

وبذلك استطاع مخرج من الوطن العربي- ولأول مرة- أن يقف شامخاً بما أبدع جنباً إلى جنب مع مشاهير الفن السابع في العالم ومما يميز فيلم “ليلة حساب السنين” على غيره من أفلام كثيرة مصرية أو أجنبية على حدٍ سواء أنه- وعلى مر السنين- لم يفتر الحماس له أو ينحسر.

فبعد فوات أربع سنوات على تتويجه بجائزة “جورج سادول” (1970) يجيء “جان ليسكور” رئيس الاتحاد الفرنسي لدور سينما الفن والتجربة إلى مصر لاختيار بعض الأفلام للعرض بتلك الدور.

وأثناء لحظة تأمل- ودون مجاملة لأحد- يقول الرجل متشائماً أثر رحلة عذاب مع بعض الأفلام “أن السينما المصرية بدأت عندنا بفيلم “المومياء” وإذا ما استمر الحال على هذا المنوال، فقد يذهب المؤرخون إلى أنها انتهت به”.

ثم يقع اختياره عليه ليكون فيلم الافتتاح لدار عرض جديدة في “كان”.
ورغم انقضاء ثلاث عشرة سنة على انتاجه إذا به يعرض في مهرجان “بادوا” بإيطاليا (موطن أقدم جامعة أوروبية) أثناء شهر نوفمبر سنة 1982 مع أفلام كثيرة من إبداع مخرجي قارتنا الأفريقية، ويخرج متوجاً بالجائزة الأولى.

الأصالة والمعاصرة

وأعود إلى حماس النقد العالمي لفيلم “شادي” “فدافيه وينسون” ناقد “الفاينانشيال تايمز” يقف أمامه مسحوراً مأخوذاً قائلاً إن التوقعات الكبيرة المأمولة من فيلمه القادم “أخناتون” حمو “توت عنخ آمون” ليس إلى مقاومتها سبيل.
و”جي هينيبيل” ناقد “الآداب الفرنسية” يُشَّبه “شادي” بستياجيت راي (أكثر مخرجي الهند أصالة)، ويفضله على غيره من مخرجي مصر لأنه عاد إلى التراث الوطني فتمثله، وزاوج بينه وبين متطلبات التقدم، وهو أمر مبتكر جرئ مثير للدهشة!! ويتمنى له الاستمرار في محاولته تلك بإخراج فيلمه عن “أخناتون”.

الانتظار الطويل

وبمناسبة الكلام عن فيلم “شادي” حول هذا الملك، يحكي أنه لما سمع العالم الإنجليزي “سيريل الدرد” المتخصص في دراسة الحضارة المصرية القديمة بمشروع “إخناتون” صاح مُتعجباً: “فيلم عن مصر القديمة لمخرج مصري.. يا للغرابة”!

وللأسف كانت صيحة التعجب هذه في محلها..

فقد أعَدَّ “شادي” لمشروع “أخناتون” ما استطاع، فكان أن كتب السيناريو وهيأ الديكور واختار الممثلين للأدوار.. ولم يبق سوى أن ينتظر موافقة هيئة السينما على تمويل ميزانية الفيلم التي قدرت بمبلغ لا يزيد على مائة ألف جنية مصري!

وانتظر طويلاً هذا الدعم الهزيل لفيلم تدور أحداثه في عهد أول فرعون يؤمن بالتوحيد، فيثور على ما كان يعتبر من الدين في أيامه، ويقيم ديناً جديداً..

وسيناريو المشروع الذي لم ير النور يعرض للصراع بين “أخناتون” باعتباره أول فرد في التاريخ، وباعتباره متمرداً على الاهتمامات لدين أصبح لا شاغل له سوى الموت، وما بعد الحياة، وإقامة الصروح الجنائزية.

وبين قوى الجمود الباغية، متمثلة في الكهنة ورجال الجيش، وهي تنتظر فرصة نهاية فرعون ابتغاء الإسراع بإعادة الاستقرار الديني والسياسي لأرجاء البلاد.

ولسوء الحظ انتهى الانتظار إلى لا شيء.

وفي الحق فليس هناك شيء يستطيع أن يجسد أوهام النجاح في عالم السينما المصرية بل قل العربية أكثر من حالة صاحب “ليلة حساب السنين”، هذا المخرج الذي حيَّته الأقلام.. كل الأقلام ورأت فيه أملاً للسينما العربية من المحيط إلى الخليج، نراه يُترك وحيداً مشتبكاً في معركة طويلة مريرة من أجل حفنة من الجنيهات تدعم مشروع فيلمه الروائي الطويل الثاني، إلى أن أنهكت قواه وانتهى الأمر بما يشبه التحقيق لنبوءة الفرنسي المتشائم.

الرصيد الضائع

كل ذلك مر في شريط ذهني سريع، وأنا أشاهد فيلمه التعليمي “كرسي توت عنخ آمون الذهبي” (1983). وتساءلت بعد انتهاء عرض هذا الفيلم الذي لم يكلف الخزانة سوى ثلاثين ألف جنية مصري.. تساءلت والقلب مُفعم بالأسى والحسرة: أهكذا يُعامل رصيدنا الحضاري الذي يُعّد أغنى أرصدة العالم.. ومع ذلك فدائماً نفشل في السحب منه؟!

ماذا لو كانت قد اتيحت الفرصة لصانع فيلم أثبتت الأيام أنه على مستوى عال وعالمي من الحس الفني، وصاحب موهبة ابتكار فذة وقدرة على التحكم المذهل في الصورة تكويناً وإيقاعاً؟

إن فكرة إخراج أفلام تعليمية عن حضارة مصر القديمة جاءت إلى “شادي” وقد يئس تماماً من إخراج “أخناتون” رغم ما في موضوعه من إمكانيات درامية ومقابلات عصرية كامنة.
ومع جنوح الهيئة المصرية للآثار إلى الاقتناع بفضل رئيسها الجديد الدكتور أحمد قدري بأنه في الإمكان الإفادة مادياً وأدبياً فيما لو أسند إخراج فصول من تاريخ مصر القديم إلى بعض صانعي الأفلام.. ما توفرت تلك الفرصة.

وشاءت المصادفة البصيرة أن يقع أول اختيار على “شادي” الذي كان قد سمع بأن كرسي الملك الطفل مفكوك ويجري ترميمه في متحف مصر الذي كان يجري طلاؤه.

وفي البدء جرى اتفاق مع الهيئة على أن يخرج فيلماً قصيراً عن الكرسي الذهبي لا تزيد مدته عن ثماني دقائق!!

الحيرة.. والوحي..

واحتار “شادي” كيف يخرج فيلماً في هذه الدقائق القليلة عن كرسي له من العمر خمسة وثلاثون قرناً.. ماذا يقول؟

وخلا لنفسه وأخذ يجوب ردهات المتحف وحيداً كالسحابة يُفكر، يُلقي على نفسه السؤال تلو السؤال.. ويحاول الجواب دون جدوى.

ودارت في رأسه الخواطر السوداء تزيده يأساً على يأس من صنع فيلم يرقى إلى مستوى الكرسي الجليل، إلى أن التقت عيناه بوجه الطفل الأسمر “هيثم عبد الحميد” ابن مدير الانتاج.

وبلمسة عبقري أبصر فيما أبصر.. الماضي في حاضر، أبصر الملك في الطفل.

وفي لمح البصر جاءته فكرة أن يكون للفيلم قصة تسند بطولتها إلى الطفل الشبيه بالملك!!

وبسحر ساحر تحول الفيلم القصير إلى أربعين دقيقة من المتعة للعقول والقلوب.. متعة الغوص في التاريخ بحثاً عن الحقيقة.

فالطفل يجوب أرجاء المتحف مع عمه المصور (قام بأداء هذا الدور “محمود مبروك” وهو معيد في كلية التربية الفنية وصاحب رسالة في “أخناتون”)، إنه دائم السؤال عما حوله من عجائب الخلق والإبداع.. يحمل في صدره طموحاً لمعرفة ماضي الأجداد، وهو في رحلته داخل تيه المتحف يظل مشتاقاً إلى المعرفة، يطلب منها المزيد حتى يري الكرسي وقد سرت فيه الحياة من جديد محمولاً في موكب مهيب يذكرنا بمشهد التوابيت على أكتاف أبناء مصر محمولة في فيلم “ليلة حساب السنين”.. هنا تحقق له ما يريد، لقد أمسك بالخيط الذي يصل بين الأجزاء المبعثرة برباط، فالبعث للكرسي قد بث في قلبه الطمأنينة، وها هو في اللقطة الأخيرة من الفيلم وقد امتلأت الشاشة بوجهه فرحاً متهللاً، وفي الخلفية من ورائه يستوي كرسي العرش النفيس.

حقاً… لقد نفخ “شادي” من روحه في الكرسي، فإذا هو خلق جديد.

وكم كان صادقاً معنا ومع نفسه حين قال في تواضع يليق بالمبدعين: “في وقت ما لابد أن يعود الشيء إلى من يستطيع صيانته.. وهذا هو البعث”.

والسؤال الآن: كيف أصبح “شادي” جزءاً من أحزان السينما في بلادنا، بدلاً من أن يكون جزءاً من أفراحها، ومن ضربات قلبها.