سر السقوط

تحولت السينما المصرية في السنوات الأخيرة إلى سينما مناسبات، لا يجري عرض أفلامها علي مدار السنة، كما كان حالها أيام زمان، وإنما يكتفي بعرضها في مناسبات خاصة كالأعياد.

وكثيراً ما ينقطع عرضها في مناسبات خاصة أخري، كدوري كرة القدم ومواسم الامتحانات وشهر رمضان.

وسينما هذا هو وضعها الآن، وهو وضع مزعج بكل المعايير، لا يُرجى لها أي شفاء، فيما لو استمر الحال على هذا المنوال.

ومعروف أن أهم مناسبتين يجري فيهما عرض أفلامنا هما العيدان الصغير والكبير.

وفي أثناء العيد الأخير، قبل شهرين أو يزيد، جرى عرض، ولا أقول فرض، أربعة أفلام على جميع دور السينما بطول وعرض البلاد.

و”ساعة الانتقام” أحد هذه الأفلام، وأقلها شأناً من الناحيتين الفنية والتجارية.
ولن أقف عنده إلا قليلاً لأقول: إن مخرجه أحمد السبعاوي، وأن موضوعه يدور وجوداً وعدماً حول انتقام البطل “الشحات مبروك” من عصابة تتاجر في الرقيق الأبيض، قتلت شقيقه طالب الطب، عندما كان يحاول إنقاذ فتاة “نهلة سلامة”، لجأت إليه لانتشالها من براثن تلك العصابة، التي دفعت بها مكرهة، إلى ممارسة مهنة بيع جسدها إلى الرجال.

ومما يعرف عن أي فيلم للثلاثي “السبعاوي”، ” الشحات” و”نهلة” أن عرضه في دور السينما، إنما يَمُرّ مَرّ الكرام، ولولا العيد السعيد لما حظى بمكان بين الأفلام .

وأنتقل إلى الأفلام الأخرى وهي “البطل” و”مجرم مع مرتبة الشرف” و”دانتيلا”،لأعرض لها باختصار، أرجو ألا يكون مخلاً.

خيبة الأمل  

وأبدأ بـ”البطل” لأنه أول فيلم شاهدته وكان ذلك في حفلة الصباح من أول أيام العيد.

ولأن أحد أبطال الفيلم الثلاثة محمد هنيدي، فأغلب الحضور كانوا من الصغار.

وكم كان الفيلم مخيباً لما علقوا عليه من آمال كبار.
فهنيدي ، على عكس المتوقع، يلعب في الفيلم دور شاب مهزار، سرعان ما تتحول به الأحداث إلى بطل مناضل من أجل الاستقلال، وذلك بعد مقتل أحد رفاقه برصاص جيش الاحتلال.

ولم يكتف كاتب السيناريو “مدحت العدل” بهذا التحول المفاجئ، بل أضاف إليه استبسالاً في النضال انتهى بهنيدي مقتولاً، هو الآخر، برصاص المحتلين، محمولاً نعشه على الأعناق، حتي مثواه الأخير!!

وطبعاً كل هذا ما كان ليرد علي بال جمهور الفيلم بأي حال من الأحوال.

ومن هنا عدم استعداده لصدمة مشاهدة نجمه الهزلي، وقد تحول، دون مقدمات، إلى بطل مأساوي أشبه بأبطال الملاحم الإغريقية في سالف الزمان.

وخروجه من الفيلم محبطاً.

المأساة.. متي؟ 

ولا غرابة فيما أصاب الجمهور، فهنيدي بحكم تكوينه أهل لأن يكون نجماً كوميدياً رائعاً، وليس تراجيدياً.

وربما يتأهل للأدوار ذات الطابع المأساوي، مع زحف الشيخوخة بعد عمر طويل، مثله في ذلك مثل شارلي شابلن، عندما أصبح كهلاً، فلعب أدواراً تمتزج فيها الملهاة بالمأساة بدءاً من”المسيو فيردو” سفاح عجائز النساء.

ورغم أن كل هذا من البداهة، فإنه، ولا مراء، غاب عن إدراك المخرج الواعد “مجدي أحمد علي” صاحب “يا دنيا.. يا غرامي”. فكان أن أسند إلى هنيدي دوراً غير ملائم لشخصيته، مما كان سبباً في إضعاف مصداقية الفيلم إلى حد كبير.

ومن بين النماذج الأخرى المطروحة في الفيلم، وما أكثرها، نموذج النجار الشاب الذي يهوى الملاكمة، فضلاً عن سعد باشا زغلول زعيم الأمة ويؤدي دوره “أحمد زكي”.

الجديد الوحيد

وأحداث الفيلم تدور حول نجاحه في تحقيقه كل طموحاته، بمصاحفة زعيم الأمة في أثناء إلقائه خطاباً أمام الجماهير، وبالانتصار في مباراة ملاكمة عالمية على أحد الأبطال الأوروبيين، وبالزواج من امرأة تفانت في حبه، فأنجبت له الصبيان والبنات.

ودور أحمد زكي في الفيلم لا يعدو أن يكون تكراراً لدوره كملاكم في فيلمي “النمر الأسود” للمخرج عاطف سالم، و”كابوريا” للمخرج خيري بشارة.

والحق، أنه لا يصلح لهذا الدور الآن، وذلك بحكم زحف الأيام وترهل الأجسام.

ولعل الشيء الجديد الوحيد في الفيلم هو “مصطفي قمر” المطرب الشاب الذي يلعب دور فتى من أصل يوناني، عاشق لكل ما هو مصري، رافض لمعاملته وكأنه أجنبي، متمرد علي كل شيء مشارك في النضال.

سمك لبن تمر هندي

وإذا كان العيب الرئيسي الذي شاب “البطل” مرجعه التحول بهنيدي إلى ممثل مأساوي.

فعيب “مجرم مع مرتبة الشرف” مرجعه سيناريو اختلط فيه الحابل بالنابل، على نحو تحول بالفيلم إلى سمك، لبن، تمر هندي.
ففيلم “مدحت السباعي” ليس فيلماً واحداً وإنما عدة أفلام.

فهو يبدأ فيلم حركة وتشويق، تغلب عليه المغامرات والمطاردات، تصاحبها اللكمات والطلقات.

غير أنه ما إن تلتقي “دنيا” “بفؤاد” أو “رغدة” بـ”هشام عبد الحميد”، حتى يتحول إلى فيلم غرامي، ناعم، يتبادل فيه الإثنان القبلات، ويدور الحديث بينهما حول أيام ضاعت من العمر، قبل اللقاء.

من أجل ولدي

ولا يدوم الفيلم الغرامي طويلاً، إذ سرعان ما نواجه بأحداث فيلم آخر ميلودرامي عماده التضحية بالغالي والرخيص من أجل الأولاد، فلذات الأكباد.

وما نكاد نفيق من هول صدمة موت الطفل الصغير ابن “فؤاد”، وهو في أحضانه، داخل إحدى لقطات العودة إلى الماضي، قصد بها المخرج وكاتب القصة والسيناريو والحوار “مدحت السباعي” بيان أسباب انخراط “فؤاد” في عالم الإجرام.

أقول ما نكاد نفيق من هول تلك الصدمة، وصدمات ميلودرامية مماثلة، حتي يظهر أمامنا علي الشاشة فيلم أبطاله أصحاب ذقون سوداء ونفوس فظة، غليظة القلب، يتحرقون شوقاً لإرهاب المجتمع وترويعه بالقتل العشوائي، الذي ينحدر إلى حد الشروع في تفجير حافلة مدرسية، مزدحمة بالأطفال.

وبفضل هذا الظهور المفاجئ، تحول “مجرم مع مرتبة الشرف” إلى فيلم سياسي قوامه الدعوة إلى محاربة الإرهاب.

ومع هذه الكثرة في الموضوعات، كان لابد وأن تتعدد الشخصيات، وتتداخل على نحو مُحير للألباب.

أول القصيدة   

وإذا سلمنا بما جاء في العناوين فالفيلم من إنتاج “هشام عبدالحميد”، الذي يلعب فيه دور لص، نبيل، ليس في طبعه الإجرام.

وأغلب الظن أن أحد دوافع إقدامه على الإنتاج، هو المشاركة بفيلمه في معركة حماية الوطن من خطر طاعون الإرهاب.

والمشاركة علي هذا النحو، دافع ولا شك نبيل.

ومما يُعرف عن مخرج الفيلم أنه من فئة المخرجين المؤلفين.

ولقد خانه التوفيق أولاً في اختيار الممثلين وثانياً في المعالجة السينمائية لخطر الإرهاب.

فرغدة وماجدة الخطيب، كلتاهما تبدو في الفيلم أكبر سناً، الأولى من حبيبها هشام والثانية من زوجها “عبد العزيز مخيون” الذي يتقمص شخصية طبيب واسع الشهرة والثراء. كما أن رغدة في دور الأم الملتاعة على ابنتها الوحيدة المريضة بالقلب، لم تكن مقنعة.

أما لماذا خان التوفيق “السباعي” في معالجته السينمائية لخطر الإرهاب، فذلك لأنه خلط بين أكثر من نوع، بمواقف مضحكة مواقف محزنة، بمواقف عبثية مواقف جادة، وهكذا.. وهكذا، فكان أن جاء فيلمه “خلطبيطة”، كعنوان فيلم آخر له أخرجه قبل أربعة أعوام.

الانفراد بالتكريم

والآن إلى رابع أفلام العيد “دانتيلا”.
وبداية أقول: إنه انفرد دون الأفلام الأخرى بمشاهدة وزيرين مخضرمين له وهما وزيرا الثقافة والكهرباء.

كما انفرد باختيار لجنه المهرجانات بوزارة الثقافة له، ممثلاً للسينما المصرية في مهرجان شيكاغو السينمائي.

وفوق هذا انفرد صانعوه المخرجة إيناس الدغيدي، ونجمته يسرا، وكاتب السيناريو رفيق الصبان، انفردوا بتمثيل مصر في مهرجان “كان” الأخير، على حساب وزراة الثقافة، وهنا لا يفوتني أن أذكر أنه من بين من اختارتهم تلك الوزارة لتمثيلها في ذلك المهرجان “رغدة” نجمة “مجرم مع مرتبة الشرف”، والشاعرة التي لا يشق لها غبار، لاسيما بعد اختفاء “نزار”.

خيش أم دانتيلا

و”دانتيلا” لعله أول فيلم لإيناس بعد “لحم رخيص” الذي يعد بحق واحداً من أكثر أفلام السينما سوقية وسوءا.

هو لا يختلف في السوقية والسوء كثيراً عن لحم رخيص.

حقاً هو أفضل من الفيلم الأخير في التصوير، وفي تكوين بعض اللقطات، ولكنه أسوأ منه في أكثر من مجال.

ويكفي هنا أن أقول أنه أكثر ابتذالاً خاصة في مشاهد السرير التي تتكرر، لا لهدف سوى دغدغة الحواس.

ومشاهد يسرا، وهي تغني أوف.. أوف ودانتيلا.

وياليتها ما خضعت للإغراء، فشوهت صورتها في نظرنا، نحن المتفرجين، بغناء أقرب إلى تأوهات الغانيات، في أحضان طالبي اللذات.

والفيلم يبدأ بلقطات غير ملونة “أبيض وأسود” لفتاتين، إحداهما على وشك أن تغرق في البحر، والأخرى تنقذها من موت أكيد.

قبح وتشويه

وفي اعتقادي أنني لست بعيداً عن الصواب، بجنوحي إلى القول بأن تلك اللقطات، من أقبح ما شاهدته عيناي إخراجاً وتمثيلاً.

وسرعان ما يتضح لنا أمر هاتين الفتاتين، فإذا بإحداهما فتاة سيرك والأخرى بنت أكابر.

وإنهما، ويا للعجب، صديقتان.

وما هي إلا بضع دقائق، حتى تنتقل بنا صاحبة الفيلم من اللقطات البيضاء، السوداء الشديدة القبح إلى مشاهد ملونة أشد قبحاً.

فها هي ذي “يسرا” فتاة السيرك سابقاً، تتلوى وتتثنى في ملهى ليلي، درجة ثالثة، وهي تغني “أوف.. أوف” بين صياح سكارى، أشباه رجال.

وبعد ثوان، تسرع صاحبة الفيلم بمفاجأتنا بإلهام شاهين بنت أكابر، قادمة من القاهرة إلى الإسكندرية، كي تقيم مع حبيبة العمر “يسرا”.
أما لماذا غادرت بيت العز في القاهرة، ولماذا أقامت عند غانية، سكيرة، سيئة السمعة، وذلك رغم أنها محامية، وبنت ذوات، فكل هذا لا نجد له إجابة في سيناريو كتبه ثلاثة كبار “مصطفى محرم”، “إيناس” و”الصبان”.

الشرطة في خدمة الغانيات

وعلي كُلٍ، ولصيق المجال، فلن أعرض بالتفصيل لالتقاء الصديقتين أو الحبيبتين بضابط الشرطة “محمود حميدة” في أحد الأقسام.

ولا لوقوعه في حب بنت الأكابر التي ضحت بحبها له من أجل يسرا.

فكان أن عادت إلى بيت العز، حيث تزوجت من رجل أعمال، اصطحبها إلى كندا، حيث عاشت مملولة، إلى أن تخلصت من أسر الزيجة بالطلاق.

وإنما أكتفي بأن أقول بأن “إلهام” لم تعد إلى بيت العز في القاهرة، وإنما إلى بيت الغانية يسرا في الإسكندرية، حيث فوجئت بها زوجة لحميدة في الحلال.

وإذا بها تغضب لذلك غضباً شديداً، وهي التي سبق لها، وأن ضحت بحبها لحميدة من أجل سعادة حبيبة عمرها يسرا.

ولأن كيدهن عظيم تنجح إلهام في إغراء حميدة، حتى يتخذها زوجة وضرة ليسرا الهائجة عمّال علي بطّال.

وهنا ينحدر الفيلم إلى ملهاة رخيصة، عمادها مواقف مفتعلة أشدّ افتعالاً، تدور حول الصراع من أجل فحولة رجل بين امرأتين، ولا أقول، ذئبتين مفترستين.

ويستمر الفيلم في عبثهم العابث، حتى يصلوا بنا، نحن المتفرجين الضحايا، إلى ختام قلّ أن يكون له مثيل في الافتعال.

ولا يبقى لي مع فيلم كهذا سوى أن أقول: إنه به وبما شابهه من أفلام كان حتماً سقوط السينما في بلادنا سقوطاً مدوياً.