للمخرج الإيطالي”فيديريكو فيلليني” فيلم جعل عنوانه “الحياة اللذيذة” (1959).
ولقد كان من الشخصيات الكثيرة في هذا الفيلم الذي جاء بالشهرة لصاحبه، شخصية مصور مفترس أطلق عليه كاتب السيناريو انيو فلايانو اسم بابارازو.
ويعرف عن “فلايانو” أنه استواحاه من “كوريولانو بابارازو” اسم صاحب فندق في “كاتانزاوا” جاء ذكره في مؤلف لشاعر بريطاني “جورج جيسينج” كان قد أقام في ذلك الفندق أثناء فترة تجواله بأقليم كالابريا في ربوع إيطاليا، وذلك قبل قرن من عمر الزمان وفي أحد المشاهد التي لا تنسى، وما أكثرها في “الحياة اللذيذة” نرى البابارازايين (جمع بابارازو) وتعني الآن المصورين، وقد تجمهروا أمام سلم طائرة، مصوبين عدسات، ولا أقول فوهات الكاميرات نحو الباب انتظارا لـ”سيلفيا” (انيتا اكبرج) النجمة السويدية الأمريكية، القادمة إلى روما لأداء دور مهم في أحد الأفلام.
وما أن انفتح باب الطائرة لتظهر “بلحمها ودمها” حتى انقضوا عليها، لا كبشر، بل كخساس الطير، مفترسين باللقطات.
وهكذا كان “فيلليني” كعهدنا به، سابقاً في كشف إحدى عورات العصر الحديث.
فمن الأكيد، أنه بدءًا من حياته اللذيذة، صارت كلمة”بابارازي” تعني المصوري الذين يطاردون المشاهير، لالتقاط صور لهم، حتى وهم يمارسون حياتهم الخاصة، كسائر البشر بعيدًا عن الأنظار.
عبادة الشهرة
وإنه لجدير بالذكر هنا أن أقول أن هذه الكلمة قد تلازمت مع ظاهرة عبادة الشهرة، تلك الظاهرة التى أفرزها القرن العشرون، وما كانت لتوجد في غياب تكنولوجيات الاتصال الحديثة الكاميرا، الخدمة السلكية، الشاشة الفضية.
والآن “الإنترنت” آخر صيحة في ثورة المعلومات.
وظاهرة عبادة الشهرة بدأت مع نظام النجوم الذي ابتدعته استديوهات هوليوود في منتصف العقد الثاني من القرن العشرين.
فقبل هذا النظام كان أحد لا يدخل في عداد المشاهير إلا اذا كان صاحب انجاز كبير، كأن يكون اكتشف شيئاً ما، أو ألف كتاباً ما، أو انتصر في معركة ما أما الآن فالمشاهير من أمثال الأميرة ديانا ينتمون إلى فصيل آخر.
فلو تساءلنا ماذا أنجزت الأميرة وما هو عطاؤها، لما حصلنا على جواب يشفي الغليل.
فباستثناء، أنها انجبت ولدًا قد يتوج ملكاً لبريطانيا في مستقبل قريب أو بعيد، فهي والحق يقال، لم تكن ثمة وظيفة واضحة لها في الحياة، تؤهلها بفضل انجازاتها فيها لاقتحام عالم المشاهير.
وبهذا المعني يسوغ لنا القول بأن شهرتها من نوع شهرة “جاكلين كيندي أوناسيس” وليست من نوع شهرة “أيفابيرون” أو”مارلين مونرو” أو حتى “جريس كيلي”.
ومع ذلك، فإن نحاول العثور على وظيفة للأميرة الراحلة، بحثاً عن تبرير لشهرتها، أمر فيه، ولاشك خروج عن جادة الصواب فتطور وسائط الإعلام العالمي، وصناعات الترفية كلاهما قد جعل من الشهرة سلعة لها كيانها القائم بذاته، والمستقل إلى حد كبير.
اقتصاديات الشهرة
وعن ذلك كتب “تيلور كووين” أستاذ الاقتصاديات بجامعة “جورج ماسون” بولاية فيرجينيا، في مؤلفه “اقتصاديات الشهرة” ما مفادة أن ثمة صفقة ضمنية بين المشاهير والمعجبين بهم، بموجبها يتحقق لهم الكثير من الأحلام ولكن أعباء الصفقة، قد تتحول بحياتهم إلى كابوس مقيم، وكلاهما أي الحلم المتحقق والكابوس المقيم تزيد من تأثيره وسائط الاتصالات الحديثة.
ونقطة البداية بالنسبة لصفقة من هذا القبيل، هي إقبال المجتمع على طلب المشاهير.
والحق، أن هذا الطلب قد ازداد بشكل مثير للدهشة إبان القرن العشرين ويبدو أن ثمة قوتين تدفعان بالطلب نحو الأزدياد.
قدامى الأبطال
أولاهما رغبة المجتمع الثابتة في أن يكون له رصيد من الأبطال حتي وإن كانوا من فصيل آخر غير فصيل الشاعر بايرون أو الرحالة من أمثال “ستانلي” و”لفنجسون” أو الثوار من عينه “جاريبالدي” و”ارنست جيفارا”.
والأخرى نمو وسائط الإعلام على وجه لم يكن في الحسبان.
فكان أن قامت، نتيجة لذلك قنوات لتوزيع الشهرة بدأت قومية لتصير الآن عالمية، يشمل بثها مشارق الأرض ومغاربها.
وهنا نستطيع أن نقول أن الطلب على الأبطال بالمواصفات القديمة، سواء أكانوا من السياسين أم المحاربين، أخذ في الانحسار منذ مدة بحيث يكاد يكون منعدماً الآن.
فهذا النوع من الأبطال قد فقد، بلا جدال، قدرته على كسب العقول والقلوب.
والبديل له حالياً، نوع آخر متحكم في السوق، من شروطه أن يكون البطل سواء كان من جنس الرجال أو النساء محبوباً من الكاميرا، منفتحاً على الناس.
وفوق هذا أن تكون شخصيته مشوبه بعيب، يثير معه التعاطف والمشاركة في المعاناة.
شروط التسويق
لقد كان التصور للأبطال في العصور الماضية أن يكونوا أقرب إلى الكمال حتى جاء عصرنا ليغير هذا التصور من أساسه وذلك بأن أحل محل صفة الكمال صفة أخرى لم تكن أبداً من صفات الأبطال، ألا وهي ضعف الإنسان.
فتلك الصفة هي المطلوبة الآن كشرط لنجاح تسويق من يجرى إعداده للدخول في عداد المشاهير.
ملكة القلوب
كل هذا كان متوافر بسخاء في الأميرة ديانا فوقوع الكاميرا في أسر حبها، وانفتاحها على الناس البسطاء، رغم أنها أميرة ويلز، وأم لصبي، مقدر له أن يعتلي العرش ليكون ملك بريطانيا في يوم من الأيام كلاهما أمر لا جدال فيه، وكلاهما مهد الطريق لشعبيتها المنقطعة النظير. غير أنه بدون اعلانها على الملأ بأنها مريضة بالاكتئاب والبوليميا.
وبدون اعلانها أن زواجها من ولي العهد زواج غير سعيد وما تبع ذلك من انفصال ثم طلاق عاصف، فمعارك ضارية مع القصر الملكي، أظهرتها بمظهر ضحية تسعى لحماية نفسها بالانتصار.
بدون كل ذلك، ما كان في إمكانها أن تكون بطلة في نظر قطاع كبير من الشعب البريطاني.
وأن تؤهل بفضل ذلك الصعود إلى قمة الشهرة حيث أصبحت ولسنوات، أشهر امرأة على كوكبنا.
علاقات خطرة
والغريب، أنها لم تكتف بكل ذلك بل عملت على إنشاء علاقة مع فتى لعوب كان الوارث الوحيد لأب مسلم، واسع الثراء، يمتلك أكثر المحلات التجارية في بريطانيا أناقة.
ورغم ذلك فطلبه الحصول على الجنسية البريطانية كان محل رفض، لأكثر من مرة من قبل السلطات وليس من شك ان تصرفها هذا وهو آخر تصرف في حياتها الصاخبة القائمة على الكيد لأعدائها في القصر، خاصة ولي العهد، زوجها الأول والأخير، قد كشف عن عبقريتها الفذة في المزاوجة بين الغرام والانتقام!!
وعلى كُلٍ، فإنه لمما يلفت النظر في مشاهير هذه الأيام أمران :
سيطرة الأنجلوسكسون
الأول معظمهم من المتكلمين باللغة الانجليزية وليس محض صدفة أنه، فيما عدا إيفا بيرون، فجميع الشهيرات عالمياً “مارلين”، “جاكلين”، “جريس”، و”ديانا” من المتكلمات بتلك اللغة.
وذلك بعكس ولا شك الهيمنة الأمريكية، الانجليزية، الاسترالية على كل من وسائط الاعلام العالمية، والصناعات الترفيهية.
والثاني أن النساء يشكلن نسبة كبيرة داخل صفوف المشاهير. وهذا يعني أن صناعة المشاهير من الصناعات القليلة التي في وسع النساء أن يتنافسن فيها على قدم المساواة مع الرجال.
وفي هذه الصناعة برزت الأميرة ديانا، بحكم الندرة تلك الصفة التي انفردت بها، دون غيرها من النساء الشهيرات. فهوليوود، على سبيل المثال، في وسعها أن تنتج ما تشاء من النساء الصغيرات الجميلات.
أما أن تنتج نساء صغيرات جميلات تجري في عروقهن الدماء الزرقاء، فهذا أمر دونه خرط القتات.
منتج نادر
وهكذا أصبح لديانا، ذلك المنتج الذي توافرات لعرضه صفة الندرة، سوق عالمية تباع فها صورتها، إذا كانت جيدة ليس في بريطانيا وحدها، وإنما حول العالم شرقاً وغرباً، ويحدث هذا بتكاليف لا تتجاوز قيمه مذكرة صغيرة وكاميرا قيمه تحسن التصوير من قريب أو بعيد.
وهي تكاليف ضئيلة، خاصة إذا ما جرى مقارنتها بالأرباح المحتلمة، فيما لو نشرت الصورة على نطاق واسع. وأن يكافأ المشاهير، فهذا أمر ليس حوله جدال.
وليس من شك أن الاستتحسان أحد الصور التي يجري مكافأتهم بها. وهو لا يكلف المجتمع إلا أقل القليل وأعباء تكلفته يكاد يتساوى في تحملها الفقراء مع الأغنياء.
وهذا يعني أن الشهرة في جوهرها سلعة قوامها المساواة في الاستحسان الذي يضفيه خاصة وعامة الناس على المشاهير.
الجاه والمال
ومع ذلك، فمعظم المشاهير يفضلون أن تكون المكافأة بالمال، يغدق عليهم بالملاين فنجوم السينما، والمغنون، ولاعبو الكرة، ومصممو وعارضات الأزياء يرون شهرتهم منعكسة بغير لف ودوران فيما يدفع لهم من أجور أو في مبيعات المنتجات المتصلة بها أسماؤهم عن طريق الاعلان.
وفي رأي “تيلور كووين” صاحب “اقتصاديات الشهرة” أن ثمن مشاركة المشاهير بصورهم أو بأسمائهم في الدعاية للمنتجات قد ارتفع خلال السنوات الأخيرة ارتفاعاً فلكياً.
ولا غرابة في هذا فتأجير وجه مشهور في عالم معلوماته لا تنفد صار إحدى وسائل التميز والتفوق على الآخرين في أسواق تشتد فيها حرب المنافسة على وجه غير مسبوق.
هذا، ونادراً ما يجني المشاهير من أعضاء العائلات المالكة ثمار هذا النوع المباشر من المكافآت، وإن كانت “سارا فيرجسون” زوجة شقيق ولي العهد قد جنت أربعة أو خمسة ملاين دولار خلال شهور قليلة من بيع سيرة حياتها والدعاية لبعض المنتجات.
وعند هذا المنحنى من سياق الحديث أرى أنه قد يكون من المناسب أن أقول:
الأميرة والعظمة
أولاً أن الأميرة الراحلة لم تقاس من مطاردة الصحافة لها، حتى في حياتها الخاصة. بالعكس كانت سعيدة كل السعادة باستمرار تسليط الأضواء عليها، دون انقطاع مغتبطة في أغلب الأحوال، باهتمام الصحفيين بها، الذي كان أشبه باهتمام الكلاب.
ومن حين لآخر كانت تلقي لهم بعظمة سرعان ما تظهر في اليوم التالي منشورة بعناوين مثيرة على صفحات إحدى الجرائد الشعبية الصفراء، بوصفها أي العظمة خبراً انفردت به عالمياً.
وثانياً أن الشهرة وإن كانت تحقق لمعظم المشاهير أحلامهم في الجاه والمال إلا أنها تتعهدهم في الوقت نفسه، بمخاطر جسام فهي في تقدير “كووين” تجنح إلى الاضرار بالمشاهير.
ووفقا لحساباته فنسبة مرتفعة من المشاهير تعاني من مرض القلب والفشل الكلوي وادمان الخمور والمخدرات.
لعنة الشهرة
وكثيرٌ منهم يفارقون الحياة في سن مبكرة، مارلين مونرو بالانتحار وهي في السادسة والثلاثين.
ايفا بيرون بالسرطان، وهي في الثالثة والثلاثين، أميرة موناكو “جريس كيلي” والأميرة ديانا كلتاهما بالقتل في حادث سيارة، وليس لهما من العمر سوي اثنين وخمسين، وستة وثلاثين على الترتيب وهو أي “كووين” على ظن يبلغ درجة الرجحان الشديد بأن هذه الظاهرة إنما ترجع إلى أن السعادة لا تنبع في الغالب الأعم إلا من الإنجاز.
ولأنه بعد الوصول إلى قمة الشهرة غالباً ما يفقد معظم المشاهير القدرة على تحقيق أي أنجاز ولو كان صغيراً، فسرعان ما تنتاب بعضهم حاله من الاكتاب تنتهي بهم بائيسن ومما يزيد حالتهم سوءًا وسائط الإعلام المتربصة لهم، المترقبة أي خطأ يرتكبونه ولو كان صغيراً، لتهول من شأنه على وجه، يجعل من حياتهم جحيماً، ويتحول بشهرتهم من نعمة إلى لعنة.