لبنان فوق‭ ‬بركان

لم تكن الحرب الأهلية اللبنانية، التي استمرت زهاء عشرين سنة، كغيرها من الحروب التى يقتتل فيها أبناء الوطن الواحد.
كانت حربا طائفية، وقف عندها التاريخ ليقول فى وصفها قوله الفصل، بأنها أقذر حرب أهلية ابتلى بها وطن من الأوطان.
خرج من اتونها لبنان الشقيق، مثخنا بالجراح، مبتليا بميليشيات حزب الله، التى لا تدين بالولاء إلا لملالى ايراني.
وفوق هذا، باحتلال سورى لأرضه، زاد من الاحتقان الطائفي، على نحو يهييء الظروف، لا محالة، لحرب أهلية ثانية، ربما أكثر شراسة وسفكا للدماء.
أهوالها لن تقف عند حد قتل المسيحى للمسلم، أو العكس، لمجرد الهوية، كما كان عليه الحال فى الحرب الأهلية الأولي، بل ستتحول الى اقتتال بين المسلم وأخيه المسلم، لمجرد أن أحدهما سني، والآخر شيعي، بحيث يغرق لبنان، فى مستنقعات تعصب ديني، لا أول له، ولا آخر، وتفتت اجتماعي، غير مسبوق.
فضلا عن شيوخ السلاح، وفوضى عارمة، وبغضاء، لا تقيم وزنا لحياة كل مختلف فى الرأى والدين.
وعن كل هذه الأحوال التى قاسى منها لبنان ابان سنوات الحرب الأهلية الأولي. أبدع “دينيس فيلنيف”، وهو مخرج كندي، منحدر من أصل فرنسي، فيلما مستوحى من مسرحية شعرية للأديب اللبنانى “وجدى موواد”، حكى فيها مأساة الفتنة الطائفية، وكيف كادت عاصفتها المميتة، أن تفقد الشعب الوعى بضرورة المواطن، بحيث غدا جاهلا بمغزاها، تائها فى ظلمات الطائفية، مسكونا بكراهية الآخر، لمجرد أنه مختلف عنه، دينا، أو عنصرا، أو اسلوبا فى ممارسة الحياة.
والفيلم، واسمه “حرائق”، لا يقول صراحة أن أحداثه الفاجعة مكانها لبنان.

incendies ومع ذلك، نخرج منه، ونحن على يقين، ان لبنان، وليس بلدا آخر، هو مكان الفواجع التى كادت تحطم بطلة الفيلم “نوال مروان”- وتؤدى دورها “لبنى عزابال” – التى سبق لنا مشاهدتها فى الفيلم الفلسطينى الرائع “الجنة الآن”.
وأحداث الفيلم تبدأ – بعد مشهد رعوى لنخيل فى جو صحراوي، وبضع لقطات لصبية.
فى مكتب محام بمدينة “مونتريال”، حيث كانت تعمل “نوال” الى أن جاءها الموت، مخلفة وراءها رسالتين احداهما الى الابنة “جان”، ومنها الى أبيها الذى لم تكن تعرف، لا هي، ولا شقيقها التوأم “سيمون”، انه لا يزال حيا.
والأخرى الى الابن، ومنه الى أخ، لم يكن، لا هو، ولا شقيقته، يعرف بأن له وجودا.
وبدءا من استلام الرسالة، وتنفيذا منها لوصية الأم، تبدأ “جان” رحلة البحث عن أبيها، فى بلد عربى “لبنان”، وبعدها بقليل، يبدأ “سيمون”، هو الآخر، رحلة البحث عن أخيه.
ومن خلال رحلتى الاثنين: كلا فى طريق، نكتشف، وبخاصة مع “جان” أن أمها “نوال” ولدت مسيحية، ووقعت فى حب لاجيء فلسطينى مسلم.
ولأن حبها هذا، كان فى ذلك الزمن حالك السواد، حبا مستحيلا، انتهى بها الأمر، هاربة فى رحلة عذاب، بعد مقتل حبيبها، أمام عينيها، برصاصة، انطلقت من غدارة أحد أشقائها وأثناء رحلتها هذه، ذاقت ألوانا من العذاب، يشيب من هولها الولدان.
فالناس، من حولها، الذين لم يكن من طبيعتهم العدوان، تحولوا الى مجرمين، يمارسون القتل فى كلا الجانبين، المسيحى والمسلم باسم السماء.
وعندما حصد الموت آلاف الأرواح البريئة، استغنوا عن مساندة السماء، مستمرين فى ذبح الأبرياء، استجابة لنداء الثأر، والانتقام.
ولن أحكى كيف توصل التوأم “جان” و”سيمون” الى الالتقاء، هى بالأب، وهو بالأخ، فذلك شيء يطول، مكتفيا بأن أقول، بأن المفاجآت التى صادفها الاثنان، أثناء رحلتيهما، كشفت النقاب، عما ارتكب ابان الحرب الأهلية من جرائم، يندى لها الجبين.
يبقى لى أن أقول أن “حرائق” كان أحد أفلام خمسة، غير متكلمة باللغة الانجليزية، جرى ترشيحها لأوسكار أفضل فيلم أجنبى (2011).
وحتى يومنا هذا، لم تتح له فرصة العرض العام، لا فى دور السينما العادية، ولا ضمن عروض أى نادى سينما، ولا أى مهرجان من تلك المهرجانات المنتشرة فى ربوع مصر دون أن يحقق أى منها، ما علق عليه من آمال!!