لباريس “روح” تمتاز بها عن كل مدن العالم، فهي إذا نسبت إلى بعض مدن العالم القديمة مثل القاهرة والقدس ودمشق واسطنبول وروما، كانت طفلة بنت يوم، بل بنت ساعة، غير أنها بين مدن الدول المطلة على المحيط الفاصل بين أوربا والعالم الجديد من أقدمها، وهي تباهي كل المباهاة بقدمها، وبما فيها من آثار تاريخية تعود إلى الثورة الفرنسية وما قبلها وبعدها.
وهي تفاخر بلقبها “مدينة النور”
ففيها من المعاهد العلمية والفنية والمتاحف وبيوت الأزياء ما ليس في سواها.
وقد أنجبت نفراً من خيرة الفلاسفة والعلماء والفنانين التشكيليين والموسيقيين والسينمائيين والأدباء.
وهي صبية بمبانيها، شديدة الحرص على أحجارها القديمة الكريمة حتى أنها تفضل فتح أبوابها للغزاة مستسلمة للعار على أن يصيب حجر من تلك الاحجار أي دمار.
ولكن ثمة مفارقة في هذا الخصوص تلفت الأنظار وتتطلب شيئاً من التأمل والتفكير
فرغم كل هذا الشغف بالأحجار والحرص عليها فإنه لم يبق من مباني باريس ما قبل الثورة إلا أقل القليل.
الفتنة الباقية
فعلى الضفة اليسرى لنهر السين، لم يعصم من الضياع سوى مبنى الانفاليد، حيث مستقر “بونابرت” الأخير، والبانتيون حيث تحفظ رفات العظماء أمثال فولتير وروسو، وقصر اللوكسمبورج الذي شُيّد في عصر لويس الثالث عشر كي تقيم فيه أمه الملكة “ماريا دي ميديش” والحي اللاتيني يحيط بأزقته الضيقة الملتوية أكثر جامعات فرنسا عراقة “السوربون”.
أما “الايل ديلاسيتي” تلك الجزيرة التي انبعثت منها باريس، كما خرجت من أمواج البحر فينوس ربّة الجمال، فليس فيها من مباني العهد القديم سوى كاتدرائية نوتردام التي جرى تشييهدها على امتداد قرنين إلا اثنى عشر عاماً.
وعلى بعد خطوات حيث مبنى وزارة العدل، توجد حبيسة فنائه جوهرة باريس “مصلى السانت شابل” الصغير بنوافذه العالية الثمانية المرصعة بمئات التصاوير المنمنمة المستوحاة من قصص التوراه والأناجيل، والمرسومة بقطع زجاج صغيرة من جميع الألوان تسر الناظرين.
وقلعة “الكونسيير جري” (1298 / 1353) ذلك السجن الرهيب الكئيب الذي كان من بين نزلائه أرملة لويس السادس عشر “ماري انطوانيت” روبسبيير، شارلوت كوردي قاتلة “مارا”، مدام “دي باري” و “دانتون”.
واحد منهم لم يكتب لعنقه نجاة من القطع بالمقصلة التي اشتهرت باسم مخترعها “جيلوتين”.
فاذا ما انتقلنا إلى باريس الضفة اليمنى، لما وجدنا من المباني العتيقة التي يرتد عمرها إلى ما قبل الثورة شيئا، باستثناء ميدان “ڨوج” بمبانيه الأنيقة المشيدة بأمر من هنري الرابع (5/1612)، ومتحف اللوڨر، يقف على بعد خطوات منه تمثال صغير ذهبي اللون لحصان تمتطيه “جان دارك” يزدان به ميدان الأهرمات المجاور لحدائق التويليري بالمواجهة للمتحف الشهير.
الهدم.. لماذا؟
والذي أعمل معول الهدم في مباني تلك الضفة هو “لويس نابليون” الذي انقلب على الجمهورية ونصب نفسه امبراطوراً (1852).
ففي عصره الذي طال إلى ثمانية عشر عاماً، ولم ينته إلا بهزيمة منكرة أدت إلى سقوط باريس في أيدي الغزاة الألمان (1870)، في ذلك العصر الذي غالى الشاعر الفرنسي “ڨيكتور هيجو” في ذمّ امبراطوره المغتصب للسلطة، وهجائه هجاءً لاذعاً لم يسمع له مثيل، تغيرت معالم باريس، اختفى ستون في المائة من مباني ضفتها اليمنى، لتحل محله شوارع فسيحة، ترتفع على جانبيها أشجار باسقات، فروعها تعانق السماء. كل ذلك للحيلولة بين الشعب وبين تقليد ما حدث في أعوام 1789 و1830 و 1848، بالثورة على النظام الحاكم، وحمايتها من قوات الأمن بإقامة المتاريس.
انتصار الجديد
إذن فباريس المعاصرة بأبهة مبانيها ذات الطابع الكلاسيكي (البلدية والأوبرا)، وقصورها الشامخة (شايو) ومتاحفها الغنية بروائع الفن (بومبيدو، اورسي) وشوارعها الخضراء لا يُرى لامتدادها نهاية، وساحاتها المزدانة بالنافورات والأعمدة وأقواس النصر، ورياضها وحدائقها الغناء تنفح بالعطر الهواء، وبرجها الحديدي “ايڨيل” يشق الفضاء، باريس هذه إنما هي بنت الثورة الفرنسية، ليس ليها من القديم السابق على تلك الثورة إلا القليل وفيها من الجديد اللاحق على أحداثها الشيء الكثير.
إنها بحق باريس “هاوسمان” نسبة إلى البارون المهندس “جورج اوجين هاوسمان” الذي عمل على هدمها وإعادة بنائها تنفيذاً منه للأمر الصادر إليه بذلك من الامبراطور المغتصب نابليون الثالث (1853).
ومن المفارقات أن أقدم أثر في باريس ليس فرنسياً، ولا حتى أوربياً، بل مصرياً.
إنه مسلة رمسيس الثاني أحد الفراعين، انتقلت من الأقصر إلى باريس إبان عصر محمد على الكبير، بفضل “شامبليون” ذلك العالم الفرنسي النابغة الذي أعاد الروح إلى لغة قدماء المصريين بفك طلاسم حجر رشيد، حيث انتصبت منذ مائة وخمسين عاماً أو يزيد (1836) في ميدان الكونكورد (الوئام). بديلاً للجيلوتين تنحني له رءوس أعداء وأصدقاء الثورة على حدٍ سواء كي يجري قطعها بالمئات تحت قبة السماء.

هرم الانفاق
والحديث عن مسلة رمسيس التي يتحلى بها الكونكورد، ذلك الميدان الذي يعتبر بحق واحد من أجمل ميادين باريس، بل قل العالم، لابد وأن يسحبنا إلى الوقوف أمام الهرم الزجاجي الذي أقامه المهندس المعماري الأمريكي “بي بي” المنحدر من أصل صيني هو ونفر من المعماريين الأفذاذ، وسط فناء نابليون على بعد عشرات الأمتار من تلك المسلة، وعلي بعد خطوات معدودات من متحف اللوڨر، ذلك أنه لم يجر تشييده أصلاً إلا ليكون مدخلاً لهذا المتحف العتيق الذي وصل عدد مقتنياته إلى أربعمائة ألف من بينها الكاتب المصري ولوحة موناليزا (الجوكندا) التي نهبها بونابرت أثناء حملته الايطالية.
هذا وقد أفتتحه الرئيس فرانسوا ميتران بمناسبة الاحتفال بمرور مائتي عام على ثورة الرابع عشر من يولية.
لو ألقينا نظرة طائرة مهرولة على هذا الهرم الصغير الشفاف الذي يغلب عليه طابع التجريد لاعتبرناه عملاً متطفلاً على الفناء الذي يحيط به مبنى اللوڨر من ثلاث جهات، مقتحماً حرمة مكان له طابع كلاسيكي ذو جلال.
عصر الفضاء
ولكن لوتأنينا في نظرتنا، لبدا لنا وكأنه سفينة فضاء شدت إلى الأرض، ولكنها على وشك الرحيل عائدة من حيث أتت، بعد أن رأى روادها متاع المتحف وقرّوا عينا.
وليس من شك أنه هرم قوامه مزيج من العلم والفن وفقا لأقصى ما بلغاه في الربع الرابع من القرن العشرين.
وهو بوصفه كذلك إنما يتماشى مع ميل الباريسيين إلى التعاصر، وولعهم الشديد بكلمة التعايش، يقصدون بها أن يجاور الجديد القديم في تواصل وانسجام.
سقطة
ولكن كل هذا المديح، لا يعني أنه هرم بلا مشاكل فلقد شاء مبدعوه أن يحيطوه بثلاثة أهرامات زجاجية صغيرة.
وكان هدفهم من ذلك أن يغمر ضوء النهار الطبيعي الممرات التي تحت الأرض، تلك الممرات التي تصل الهرم الرئيسي بأجنحة مباني اللوڨر القديمة حيث يوجد عزيز المقتنيات التي جرى جمعها من جيمع أنحاء العالم على امتداد قرنين من عمر الزمان.
ورغم نبل هذا الهدف، فإنه، والحق يقال، ليس ثمة مبرر لهذه الأهرامات الثلاثة، لا سيما وأن وجودها إنما يضعف ذلك الاحساس الذي أسلفنا ذكره، أثيرية الهرم الرئيسي، وما يتفرع عن ذلك من تخيلنا له أشبه بسفينة فضاء أسطورية حطت على الأرض امام اكثر مااحف فرنسا روعة وجمالا.
فقدان الاتجاه
هذه واحدة، أما الأخرى فهي مشكلة يلزم بموجبها أن نعود إلى الصلة بين طراز هذا الهرم وبين الطراز المعماري الضخم السائد حوله من جميع الجهات.
من المعروف أن اللوڨر يقع عند نهاية طريق النصر من الجهة الشرقية، ذلك الطريق الذي يعتبر في نظر البعض أعظم محور مدائني في العالم، إذ يمتد في خط عمودي من قوس نصر الكاروسيل المشيّد تكريماً لانتصارات بونابرت (6/1808)، مروراً بحدائق التوليري، فميدان الكونكورد حيث مسلة الأقصر ثم شارع الشانزليزيه، فميدان شارل ديجول (اتوال) حيث (قوس النصر)، ومنه إلى وزارة الدفاع.
وكما سبق أن ذكرنا فماني اللوڨر تحيط بفناء نابليون من جهات ثلاث أما جهته الرابعة فمنفتحة على هذا المحور العظيم.
ولكن ذلك الفناء ليس واقعاً على خط عمودي مستقيم مع المحور المذكور، إنه خارجه ببضع درجات.
وهكذا، فعندما يقف المرء في منتصف فناء اللوڨر، فإنه لا يرى المحور العظيم من منتصفه مستقيماً وإنما يراه منكسراً قليلاً.
ومن الغريب أن بناة الهرم قد وضعوه في منتصف فناء نابليون تماماً، بحيث يحيط به جناحا اللوڨر بشكل يتسم بالتناسق الكامل.
وهو ما يعني أن الهرم قائم على محور اللوڨر وليس على محور طريق النصر.
وهنا الخطأ
فلقد كان من الأسلم أن يوضع الهرم على محور ذلك الطريق، بحيث يكون امتداداً مستقيماً لقوس النصر.
طريق الندامة
وهذا مؤداه بحكم اللزوم إلا يكون موضعة في منتصف فناء نابليون على بعد متساو من جناحي اللوڨر.
والمشكلة الآن هي أن الهرم بوضعه الحالي، إنما يرنو بشكل أو بآخر إلى أن يكون انعكاساً مكملًا للنظام الكلاسيكي الذي هو الطابع المميز لمباني اللوڨر الأكثر منه قدماً.
ولكن الهرم لا يشكّل جزءًا من هذا النظام . إنه على العكس يمثل النقيض له، المتمرد عليه.
وهو بوصفه كذلك يعتبر في حقيقة الأمر جزءًا من صرح طريق النصر الأكثر شمولاً وشموخاً، بأقواسه وحدائقه ونافوراته، وتماثيله، ومسلته المصرية تبرز من بين كل هذا الجمال المتداخل المتواصل خطاً واحداً صاعداً دالاً على إرادة الانتصار.
والسؤال المحير بعد ذلك، هو كيف غاب كل هذا عن بال بناة الأهرام أمام المتحف العتيق ؟