هوليوود تشهر السلاح ضد احتكارات الموت

نظرة طائرة على الأفلام التي جرى عرضها في دور السينما بطول وعرض البلاد، بدءًا من انتهاء أيام العيد الكبير، وحتى يومنا هذا تكفي لرسم صورة قاتمة لوضع السينما المصرية المتردي على نحو لابد وأن يثير القلق الشديد، فخلال مدة قاربت ربع عام، لم يعرض سوى ثلاثة أفلام هي “فل الفل” لمدحت السباعي و”رجل له ماضي” لأحمد يحيي و”جنون الحياة” لسعيد مرزوق. ومع هذا الغياب، سدت الفراغ أفلام مصنع الأحلام.

فلأول مرة ربما منذ نصف قرن من عمر الزمان، ها هي ذي الأعمال السينمائية التي كانت مرشحة لأوسكار أفضل فيلم روائي طويل، وهي خمسة لا تزيد، ها هي ذي معروضة على شاشات دور السينما في القاهرة والأسكندرية ومدن أخرى على ساحل البحر الأحمر والصعيد المجيد.

وأقصد بهذه الأفلام الخمسة “الجمال الأمريكي” الفائز بخمس جوائز أوسكار و”الحاسة السادسة” و”المساحة الخضراء” و”شروط عصارة التفاح” الفائز بأوسكار أفضل سيناريو مبتكر وممثل صاعد “مايكل كين”.

وأخيراً “المطلع” المسمي عندنا “بالدخيل”، ومما يعرف أنه كان مرشحاً لسبع جوائز أوسكار لم يفز بأي منها. وكان من بين مبدعيه الذين جرى ترشيحهم لتلك الجوائز المخرج “مايكل مان” والممثل النيوزيلاندي “راسل كرو”.

وثمة أوجه شبه بين “الدخيل” و”ايرين بروكوڤيتش” رائعة المخرج “ستيفن سودربرج” والنجمة “جوليا روبرتس”.

فكلا الفيلمين يدور حول نضال فرد ضد شركة عملاقة ذات نفوذ كبير، وانتهاء ذلك النضال بانتصار الحق على الباطل.

والفرد في الفيلمين إنسان لا حول ولا قوة له وهو، في “الدخيل” إنسان عادي كان يشغل مركز مدير إدارة البحث والتطوير في “ويليمسون وبراون” إحدى شركات التبغ الكبرى.

بل لعلها واحدة من أضخم الاحتكارات، المتلاعبة، دون رحمة، بأرواح الملايين المدخنين، على أمتداد العالم شرقاً وغرباً.

قصة حقيقية

وهذا الإنسان العادي، واسمه “جيفري ويجاند” (راسل كرو) لا يختلف عن “بروكوڤيتش” إلا في أقل القليل.

فقصته مثل قصتها حقيقية، ليست من صنع الخيال.

فهو مثلها رب أسرة، يكدح من أجلها ليل نهار ومع ذلك فهو ليس مثلها سليط اللسان، متمرداً عاصفاً بالاعداء.

إنه عالم في الكيمياء، هادئ الطبع، شديد الحياء، وقصة نضاله ضد شركة “ويليمسون وبراون” وكيف أذيعت شهادته ضدها على الملأ بواسطة برنامج تليفزيوني إخباري مدته ستون دقيقة، تبثه في ساعة الذروة، شبكة “سي بي اس” وهي من هي في عالم وسائط الإعلام، تلك القصة شارك في حكايتها سينمائياً المخرج “مايكل مان” مع الكاتب “اريك روث” من خلال سيناريو، استوحيا وقائعه من مقال  لـ”ماري برينر” جرى نشره في مجلة “ڤانيتي فير” تحت عنوان “الرجل الذي عرف الكثير”.

أرض الأحلام

والحق أن السيناريو جاء محكم البناء، يحكي من بين ما يحكي، كيف تورط “ويجاند” في الإدلاء بشهادته وأقول تورط لأنه كان رب أسرة وديعاً، يعيش مع زوجته وذريته منها، مثلما يعيش ملايين الأمريكيين، حياة توافرات لها كل أسباب السعادة، ولو في الظاهر.

فبيته فسيح، تحيط به حديقة غناء، ورياضته المفضلة لعبة الجولف، وأقساط التأمين على أفراد الأسرة السعيدة تدفع بانتظام.

ومن متاع الحياة الدنيا يملك أكثر من سيارة، وكل أشياء الحلم الأمريكي الأخرى، وعلى أعلى المستويات، ولكن ما أن شرع في الإدلاء بشهادته، حتى أخذ كل ما بناه على مر أعوام العمر، ينهار شيئاً فشيئاً.

ومع اقتراب يوم الإدلاء بالشهادة، وما صاحب ذلك من تهديد ووعيد، إذا بالصرح الذي بناه بعرق الجبين ينهار تماماً.

وإذا بالأحداث تنتهي به وحيداً، وقد تخلت عنه شريكة عمره ومعها الأولاد.

وتفاصيل حياته، قبل عام 1995، لا نعرف عنها شيئاً.

أسرار وأكاذيب

فأحداث الفيلم لا تبدأ إلا من ذلك العام غير البعيد، وبالتحديد من لحظة إخطاره بالفصل من الشركة، لا لسبب سوى أنه أبدى اعتراضه بوصفه باحثاً، على إضافة مادة ضارة إلى منتج التبغ، وبنى اعتراضه على أساس أن الإضافة ستزيد حتماً من احتمالات سقوط المدخنين في براثن الإدمان فضلاً عن التعرض لمخاطر الإصابة بالسرطان.

في هذه الأثناء، تصادف أن جاءت لـ”وويل برجمان” “آل باشينو” صاحب البرنامج المسمى “ستون دقيقة” وثائق من مصدر مجهول، منطوية على أبحاث خاصة بمنتج التبغ.

ومن أجل حل طلاسم تلك الأبحاث، اتصل بـ”ويجاند”. وكان من أسباب إسراعه بالاتصال، أنه أدرك بحسه الصحفي الذي لا يخيب، أن “ويجاند” لديه قصة قد تغذي برنامجه بمادة دسمة مثيرة للرأي العام.

وفعلاً كان “ويجاند” عند حسن ظن برجمان، كان مستودعاً لأسرار دامغة، إفشاؤها كان لابد وأن يقلب كل الموازين.

وفي البداية لم يكن إفشاء ما لديه من أسرار بالأمر اليسير.

فهناك تعهد منه، يلزمه بعدم إفشاء أي منها، فإذا ما أخلّ بتعهده، فقد كل ما له من حقوق قبل الشركة فضلاً عن دفع تعويض كبير.

التهديد والوعيد

وبطبيعة الحال، لجأت الشركة إلى كل وسائل الضغط المشروعة وغير المشروعة، للحيلولة بينه وبين الإدلاء بشهادته أولاً أمام القضاء، وثانياً أمام الملأ على شاشات التليفزيون.

وكان من بين هذه الوسائل التهديد بالقتل والتشويه لسمعته، على نحو دفعه إلى التفكير في الانتحار.

وفوق هذا عملت على تهديد شبكة “سي. بي. أس” برفع دعوى، تطالبها فيها بدفع تعويض قدره ألف مليون دولار، ولأن الشبكة كانت تعاني من ضائقة مالية، وتسعى إلى الاندماج مع شركة “وستنجهاوس”، فقد رضخت للابتزاز.

ومع ذلك، انتهت أحداث الفيلم، كما انتهت في الواقع، بـ”ويجاند” مدلياً بشهادته المنتصرة للحقيقة، المكذبه لشهادات رؤساء مجلس إدارة سبع شركات تبغ كبرى وبينها شهادة “توماس سان فور” رئيس مجلس إدارة شركة “ويليمسون وبراون” تلك الشهادات التي أدلوا بها في أبريل 1994، أمام إحدى لجان الكونجرس، وقالوا فيها بعد أداء القسم، إنهم لا  يعتقدون أن النيكوتين يحتوي على مادة تؤدي إلى الإدمان، مع علمهم علم اليقين أن الأمر عكس ذلك تماماً.

انتصار الحق

وكم كان صاحب الفيلم موفقاً عندما أظهرهم أكثر من مرة، في لقطة تسجيلية، وهم يدلون، بعد القسم، بشهادتهم كذباً.

وهكذا انتصر الحق، وزهق الباطل. ونتيجة لذلك، فأغلب الظن أن الشركات السبع ستدفع إن عاجلاً أو آجلاً آلاف الملايين من الدولارات، على سبيل التعويض، إلى ضحايا التدخين.