الشر المضحك

يتهدد فن السينما في بر مصر شر مستطير، أراه متمثلاً في رقابة خائفة من أي عمل فني جديد، خاصة إذا كان جوهره التنوير، معادية لأعمال الفكر، بروح العصر انطلاقاً من الحق في حرية التعبير.

ولعل خير مثل قريب على هذا الشر الذي يتهدد فن السينما، بل قل كل الفنون، الأزمة التي عانى منها، لبضعة أعوام، الفيلم المصري “باحب السيما” لصاحبه المخرج “أسامة فوزي”.

وعانى منها، لبضعة أيام الفيلم الكندي “انحدار الامبراطورية الامريكية” أحد أفلام ستة جرى اختيارها للعرض في مهرجان الفيلم الكندي الثاني (9 – 14 يونيه).

وابدأ بـ “باحب السيما” لأقول أنه مأخوذ عن سيناريو من تأليف “هاني فوزي” أجازته الرقابة قبل أربعة أعوام.

ومما يعرف عن صاحب سيناريو هذا الفيلم أنه مقل، شأنه في ذلك شأن المخرج “أسامة” فرصيده من الأفلام المأخوذة عن سيناريوهات من تأليفه لا يزيد عن ثلاثة، أولها “أرض الأحلام” (1993)، وآخرها “فيلم هندي” (2003).

أما “أسامة”، فرصيده السابق على “باحب السيما” لم يزد على فيلمين روائيين طويلين “عفاريت الأسفلت” (1996) و”جنة الشياطين” (2000).

أفلام علامات

وأرجح الظن، أن أفلام “هاني” و”أسامة” السبعة، سواء رضينا عنها أو سخطنا عليها، ستعتبر من علامات السينما المصرية في مستقبل الأيام.

جدة وجدية

وينفرد فيلمهما “باحب السيما” بجرأة وجدية قل أن يكون لهما مثيل في أفلام هذه الأيام.

فأحداثه تدور وجوداً وعدماً حول الحياة اليومية لأسرة قبطية، تعيش في حي شبرا. الأب (محمود حميدة) رجل متزمت، يكره السينما كراهة التحريم، يعتبر كل شيء متصل بالفن، ولو من بعيد، رجساً من عمل الشيطان. والأم (ليلى علوي)، ناظرة حائرة، تعمل في المدرسة نهاراً، وتكد وتكدح على آلة الحياكة ليلاً. محرومة من اشباع رغباتها المشروعة بسبب جنوح شريك حياتها إلى اعتبار المضاجعة لغرض غير الخلفة، أي للمتعة، من المحرمات.

ليس في حياتها الكئيبة ما تهتم به، سوى ذلك الزوج القبيح، المعادي لكل ما هو جميل.

الولد الشقي

وابن صغير (يوسف عثمان)، مولع بالسينما، وابنة في عمر الزهور، مولعة بابن الجيران.

والصغير شاهد على العصر، بذكرياته عن الصراعات داخل الأسرة تروى بلسان الممثل (شريف منير).

وصراعه مع أبيه الذي يحظر عليه الذهاب إلى السينما، محور من محاور الفيلم بل يكاد يكون محوره الرئيسي. وينتهي بالصغير منتصراً، بموت الأب بالسكتة القلبية، وتسلل التليفزيون إلى البيت حيث كان ممنوعاً من منطلق العناد والاستبداد.

والغريب موقف الرقابة المتعنت من الفيلم ووضعها العراقيل أمام عرضه، ومحاولاتها المحمومة من أجل الحيلولة بينه وبين الجمهور، فإذا استحال ذلك، فيمكن تشويهه بالبتر، بحيث يصبح عبثاً لا طائل وراءه مثل معظم الأفلام .

صحراء التتار

والآن إلى مهرجان الفيلم الكندي، وتخريب الرقابة له، لأقول أنه جرى افتتاحه بفيلم “غزوات البرابرة” لصاحبه “ديني أركان”.

ولأنه له فيلمان آخران ضمن عروض المهرجان، هما حسب تواريخ عرضهما أثناء أيام المهرجان الستة “انحدار الامبراطورية الامريكية” و “يسوع مونتريال”.

توقعت أن أسمع كلمة مخرج فيلم الافتتاح كما وعدنا بذلك قبل بدء أيام المهرجان.

غير أن توقعي خاب.. لماذا؟

لأن المخرج لم يغادر وطنه كندا، أو ربما غادره إلى أرض بلد آخر، غير مصر، أرض الفراعنة.

أما لماذا آثر عدم المجئ إلى القاهرة، حيث الاحتفاء به مخرجاً متميزاً، أفلامه محل اهتمام جميع المهرجانات، واشادة جميع النقاد الواعين، فذلك لأنه كان قد وصل إلى علمه خبر معاداة رقابتنا للتنوير، وحرية التعبير.

وبحكم ذلك العداء المستحكم، لها أكثر من مأخذ على ما أبدعه من أفلام، وبخاصة “انحدار الامبراطورية الامريكية” و “يسوع مونتريال”.

قوى الظلام

ولعلها كانت تزمع الحيلولة بين جمهور مركز الابداع، وهو جمهور صغير، وبين مشاهدة رائعته “غزوات البرابرة” أكثر أعماله السينمائية نضجاً، وشجباً لقوى الظلام، وآية ذلك فوزها بأوسكار وسيزار أفضل فيلم أجنبي جرى عرضه في كل من الولايات المتحدة وفرنسا، وهو أمر نادر الحدوث في دنيا صناعة الأطياف.

ولأنه أي “أركان” فنان عاش طوال عمره (60 عاماً) في بلد يتمتع مبدعوه بقسط وافر من حرية التعبير لم يرتض لكرامته أن تهان، آثر عدم المشاركة في فعاليات مهرجان تتحكم في أفلامه رقابة ليس في وسعها التمييز بين ما يضر، وبين ما ينفع الناس!!