قبل ستة أعوام، بدأ المهرجان القومي للسينما المصرية فاعلياته، وكانت بداية مبشرة بكل خير.
غير أن هذه البداية كانت، لسوء الحظ، خادعة إلى حد كبير.
فسرعان ما أخذ المهرجان يتدهور حتى أصبح، في نهاية الأمر، مجرد تهريج رخيص يصرف صندوق التنمية الثقافية على عبثه، مئات الألوف من عزيز الجنيهات.
ولأن الضرب في الميت حرام، أخذت على نفسي عهداً، ألا أعرض بالنقد لا من قريب أو بعيد لما يحدث في أيامه ولياليه من مآخذ جسام.
وظللت على العهد مبقياً، لا أحيد عنه إلا فيما ندر، إلى أن حدث أمر، لا يتصور حدوثه حتى في أكثر المهرجانات بؤساً، وليكن على سبيل المثال، مهرجان “أواجادوجو” عاصمة بوركينا فاسو، إحدى أفقر جمهوريات أفريقا السوداء.
فما هو ذلك الأمر الذي جنح بي إلى عدم الحفاظ على العهد؟
مساء يوم الخميس الماضي “22/6/2000” توجهت إلى دار سينما شيراتون النيل، حيث سيجري عرض فيلم “المدينة” لصاحبه المخرج يسري نصر الله، وهو من بين الأفلام الروائية الطويلة، المتنافسة على جوائز المهرجان.
والحق، إنني لم أتوجه إلى تلك الدار إلا بعد دعوة من إحدى المشاركات في إبداع الفيلم، “نادية سعد كامل”، أعقبها وعد منها بأن ثمة بضعة مقاعد جرى حجزها لنفر من النقاد والمفكرين، بالاتفاق مع مدير الدار.
ولأمر ما، جنحت إلى تصديق وعدها، ولعل ما حدا بي إلى التصديق، رغبة جامحة في مشاهدة “المدينة”، رغبة ألهبتها قراءة مقال بقلم المفكر الفلسطيني الأمريكي “إدوارد سعيد” أشاد فيه بالفيلم، على نحو غير مسبوق، بالنسبة لأي عمل سينمائي مصري، فيما عدا ربما “مومياء” المخرج الراحل “شادي عبد السلام”.
وكم كنت ساذجاً عندما لم أتسلح بالشك، فصدقت الوعد.
فعلى سلالم دار السينما شاهدت حشداً منتظراً السماح له بالدخول.
وما هي إلا ثوان، حتى قالت لي صاحبة الوعد، إن جمهور حفل السادسة مساءً حيث يجري عرض فيلم “كلام الليل” سيمتنع، بعد انتهائه وانتهاء مناقشة الفيلم، عن مغادرة دار السينما حيث يحتفظ بمقاعده، ما يتيح له فرصة مشاهدة فيلم التاسعة مساء، أي “المدينة”.
القاعدة والاستثناء
وإن الأمل في العثور على مقعد خال مثل أمل إبليس في الجنة.
ولا غرابة فيما يحدث، وقد قاربت الساعة التاسعة والنصف، فالقاعدة في جميع عروض المهرجان هي الفوضى، والاستثناء هو الالتزام بالنظام.
وهكذا وجدتني في مأزق بعد سماع هذا الكلام تصرح به صاحبة الوعد.
ولم تطل حيرتي كثيراً، وها أنا ذا أشق طريقي بصعوبة، وسط زحام شديد، حتى كتب لي أن أنجو، وأعود إلى بيتي سالماً، معافى.
وما أن أفقت من هول صدمة معاناة الإحباط، حتى تسائلت أيرجى أي خير من مهرجان له من العمر ستة أعوام، ومع ذلك تدار عروضه على هذا النحو البربري المفلوت العيار؟
وأليس هذا الانفلات بمثابة سجل ناطق صارخ بجميع عيوبنا التافهة والجسيمة معاً، الأصيلة والدخيلة معاً؟
وإلى متى الاستمرار في هذا السقوط من شاهق.. من شاهق جداً؟
العجب العجاب
والآن إلى قصة أخرى عجيبة، وما أكثر القصص الجديرة بالدخول في باب العجب العجاب، خاصة في أيامنا هذه.
قبل عامين أو يزيد، ثار جدل مفتعل حول فيلمين أمريكيين، من إنتاج مصع الأحلام، أولهما “مدينة الملائكة” من إخراج (براد سيلبرلنج) وتمثيل (نيوكلاس كيج) و(ميج رايان).
والآخر “قابل جو بلاك” من إخراج (مارتين برست) وتمثيل (براد بيت) و(أنطوني هوبكنز) الفائز بأوسكار أفضل ممثل رئيسي عن أدائه في “صمت الحملان”.
أما لماذا ثار الجدل حولهما، فذلك لأن كليهما بطله ملاك من الأطهار.
وقبل شهور من مجيء نسختيهما إلى بر مصر، ثارت ضجة كبرى حول ترخيص الرقابة بالعرض العام لفيلم “حليف الشيطان” وبطله “آل باشينو” في دور شيطان رجيم.
ولأن الضجة ما ثارت إلا لأن البطل شيطان، فما بالك إذا كان البطل ملاكاً طاهراً.
وتهرباً، ولا أقول، خوفاً من تحمل مسئولياتها، عرضت الرقابة أمر الفيلمين على لجنة الرقابة العليا المشكلة من خمسة عشر عضواً.
وفيما أتذكر، خلص أعضاء تلك اللجنة بالإجماع إلى أن كلا الفيلمين جاء خالياً من أية شائبة تحول رقابياً دون عرضه عرضاً عاماً.
ومع ذلك، جنح مدير الرقابة وقتذاك إلى منع عرض الفيلمين، غير عابئ برأي أعضاء تلك اللجنة، وجميعهم من صفوة المثقفين.
وتمر الأيام، وها هو ذا فيلم “مدينة الملائكة”، ويا للعجب، يعرض على شاشات دور سينما القاهرة والإسكندرية، غاصة بالمتفرجين المستمتعين!
والسؤال: لماذا كان الذعر، ولماذا عملت الرقابة، دون داع، من الحبة قبة؟!