لو كنت في باريس في أثناء هذا الشتاء، ولو تسكعت في شوارعها قليلاً، لاسترعى انتباهك صورة لإنسان لا تعرف عنه شيئا.
ولو كنت من أهل مدينة النور أو كنت من المولعين بسحر الألوان وما توحي به من بيان، لاستبان لك أنها من إبداع ريشة الفنان التشكيلي “تيودور جيريكو” صاحب اللوحة الشهيرة “طوف المادوزا”.
وإنها، أي صورة الإنسان المجهول، ما انتشرت هكذا في كل مكان، إلا لأنهم في فرنسا يحتفلون بمرور مائتي سنة على ميلاد هذا الفنان.
وأغلب الظن أن ريشته قد جرت برسم هذه الصورة قريباً من الربع الأول من عشرينيات القرن التاسع عشر.
والآن ومن دون رسومه جميعاً هي التي وقع عليها الاختيار كي تكون أولاً: صورة الملصق المعلن عن معرض “جيرديكو” في القصر الكبير الواقع بين شارع الشانزليزيه ونهر السين.
وثانياً: صورة غطاء المجلد الضخم “الكتالوج” المطبوع احتفاء بالحدث الكبير.
لوحة نادرة
ولقد تم العثور على لوحة هذا الرجل المجهول، مع أربع لوحات أخرى شبيهة في علية أحد المنازل بالمانيا، وذلك بعد أربعين سنة من موت صاحبها، ذلك الموت الذي جاءه مبكراً.
واثر ذلك العثور، أهديت اللوحة إلى متحف اللوفر الذي رفض الإهداء.
ولا غرابة في هذا، فهي إذا ما قورنت بدراما “طوف المادوزا” والضجة التي أثيرت حولها، لا تعدو أن تكون صورة لرجل ما، لا نعرف عنه إلا أنه كان نزيل سراي المجانين.
والعجيب أن هذه الصورة التي كانت مرفوضة من اللوفر قبل قرن من عمر الزمان، هذه الصورة هي التي تختار كي تمثل جميع أعمال نفس الفنان.
فما الذي استجد حتى يحدث كل هذا؟
لماذا أصبحت هذه الصورة الهزيلة في رأي سدنة متحف المتاحف، محط الأنظار، وذكرها على كل لسان؟! في محاولة من الناقد الانجليزي “جون بيرجر” لتفسير هذا التغيير الذي طرأ على الموقف إزاء صورة هذا الرجل المجهول، المجنون.. قال: أي شخص وجد نفسه إلى جوار صديق على شفا السقوط في هاوية الجنون، أحسبه على دراية بذلك الاحساس الغرب الذي يدفعه حتماً إلى أن يصبح متفرجاً فهذا الإنسان الذي على وشك السقوط نراه على خشبة مسرح الحياة وحيداً، وبجواره كالشبح يقف فشل، ولا أقول عجز كل التفسيرات المطروحة شرحاً للألم اليومي الذي منه يعاني عناًء شديداً وها هو ذا يقترب من ذلك الشبح، ويواجه الفضاء الرهيب بين ما يقال من كلمات وبين ما تعنيه في حقيقة الأمر.
والحق، هذا الفضاء، هذا الفراغ، هو الألم، وفي نهاية الأمر، وبالنظر إلى أن الطبيعة تمقت الفراغ، فها هو ذا الجنون يندفع كي يملأه، وإذا بالفارق بين المسرح والعالم، وبين اللعب والمعاناة، إذا به ليس له أي وجود.
أن المحنة الراهنة إنما تكمن في اتساع ذلك الفراغ، في تلك الفجوة بين ممارسة الحياة بشكلها الطبيعي في هذه اللحظة الحرجة من وجودنا على كوكبنا، وبين الخطاب الإعلامي الموجة للرأي العام ابتغاء إعطاء معنى لتلك الحياة.
وبقدر ما تتسع هذه الهوة، بقدر ما يزيد الأسى والشقاء.
ومن هنا استعداد حوالي ثلث سكان فرنسا للاستماع إلى حوالي ثلث سكان “لوبان” زعيم أقصى اليمين من هراء.
فهذا النوع من الخطاب، وإن كان يعزف على عدة أوتار كل منها أشدّ نشازاً من الآخر، إلا فإنه يبدو أكثر اتصالاً بالأحداث الجارية في الشوارع الآن.
فأي شيء بدءا من التضليل “الديماجوجية” وحتي الاستمناء المصطنع.. أي شيء يهون من أجل سد تلك الفجوة، وغالباً ما يفقد الصواب.
عيون شاخصة للمجهول
ومما يلاحظ على اللوحات الخمس التي رسمها “جيريكو” في لاسالبيتيير”سراي المجانين الواقعة وسط باريس” أن عيون الجالسين شاخصة ببصرها إلى مكان آخر متسائلة.
وهي كذلك لا لأن البصر مصوب إلى شيء بعيد أو متصور، وإنما لأنها اعتادت ألا تسلط النظر على أي شيء، متى كان قريباً.
فكل ما هو قريب يثير الدوار، لا لسبب سوى أن هذا الشيء القريب غير قابل للتفسير حسب الشروح المطروحة، وأغلبها مبني على التمني والتهويم، ولا أقول الخداع فما أكثر ما نلتقي اليوم بنظرات شبيهة ترفض التركيز على الشيء القريب، تلتقي بها في القطارات، أماكن وقوف السيارات، طوابي الحافلات، وساحات التسوق.
ثمة فترات تاريخية يظهر فيها الجنون على حقيقته، بلوى شاذة، نادرة الحدوث.
ولكن ثمة فترات أخرى، مثل الفترة التي نعيشها الآن، فيها يظهر الجنون وكأنه القاعدة، وليس الاستثناء!!