سيرة حب كبير

سيرة “فيديريكو فيلليني” وزوجته وشريكة عمره “جولييتا مازينا”، لعلها، من أغرب سير مشاهير السينما، وما أكثرهم في هذه الأيام.

فكلاهما ولد في العام العشرين من القرن الماضي، ولو كان قد كتب لهما أن يعيشا حتى يومنا هذا، لكان لهما من العمر الآن ثمانون عاماً بالتمام. وكلاهما فارق الحياة، ولما يمض على مفارقة الآخر لها سوى بضعة شهور، أي في نفس العام.

وبمناسبة مرور ثمانين عاماً على مولدهما جرى عرض ثمانية أفلام من إبداع “فيلليني” في المعهد الثقافي الايطالي، لعبت “مازينا” الدور الرئيسي في ثلاثة منها، وهي”الطريق”، “جولينا والأرواح” و”چنچر وفريد”.

والفيلم الأخير، ولنفس المناسبة، قد جرى عرضه في الملتقى الثقافي السينمائي بالمجلس الأعلى للثقافة.

وليس ثمة شك في أن أشهر تلك الأفلام التي جرى عرضها احتفالاً بتلك المناسبة، هما الطريق والحياة اللذيذة.

فبفضل أولهما فاز “فيلليني” بأوسكار أفضل فيلم أجنبي. وبفضله أصبح نجماً عالمياً، تتخاطف أفلامه المهرجانات، حيث تفوز، هي ومبدعوها، بأعز الجوائز وبثناء النقاد.

ولن أتحدث عن “الحياة اللذيذة” ثامن أعماله والفائز بسعفة كان الذهبية، قبل ثلاثين عاماً، أو يزيد.

بداية ونهاية

لن أتحدث عنه، وكيف بدأ بفاتحة لا تنسى، إذ نرى طائرة عمودية، تحمل تمثالاً للسيد المسيح، محلقة به فوق روما وكنيسة القديس بطرس في الأفق البعيد.

ولا كيف انتهى الفيلم، مع فجر ليلة عربيدة، والسكارى يتوجهون إلى الشاطئ، حيث سمكة عملاقة ترقد ميتة على الرمال.

لن أتحدث عن ذلك، وغيره كثير لا لسبب سوى لزوم قصر الحديث على أفلام “فيلليني” التي شاركت فيها “مازينا” بالتمثيل، وبالتحديد الأفلام التي جرى عرضها بمناسبة الميلاد.

ولا يفوتني هنا أن أذكر أنه أسند إلى شريكة حياته أدواراً بعضها رئيسي، وبعضها الآخر ثانوي في سبعة أفلام، من بينها فيلمان فاز كلاهما بأوسكار أفضل فيلم أجنبي، وهما الطريق (1954) وليالي كابيريا (1957).

كما لا يفوتني أن أذكر أن “جولييتا والأرواح”، الذي لعبت فيه “مازينا” الدور الرئيسي، كان أول فيلم طويل يصوره “فيلليني” بالألوان. ورغم أهميته، فسأقصر الحديث، لضيق المجال، على “الطريق” و”چنچر وفريد”.

لحن خالد

والفليم الأول، يعتبر، والحق يقال فتحاً مبيناً للزوجين، بفضله أشتهرا، ولولاه لما أصبح كلاهما نجماً، يشار إليه بالبنان. وهو من الأفلام القليلة التي في وسعها التأثير، إلى حد استدرار الدموع من العيون.

ومن عجب إنه لا يزال له ذلك التأثير. ولا غرابة في هذا، فهو فيلم بسيط كل البساطة، به سما صاحبه إلى مرتبة القصيد السينمائي. واختيار الطريق اسماً له، اختيار صادفه التوفيق إلى حد كبير.

فوقائعة تكاد لا تحدث إلا في الطريق أو في الساحات المهجورة التي يخترقها، أو على الشواطئ الممتدة بينه وبين بحر الادرياتيك.

جمال البساطة

ورغم بساطة، ولا أقول سذاجة الفكرة القائم عليها الفيلم، وهي تخلص في شدة احتياج الإنسان إلى التواصل، وخطورة الوحدة والانعزال، إلا أن “فيلليني” نجح في التعبير عنها بأسلوب رفيع المستوى، يغلب عليه الاهتمام بأدق التفاصيل.

وقصة الطريق تدور حول ثلاثة، رجلين وفتاة والرجلان هما “زامبانو” ويؤدي دوره “انطوني كوين” والماتو “المجنون” ويؤدي دوره “ريتشارد بيزهارت”. أما الفتاة، واسمها “جيلسومينا” فتؤدي دورها “مازينا” التي أدت دور الفتاة البريئة بأسلوب قوامه التعبير إيمائياً، أي بالإشارات، الأمر الذي أدى إلى مقارنتها “بيستر كيتون” و”شارلي شابلن” و”مارسيل مارسو”.

و”چنچر وفريد” من أفلام مرحلة، “ما بعد سينما” التي تأثر فيها “فيلليني” بكتابات “آدلر” في علم النفس، وخاصة ما كان منها متصلاً بالأحلام.

والفيلم تبدأ أحداثه في محطة السكة الحديدية في روما، والقطار الذي تستقله “اميليا” (مازينا)، يدخلها متهادياً، وينتهي بها، والقطار يغادرها، وهي أي مازينا، راحلة من المدينة الخالدة، بعد أن ودعت “بيبو” (مارشيلو ماسترويني)، ربما الوداع الأخير.

الشوق والحنين

أما لماذا جاءت، ولماذا غادرت روما، بعد يوم وبضع ساعات، فذلك ما يحكيه بالتفصيل فيلم فيلليني، آخر أعماله مع زوجته، ونجمه المفضل “ماستروياني”.

وأهمية الفيلم ترجع إلى أنه عمل دامغ للتليفزيون، بطريقة ساخرة، غير مباشرة، ليست في وسع أحد سوى “فيلليني” الساحر.

ففيه يفضح الشاشة الصغيرة، وهي تذيع، أو بمعنى أصح، وهي تذبح استعراضاً للمتنوعات، ذلك النوع من الترفيه المحبب إلى قلب المخرج الكبير.

وقصة الفيلم تدور حول لقاء يقطر حنيناً بين راقصة وراقص من مسرح المتنوعات، كانا يقلدان “چنچر روجرز” و”فريد استير” الراقصين الأمريكيين ذائعي الصيت في أثناء عقد الثلاثينات.

GINGER AND FRED, Marcello Mastroianni, Giulietta Masina, 1986

وهما يلتقيان كي يرقصا معاً في برنامج متنوعات تليفزيوني بمناسبة أعياد الميلاد. وسعياً منهما لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء، يحاولان أن يرقصا كما كانا يرقصان في سالف الزمان.

ولكن هيهات، فالشيخوخة دبت في أطرافهما، وهما الآن مجرد عجوزين، ولا أقول شبحين.