نظرة علي الحرب في السينما الأمريكية

الحرب ما هي إلا استمرار للسياسة ولكن بوسائل أخرى هكذا قال الجنرال والمؤرخ العسكري كارل فون كلاوزڨيتس.

وقد يبدو غريباً أن يكون أصحاب مصنع الأحلام في هوليوود هم أكثر الناس فهما لتلك المقولة الحكيمة التي جاءت على لسان هذا الجنرال الألماني قبل قرن ونصف من عمر الزمان، والتزموا بها فيما ينتجون من أفلام.

إذ لوحظ على امتداد ما يقرب من ثمانين عاماً، أنه ما أن تجنح الدوائر الحاكمة في الولايات المتحدة إلى تبني سياسة مؤداها الانجراف بالبلاد إلى الحرب، حتى تبادر هوليوود إلى دعم تلك السياسة بالدعاية لها عن طريق السينما.

فإذا ما هبت العاصفة المميتة واندلعت نيران الحرب، كانت عاصمة السينما المرصعة سماؤها دائماً وأبداً بأحلى وأشهر النجوم، في مقدمة صفوف الذين يدقون طبولها باعتبارها أعدل وأجمل، وربما آخر الحروب.

وفي الحق، فلا غرابة في كل هذا، فالسينما كما هو معروف للقاصي والداني، لغة العصر، وهي باعتبارها كذلك أداة دعاية لا تعلو عليها أية أداة أخرى، مهما كان علو شأنها في سالف الزمان.

ولعله من المناسب هنا أن أحكي رواية، قد تبدو لأول وهلة، ولمن لا يستطيع صبراً، أنها منبتة الصلة بالحديث عن الحرب وهوليوود.

السحر الخفي

قبل ستين عاماً وبالتحديد يوم التاسع عشر من شهر يناير لعام 1932 سافر الدكتور جوبلز- وهو واحد من أهم أفراد العصابة النازية التي تحكمت في مصير الشعب الألماني بالحديد والنار لفترة سوداء دامت ثلاثة عشر عاماً، وليس ألف عام كما كان مدبراً لها – سافر في رفقة زعيمه “أدولف هتلر” إلى مدينة ميونيخ حيث تدارسا احتمالات قيام الزعيم بترشيح نفسه لرئاسة الجمهورية.

ولمدة شهر أو يزيد، ظل الزعيم المهيب متردداً بين الإقدام على الترشيح وبين الإحجام.

وعن ذلك كتب الدكتور في اليوم الأخير من يناير مسجلاً في مذكراته “الزعيم سيتخذ قراره يوم الأربعاء.. وهذا لم يعد محل شك”.

وفي الثاني من شهر فبراير ظن الدكتور أن الزعيم الملهم قد اتخذ القرار المناسب، فكتب متفائلاً:

“لقد قرر أن يرشح نفسه”، غير أنه سرعان ما استدرك قائلاً أن قرار الزعيم لن يعلن على الملأ ترقباً لما سيفعله الاشتراكيون الديمقراطيون.

وفي اليوم التالي اجتمع قادة العصابة في عاصمة بافاريا متوقعين من الزعيم أن يزف إليهم البشرى.. ولكن خاب ما توقعوه.

وعن هذه الواقعة كتب الدكتور غاضباً “لقد انتظروا دون جدوى.. وكانت أعصاب الجميع مشدودة متوترة..”.

وبحثاً عن راحة النفس تسلل الدكتور الصغير إلى حيث شاهد “جريتا جاربو” في واحد من أفلامها.

فكان أن “تأثر واهتز كل ما فيه” لتلك السيدة التي تعتبر “أعظم ممثلة”.

ص 156 من كتاب “صعود وانهيار الرايخ الثالث” لصاحبه “ويليم شيرر” الطبعة الانجليزية الأولى.

ولست أقصد من رواية هذا الجزء من سيرة الديكاتاتورالنازي ورجل دعايته الدكتور الصغير الذي كان له فضل الانتقال بالانسانية إلى زماننا المعاصر، زمن الكذب الكبير – لست اقصد به التذكير بسيرة هتلر وتابعه، فأنا لا أطيق لهما ذكراً.

أن ما أقصده ينحصر في بيان مدى تأثير سينما هوليوود باعتبارها فكراً يخدم سياسة تقف وراءها مصالح أغنى وأقوى دولة في العالم.

فرجل الدعاية الأول في ألمانيا الهتلرية، يهتز كل ما فيه بطيف جاربو، ويسترد راحته النفسية بعد انفراده بنجمة هوليوود الأولى في الظلام، وهي تتحرك على الشاشة البيضاء.

وها هو ذا في تعليقه متأثراً بدعاية شركة “مترو جولدن ماير” (لصاحبها وقتذاك “لويس ماير” وهو يهودي أي من الجنس الملعون عند داعية النازية الأول) يردد أسطورة أنها أعظم ممثلة يرددها كالببغاء.

وإذا كان هذا هو حال “جوبلز” مع السينما الأمريكية ومدى تأثره بها، وهو الوزير المتعصب الكاره لكل فن آت من وراء المحيط باعتباره فناً غير نقي ملوثاً بفكر السود واليهود.. فما بالك بحال المتفرج العادي الذي لا يحمل أي عداء مرضي أو كراهة عنصرية للفن الأمريكي.

هيمنة هوليوود

ويلاحظ هنا أن هذا التأثير الذي حدث للسينما الأمريكية على كل من يقبل على مشاهدتها صديقاً كان أو عدواً، كبيراً كان أو صغيراً، إنما يرتد إلى الحرب العالمية الأولى تلك الحرب التي نقلت السيادة على العالم إلى الدوائر الحاكمة في الولايات المتحدة.

وفي سبيل المحافظة على تلك السيادة العالمية التي تدعمت بالانتصار على دول المحور (المانيا وايطاليا واليابان) في الحرب العالمية الثانية، كان لا مندوحة لتلك الدوائر عن استعمال السينما – وهي أكثر الفنون شعبية – سلاحاً فكرياً للسيطرة على عقول الملايين.

ولا غرابة في هذا الجنوح، ذلك أنه من المسلمات – الآن- الآن أن الفيلم سلعة ذات طابع خاص، يجري انتاجها بغاية أن يتحقق من وراء تسويقها ربح لأصحاب الأموال المستثمرة فيها، فضلاً عن أنها بحكم طبيعتها الخاصة تلك تحمل فكراً، هو في الغالب الأعم، فكر أهل القمة المتحكمين في شئون العباد.

وخلاصة القول إذن هو أن السينما تعود على الدوائر الحاكمة وراء المحيط بفائدتين:

الأولى: الأرباح الناتجة مباشرة عن تسويق الفيلم، وعادة ما تكون أرباحاً ضخمة يسيل لها اللعاب.

والثانية: وهي الفائدة الأهم – ضمان استمرار السيادة للأفكار والقيم التي تدعم بقاء تلك الدوائر مهيمنة.

ولعل في هذا ما يفسر شدة الاهتمام في الولايات المتحدة بالفيلم باعتباره صناعة وتجارة ومخدراً.

فالرئيس الراحل فرانكلين د. روزفلت يفاخر به الأمم قائلاً “حيثما يعرض الفيلم الأمريكي نبيع مزيداً من القبعات والجراموفونات والثلاجات الأمريكية”.

(ص17من كتاب “تقديم لنادي السينما” لصاحبه “فينست بينيل” طبعة فرنسية)

والجنرال ماك ارثر يتوجه بالشكر إلى أفلام هوليوود، ويثني عليها لمساهمتها الرائعة في توجيه الشعب الياباني الوجهة التي تريدها له سلطات الاحتلال.

(ص8 من كتاب “الفيلم في معركة الأفكار لصاحبه جون هوارد لوسون طبعة امريكية)

ووزارة الخارجية الأمريكية في عهد الرئيس “ترومان” تمارس الضغط على الحكومة الفرنسية، حتى تجبرها على توقيع اتفاقية بلوم – بيرنز التي فتحت بموجبها السوق الفرنسية لغزو الفيلم الأمريكي.

الوهم والحقيقة

وأعود إلى الحرب لأقول أنها بدءًا من صيرورة هوليوود عاصمة للسينما العالمية، وهي تستهوي صانعي الأطياف، إلى حد أن حماسهم لها قد حملهم على انتاج أفلام كثيرة عنها، تزيد في عددها على عدد أي أفلام تدور حول أي موضوع آخر.

(ص104من كتاب “الأفلام العظيمة” لصاحبه “ويليم باير” طبعة أمريكية)

ورغم أن هذه الأفلام، وهي تعرض للحرب، كان لابد أن تصور بعضاً من فظائعها وبشاعتها التي لا تقف عند تشويه الأجساد وازهاق الأرواح وتخريب العامر من الأرض، وما شابه ذلك من عذابات وآلام، إلا أنها في عمومها كانت أفلاماً تبرر الحرب تارة باسم الحرية، وتارة باسم العدالة، وتارة باسم الشجاعة، بل كثيراً ما كانت تجنح صراحة إلى تمجيدها باعتبارها مطهر من الآثام.

وأضرب مثلاً على هذا النوع من الأفلام التي تنطوي على تمجيد للحرب بفيلمين، أحدهما صامت، والآخر متكلم متعدد الألوان.

والفيلم الأول واسمه “أجنحة” (1927) لصاحبه المخرج “ويليم  ويلمان” مداره التمجيد لبطولات سلاح الطيران الأمريكي من خلال مأساة شابين أسقط أحدهما طائرة الآخر خطا أثناء إحدى المعارك الجوية في سماء أوروبا أبان الحرب العالمية الأولى.

ومما له دلالة في هذا الخصوص أن يكون “أجنحة” أول فيلم أمريكي يتوج بجائزة أوسكار (1928).

وأن تعود هوليوود بعد حوالي ستين عاماً من التاريخ الأخير إلى انتاج فيلم شبيه به في الموضوع يعظم من شأن سلاح الطيران، اسمته”النسر الأعلى” (1986) وأسندت بطولته إلى “توم كروز” ذلك النجم الشاب الذي جرى ترشيحه فيما بعد لأوسكار أفضل ممثل رئيسي عن دوره في “ولد في الرابع من يولية” أحد الأفلام المعادية لحرب فيتنام.

الرسالة بالألوان

أما الفيلم الأخير”دستة أشرار” (1967) لصاحبه المخرج “روبرت الدريش” فقد صور الحرب وكأنها مغامرة مثيرة تتحول بنفر من السجناء الأشرار إلى أبطال خيرين أبرار.

وكأنها لا تطلق أبشع الغرائز البشرية من عقالها، بل على العكس من ذلك تلجمها بإيقاظ الضمائر الأهلة بالفضيلة الكريمة السمحاء!!

ومما دلالة في هذا الشأن أن يكون “دستة أشرار” أكثر أفلام الحرب نجاحاً، وأن يصبح نموذجاً يحتذى في العديد مما انتج بعده من أفلام.

وبطبيعة الحال لن أعرض بالتفصيل هنا لقصة هوليوود مع الحرب من يوم أصبحت كعبة السينما، وحتى يومنا هذا، وأنما اكتفي بأن أقول بأن الحرب العالمية الأولى التي اشتعلت نيرانها لا لسبب ظاهر سوى أنه في الثامن والعشرين من يونيه لعام 1914 اغتال شاب صربي رجلاً نمساوياً في مدينة صغيرة تدعى “سراييفو”، وهي عاصمة مقاطعة تعرف باسم “بوسنيا” إلا أن قتيل “سراييفو” لم يكن من طينة باقي الناس، إنه ولي عهد امبراطورية النمسا، والارشيدوق المنحدر من سلالة عائلة الهبسبورج ذات الجلال، لذلك فدمه لا يفتدى بدم القاتل وحده، بل بدماء الملايين من الناس في مشارق الأرض ومغاربها، تلك الحرب أو بمعنى أصح المجزرة البشرية، قد مهدت هوليوود لاشتراك الولايات المتحدة فيها إلى جانب الحلفاء قبل نهايتها بقليل بعدد من الأفلام، لعل أهمها “عرائس الحرب” للمخرج “هربرت برنتون” و”االحضارة” للمخرج “توماس انس” و”قلوب العالم” للمخرج الرائد “دافيد جريفيث” (1916).

وفي هذه الأفلام نرى الجنود الألمان أقرب في تصرفاتهم إلى الوحوش الكاسرة، منهم إلى بني الانسان.

وعن “قلوب العالم” قال المخرج الأمريكي المنحدر من أصل الماني “اريك فون شتروهايم” أنه فيلم تسبب في تحويل مئات وألوف الرجال والنساء من التعاطف مع المانيا إلى العداء التام.

الكذبة الكبرى

فإذا ما انتقلنا إلى المجزرة البشرية الثانية لوجدنا الشعب الأمريكي مضللاً، ويحسب نفسه بمنجى عنها، كما سبق له إبان المجزرة الأولى.

وله العذر في ذلك، إذ أن حكومته كانت قد أعلنت حيادها التام بين المعسكرين المتحاربين، معسكر الفاشية، ومعسكر الحلفاء الذي انحسر، بعد سقوط فرنسا، في انجلترا صامدة وحدها لمحور روما – برلين .

ولكن هوليوود لم تقف على الحياد، وإنما انصرفت بكل طاقاتها إلى الدعاية للسياسة غير المعلنة القائمة على معاداة دولتي المحور، تمهيداً للمشاركة في الحرب إلى جانب الحلفاء.

وفي سبيل ذلك انتجت أفلاماً معادية للنازية مثل: “الرفاق الثلاثة” للمخرج “فرانك بورزاخ” (1939) و”هروب” للمخرج “مرفين لوروا” (1940)  و”الديكتاتور العظيم” لصاحبه “شارلي شابلن” ذلك الفيلم الذي تقمص فيه المتشرد الخالد شخصيتين، إحداهما شخصية ديكتاتور رهيب “هينكل” والأخرى شخصية حلاق يهودي مستضعف، يكتب له في نهاية الفيلم التخلص من الديكتاتور انتصاراً للسلام.

النخبة المختارة

ومع ذلك، فهوليوود لم تخل يوماً من نخبة منشقة ولو إلى حين.. نخبة تعي أن الحرب كارثة بأي معيار، وتعمل على كشفها باعتبار أنها عار.

ومن بين أفلام هذه النخبة المختارة “كل شيء هاديء في الميدان الغربي” (1930) للمخرج “لويس مايلستون” و”أجمل أيام حياتنا” (1946) للمخرج “ويليم ويلر” و”المسيو فيردو” (1946) لشارلي شابلن و”نهاية العالم الآن” (1979) للمخرج “فرانسيس فورد كوبولا” و”طريق المجد” (1957) و”الدكتور سترينج لوف أو كيف تعلمت أن أتوقف عن القلق وأحب القنبلة” (1963) و”رصاصات حية” أو “ولد ليقتل” (1987).

والأفلام الثلاثة الأخيرة أبدعها “ستانلي كوبريك”، ذلك المخرج الأمريكي الذي يعيش في المهجر بانجلترا بعيداً عن هوليوود وجوها المشحون بالمؤامرات والضرب تحت الحزام  و”رصاصات حية” فيلمه الأخير، أول عمل يبدعه بعد انقطاع دام حوالي سبعة أعوام.

ولو اكتفينا بالقاء نظرة طائرة سطحية عليه لذهب بنا الظن إلى أنه فيلم عن فيتنام، ولكنه في حقيقة الأمر عن شيء آخر.

إنه عن الحرب.. أي الحرب.

ونصفه الأول مكرس لعملية القضاء نهائياً، وبلا هوادة، على بقايا الانسانية في المجند ابتغاء الانحدار به إلى مجرد آلة صماء، لا تجيد شيئاً سوى القتل.

ومع انتهاء عملية التدريب التي تجعل من المجندين قتلة محترفين، يبدأ النصف الثاني من الفيلم في ميدان القتال حيث لا نرى إلا خراباً متصلاً.