قصة السينما المصرية

هي قصة حب بين المصريين، وبين ما هو في حقيقة الأمر لغة العصر، لغة فيها الشيء الكثير من روح الكتابة على جدران المعابد والتماثيل وأوراق البردي أيام الفراعين، فما أن تحركت الصور قريباً من منتصف العقد الأخير من القرن التاسع عشر على جانبي ما كان يُسمى قبل خمسائة عام ببحر الظلمات، وذلك بفضل الأمريكي “توماس الڨا أديسون” (1894)، والأخوين الفرنسيين “أوجوست ولويس لوميير” (1895) وكثرين غيرهم من المخترعين المجهولين، حتى آثار تحركها لدى المصريين الفضول والشوق والحنين.

ولم يكن غريباً – إذن – بعد أول عرض سينمائي على شاشة بيضاء كبيرة أمام جمهور مقابل تذاكر مدفوعة الثمن في باريس (28/12/1895)، أن يتوثب العقل بعزم وتصميم على أن يجري عرض مماثل على أرض مصر في وقت قريب وسرعان ما تحقق ذلك في العام التالي مباشرة لعرض باريس أولاً في الإسكندرية بإحدى قاعات طوسون باشا مقابل أربعة قروش للرجال (5/11/1896).

وفي القاهرة بعد ذلك بأيام (28/11) بقاعة حمام شنيدر حيث توالت خمس عشرة صورة من “موضوعات مسلية وناجحة إلى حد الكمال” كان من بينها “وصول القطار إلى محطة ليون”!!

ورغم هذا الولع الشديد بالفن الجديد الوليد، فإن استيراد المعدات اللازمة لابداع الأفلام، وبناء الاستديوهات، ودور العرض المجهزة بأحدث الآلآت، كل ذلك، وهو لازم لإقامة بنية سينمائية صناعية متكاملة، لم يكن بالأمر اليسير.

وها هنا فلنتمهل ولنتأمل قليلاً ما نستطيع أن نسترجعه على شاشة ذاكرتنا من أحداث وقعت في أثناء الفترة بين تاريخ أول عرض سينمائي في مصر وإعلان الحماية البريطانية إثر نشوب الحرب العالمية الأولى.

أهم حدث، ولاشك، هو استقرار الأمر للاحتلال الانجليزي لأرض مصر والسودان، وبدء حركة المطالبة بالاستقلال.

ومن آثار هذا الاحتلال تأخر إدخال صناعة السينما إلى ما بعد ثورة 1919 التي أرجعت إلى مصر بعضاً من استقلالها السليب.

وعلى كل، فخلال تلك الفترة القاتمة، جرى تصوير بعض الأحداث المصرية مثل جنازة مصطفى كامل (8 أغسطس 1909) وسفر المحمل الشريف (أكتوبر 1912) وتم بناء عدد من دور العرض القابلة لسرعة الاحتراق وأخذ شبح يتهدد الفن الوليد، شبح الرقابة تطل على السينما بوجهها القبيح.

وما أن اقتربت الحرب العالمية من إلقاء سلاحها، حتى كان قد ظهر أول ممثل سينمائي مصري “محمد كريم” في فيلم “شرف البدوي” (1918) حيث أدى دور عسكري، ومن بعده ظهر في فيلم ثان “الأزهار المميتة” الذي منعت الرقابة عرضه لأن سطور آيات القرآن الكريم بدت في بعض لقطاته مقلوبة، وكلا الفيلمين من إنتاج الشركة السينمائية الإيطالية التي توقفت بعد ذلك عن العمل تماماً، وبيعت معداتها ومعاملها إلى المصور الإيطالي “الفيري اورفنيللي”.

وللأخير فضل تصوير “مدام لوريتا” (1919) للمخرج الإيطالي “ليورنار لاريتشي”، وهو أول فيلم تسند بطلولته إلى ممثل مصري “فوزي الجزائرلي” ذلك الكوميدي الذي اشتهر، عندما تكلمت السينما، بأدائه لدور المعلم “بحبح” أمام ابنته “إحسان” وزوجته تحت اسم “أم أحمد” في الأفلام.

ومن الأعمال السينمائية التي جرى إنتاجها في أثناء الفترة التالية لانتهاء الحرب مباشرة، فيلمان أحدهما وثائقي سجّل جنازة الزعيم الوطني “محمد فريد” (يونية 1920) والآخر روائي قصير “الخالة الامريكانية” (1920) مأخوذ عن مسرحية “الخالة تشارلي”، ودور البطولة فيه، وهو دور رجل متخف في ثياب امرأة، أداه نجم المسرح الشهير “علي الكسار” الذي كان يعرف باسم “بربري مصر الوحيد”.

وتظهر تباشير التمصير، بعد أن مر من الأيام ثلاثة أعوام، فها هو ذا “محمد بيومي” بعد أن عاد من المانيا حيث درس فن السينما والتصوير، يقف وراء الكاميرا ليكون بذلك أول مصري ينتج ويصور أول جريدة سينمائية “آمون” تلك الجريدة التي كان لها فضل تسجيل عودة سعد باشا من المنفى (1923) وهو التسجيل الوحيد لذلك الحدث الكبير.

وأول مصري يخرج ويصور فيلماً روائياً قصيراً أسماه “الباشكاتب” (1924) مدته نصف ساعة، وتكّلف حوالي مائه جنيه وقصته تدور حول باشكاتب يقع في غرام راقصة، فيختلس مبلغاً من المال ينفقه عليها، وينتهي به الأمر مسجونا.

ومن هذا الفيلم الروائي القصير خرجت صناعة السينما المصرية، كما خرج المارد من القمقم في حكايات ألف ليلة وليلة.

فلم يمر سوى ثلاثة أعوام على باشكاتب “محمد بيومي” إلا وكان الأخوان “إبراهيم وبدر لاما” في الإسكندرية ينتجان فيما روائياً طويلاً أسمياه “قبلة في الصحراء”.

وكانت “عزيزة أمير” تنتج وتمثل في القاهرة فيلماً روائياً طويلاً اسمته “ليلى”.

 بلغ عدد الأفلام الروائية الطويلة المنتجة خلال نصف قرن من عمر الزمان،حوالي ألف وسبعمائة وخمسين فيلماً، وتحققت للسينما المصرية مكانة لم تتحقق لأية سينما أخرى في أي قطر من أقطار الوطن العربي أو في أي بلد من بلاد قارتنا أفريقيا.

والحق أن مراحل حياة السينما المصرية بدءا من عام 1927 وحتى يومنا هذا، هذه المراحل لم يكن منفصلاً بعضها عن بعض بفواصل حادة، ففي كل مرحلة يحدث أن تزدهر وتظهر عناصر كانت في حقيقة أمرها موجودة كما توجد الأجنة في الأرحام.

فبعد الرواد الأوائل الذين أخرجوا أفلاماً روائية طويلة، وأهمهم بلا جدال “محمد كريم” الذي أخرج أول فيلم مصري مأخوذ عن قصة للأديب المصري محمد حسين هيكل ألا وهي “زينب” (1930) وأول فيلم مصري متكلم “أولاد الذوات” (1932) الذي قام بأداء الدور الرئيسي فيه “يوسف وهبي” أمام “أمينة رزق” وأول فيلم للمطرب والموسيقار “محمد عبد الوهاب” “الوردة البيضاء” (1933).

وكان، علاوة على ما تقدم، أول عميد لمعهد السينما الذي أنشأته وزارة الثقافة في أعوام الستينات، وتخرج فيه معظم مبدعي الأفلام الذين تقوم على أكتافهم صناعة السينما الآن، أذكر من بينهم المخرجين “إيناس الدغيدي”، “إبراهيم الموجي”، “أشرف فهمي”، “بشير الديك”، “خيري بشارة”، “داود عبد السيد”، “رأفت الميهي”، “سمير سيف”، “شريف عرفة”، “عاطف الطيب”، “عطيات الأبنودي”، الأخوين”عمر ومحمد عبد العزيز”، “نادر جلال” و”هاشم النحاس”.

وغير هؤلاء كثيرون من كتاب السيناريو والمؤلفين والمصورين وسائر المتنخصصين في فروع السينما الأخرى.

وأعود إلى الرواد الأوائل لأقول إنه ظهر بعدهم في منتصف أعوام الثلاثينات وليد جديد “استديو مصر” الذي انشأته شركة مصر للتمثيل والسينما التابعة لبنك مصر “طلعت حرب”.

وإنشاء هذا الاستديو يعتبر مرحلة من أهم مراحل تطور صناعة السينما المصرية، فقد كان أول استديو مجهز تجهيزاً كاملاً، وأول استديو يتبع نظام العمل في شركات السينما الكبرى، وبخاصة هوليوود، باختصار كان بمثابة مدرسة جديدة في السينما، قفزت بالفيلم المصري خطوات واسعة إلى الأمام.

وليس محض مصادفة أن يجئ إنشاؤه في سنة 1936 أي سنه إلغاء الامتيازات الأجنبية التي كانت قد أعطت الغرباء حق التسلط على المصريين.

ومن أبرز أفلام استديو مصر “وداد” أول فيلم لكوكب الشرق أم كلثوم  و”لاشين”، الذي أسرعت الرقابة بمنعه و”سلامة في خير ” و”سي عمر” وكلاهما من إخراج نيازي مصطفى وتمثيل نجيب الريحاني و”العزيمة” للمخرج كمال سليم، وهو يعتبر أول فيلم مصري صور الحياة في حي شعبي، وجاء متضمناً نقداً لبعض العيوب التي يعاني منها المجتمع وبخاصة أزمة المتعطلين و”مصنع الزوجات” للمخرج “نيازي مصطفي” و”غرام وانتقام” آخر فيلم للمطربة “اسمهان”.

أما أبرز مخرجيه، فهم ولا شك، “كمال سليم” و”أحمد بدرخان” صاحب فيلمي أم كلثوم “نشيد الأمل” و”دنانير” وفيلم “مصطفى كامل” و”نيازي مصطفى” الذي مات قبل خمسة أعوام مقتولاً بعد أن كان قد أخرج حوالي مائة وخمسين فيلما!!

ومن تلاميذ مدرسة استديو مصر برز اسم مخرج واعد “صلاح أبو سيف” الذي أبدع أول أفلامه “دايماً في قلبي” (1946).

وتواصل السينما المصرية مسيرة التطور والصعود والارتقاء بفضل مخرجين آخرين من خارج الاستديو الكبير، أذكر من بينهم على سبيل المثال “أحمد جلال” و”توجو مزراحي”، “حسين فوزي”، “أنور وجدي” و”حسن الإمام”.

وبفضل ثورة يولية 1952 التي اتاحت الفرصة لكوكبة من المخرجين الجدد المجددين أن تبدع أفلاماً أخذت صوراً مختلفة عند “صلاح أبو سيف”، “توفيق صالح”، “كمال الشيخ”، “يوسف شاهين”، “هنري بركات”، “فطين عبد الوهاب”، “حسين كمال”، “شادي عبد السلام”، “محمد خان” وغيرهم ممن تخلصوا من الرؤية السينمائية القديمة إلى الأفكار والأشياء.

ومما يلفت النظر في أفلام هؤلاء المخرجين أنها في معظمها إما مأخوذة عن قصص لأدباء مصريين مثل شباب امرأة، بداية ونهاية، المتمردون، اللص والكلاب،البوسطجي، الأرض، الحرام يوميات نائب في الأرياف، ثرثرة فوق النيل، والسقا مات، أو قائمة على سيناريوهات مبتكرة لبعض هؤلاء الأدباء مثل درب المهابيل “ريا وسكينة” و”الوحش” وهي جميعاً من إبداع “نجيب محفوظ”.

غير أن ثمة عدداً قليلاً من بين هذه الأفلام يقوم على سيناريو مبتكر من إبداع المخرج دون شريك.

وخير مثل على ذلك ثلاثية يوسف شاهين حول سيرته الذاتية التي بدأت بـ”اسكندرية ليه” وانتهت بـ”اسكندرية كمان وكمان”.

وفيلم شادي “المومياء” أو “ليلة حساب السنين” (1969) الذي استحدث طريقة في السرد، جعلت صوره أقرب إلى رسومات جدران المعابد في عصور الفراعين.