فجأة اكتشف المخرج “ستيفن سبيلبرج” صاحب “الفك المفترس” و”أي ت” و”انديانا جونز” أنه يهودي، من شعب يجري اضطهاده على مر العصور.
وفجأة استرجع على شاشة ذاكرته مذابح هتلر وجلده لشعبه في المعتقلات والأفران، قبل نصف قرن من عمر الزمان.
وفجأة وعلى رؤوس الأشهاد، أخذ يفاخر دون كلل أو ملل بيهوديته في كل مكان.
ففي حديث مع مجلة لايف الأمريكية “ديسمبر 1993” بمناسبة عرض “قائمة شيندلر” ـ 7 جوائز أوسكار ـ فيلمه الأخير وما أكثر أحاديثه في هذه الأيام قال تفسيراً لتلك التحولات المفاجئة، ولإخراجه ذلك الفيلم “أردت أن أقول للناس الذين حاولوا اشعاري بالدونية ليهوديتي كم أنا فخور بأن أكون يهودياً”.
وأضاف “هناك أكثر من سبب دفعني إلى عمل الفيلم؛ اهتمامي بالمحرقة، وفزعي من تكرار الإبادة كما يحث في البوسة الآن. وكما يحدث على يد النظام العراقي في محاولاته تصفية الاكراد.
نحن نحاول التغاضي عن هذه اللحظات في تاريخ العالم مع أنها تماثل تماماً ما حدث سنة 1943″.
الحل النهائي
وطبعا يقصد”سبيلبرج” بما حدث في تلك السنة؛ بدء النازي في تنفيذ خطة هتلر الرامية إلى تصفية يهود أوروبا بحرقهم في الأفران تلك الخطة المسماة بـ”الحل النهائي” والتي تم اكتشاف أهوالها والحرب العالمية الثانية على وشك الانتهاء.
والغريب أن يهوديته ونضجة لإخراج فيلم جاد عن نكبة يهود أوربا أيام نير النازية لم يتكشفا له إلا في سنه الاحتفال بمرور نصف قرن على معرفة العالم بمحرقة الأفران”!!”
وفي سنة “حديقة الديناصورات” فيلمه الذي حقق لشركة يونيفرسال ايرادات قاربت الألف مليون دولار.
فقصة “سفينة شيندلر” المعروفة في الولايات المتحدة تحت اسم قائمة شيندلر اشترى “سيدني شاينبرج” رئيس تلك الشركة حق عمل فيلم مستوحى منها من أجل “سبيلبرج” المخرج الشاب.
وكان ذلك قبل اثني عشر عاماً أو يزيد وتمر الأيام عاماً بعد عام، والقصة المشتراة ترقد في ظلمات الأدراج بلا حراك، إلى أن أيقظها “سبيلبرج” بكاميراه السحرية في سنة الاحتفال من قصة شبه منسية إلى فيلم يفوز بجائزتي اتحادي نقاد نيويورك وصحفي لوس انجلس الأجانب، ويرشح لاثنتي عشرة جائزة أوسكار من بينها جوائز أفضل فيلم ومخرج وسناريو وتمثيل.
ونادراً ما يرشح فيلم لمثل ذلك العدد من الاوسكار ويفوز بــ 7 جوائز منها وقد يكون من المفيد هنا أن أذكر أن “سبيلبرج” جرى ترشيحه هو وأفلامه للأوسكار أكثر من مرة بدءًا من الفك المفترس “1985” مروراً بكل من “لقاءات قريبة من النوع الثالث” 1977 و”غزاة العهد المفقود” 1981 و”أي تي” 1982 وانتهاء “باللون القرمزي”.
وما أكثر الاحباطات عندما كان يفاجأ في كل مرة بالخروج هو وفيلمه صفر اليدين من مضمار الاوسكار.
غير أن الأمر في سنة “حديقة الديناصورات” وهي نفس سنة الاحتفال بمرور نصف قرن على اكتشاف محرقة اليهود كما سلف البيان، يختلف عنه في السنوات السابقة، وما صاحبها من احباطات فبفضل ايرادات فيلمه في الولايات المتحدة وحدها، ارتفع رقم ايرادات أفلام السنة الماضية داخلها إلى خمسة آلاف مليون وازدادت أربعة وعشرون مليون دولار متجاوزة بذلك رقم ايرادات سنة 1989 القياسي وهو خمسة آلاف مليون وازدادت ثلاثة ملايين دولار.
فيلم للأوسكار
إذن هو الرجل الذي أنعش بديناصوراته اقتصاد هوليوود ولا أقول أنقذه من الكساد. وإذا كان لكل مجتهد نصيب فليكن نصيب “سبيلبرج” الأوسكار فيما لو تقدم بفيلم جاد يجمع على محاسنه النقاد.
ويا حبذا لو كان ذلك الفيلم الموعود عن محنة اليهود في محارق هتلر يذكر بها الانسانية جمعاء.
وبطبيعة الحال كان “سبيلبرج” على أهبة الاستعداد بفيلم مصنوع وفقاً للمواصفات.
فيلم جاد جداً، مداره مأساة اليهود الكبرى في بولندا من خلال سيرة رجل أعمال نمساوي نجح إبان الاحتلال النازي لذلك البلد في انقاذ حوالي ألف ومائة يهودي من موت أكيد.
وصاحب الأعمال هذا اسمه “اوسكار شيندلر” أما كيف أنقذ ذلك العدد من يهود مصنعه في مدينة “كراكاو” ولماذا؟
فهذا ما يحكيه بالتفصيل “قائمة شيندلر” الفيلم المأخوذ عن قصة لــ”توماس كينيللي” يقال أن وقائعها حدثت بالفعل في ذلك المصنع الذي لايزال مبناه موجود في تلك المدينة حتى يومنا هذا.
ثم في معسكر”بلاشاو” للعمل الاجباري حيث كان يفرز المعتقلون فمن كان منهم صالحاً للعمل الشاق استبقي، أما من كان غير صالح فيرحل إلى معسكر اوشفيتز على بعد خمسة وثلاثين كليومتراً، ومنه إلى الأفران وبئس المصير.
و”شيندلر” “ليام بنوسن” صاحب ذلك المصنع يبدأ به الفيلم رجل أعمال مقبل على الحياة بكل متعها ولذاتها، يسعي إلى استغلال الغزو الكاسح لبولندا في خريف سنة 1939 وتهجر اليهود إلى مدينة “كراكاو” بمعدل عشرة آلاف يهودي كل أسبوع.
باستغلال ذلك الاحتلال والتهجير في بناء مصنع لإنتاج أدوات مطبخية لاستعمال القوات المسلحة في الجبهة يجند للعمل فيه اليهود لا كإجراء وإنما كعبيد.
والفيلم يركز عليه وكيف تحول شيئاً فشيئاً من رجل أعمال لا يقيم وزناً إلا لمصالحه المادية الأنانية إلى بطل رغم أنفه أو منقذ لليهود من براثن الطغيان النازي ويرمز له قائد معسكر الاعتقال “أمون جوته” “رالف فينيس”.
أسود وأبيض
ومراعاة منه لجلال ذكرى إبادة ستة ملايين يهودي في محارق هتلر أخرج “سبيلبرج” فيلمه مجللاً بالسواد.
فباستثناء لقطة لصبية ترتدي معطفاً أحمر، يقع نظر “شيندلر” عليها وسط مشهد تهجير اليهود إلى معتقل الموت وهو مشهد يسوده اللونان الأسود والأبيض شأنه في ذلك شأن الفيلم.
وباستنثاء خاتمة قصيرة معاصرة بالألوان يسير فيها الباقون من قائمة شيندلر على قيد الحياة أمام قبر المنقذ “شيندلر” في اسرائيل وفي رفقة بعض الممثلين الذين أدوا أدوارهم في الفيلم، وهم جميعا بطبيعة الحال يصغرون الناجين في السن كثيراً.
فالفيلم بدءًا من فاتحته وحتي نهايته السابقة على تلك الخاتمة الملونة التي يراها نفر من النقاد دخيلة، فيلم قاتم غير ملون شديد السواد على غير المعتاد في أفلام مصنع الاحلام.
والغريب أنه لا يكاد يخرج ناقد عن الاجماع بأن الفيلم جدير هو ومخرجه بالأوسكار الذي حصل عليه بالفعل. فأحدهم هو “أنور بريت” ينهي كلماته في مجلة “فيلم بريفيو” عن”قائمة شيندلر” قائلاً “من الصعوبة بمكان تصور أن يتفوق “سبيلبرج” على إنجازه هذا بفيلم آخر حتى يفوز بأوسكار أفضل مخرج. وإذا ما فشل مرة أخرى فيكفيه فخراً المحافظة على ذكرى أحد أبطال التاريخ المنسيين فضلاً عن صنع فيلم مثير، رفيع شديد التأثير.
وحتى ديريك مالكولم ناقد “الجارديان” فرغم عدم حماسه “لقائمة شيندلر” ها هو ذا يرشحه للأوسكار قائلاً “كل شيء نسبي والأوسكار فازت بها أفلام أكثر منه سوءًا!!
وفي نفس الصفحة حيث كتب “ديريك” نقده كتبت “هيلابيك” من هيئة تحرير الجريدة وقد فاض بها الحماس “بكل المعايير” هذا فيلم عظيم”.
والأغرب ما حدث في عديد من الدول عند عرض الفيلم.
فلقد كان ضربة موجعة “لهنريتا منديز” رئيسة هيئة الرقابة في الفلبين.
فتنفيذاً منها لتعلميات رقابية سائدة منذ زمن بعيد قررت حذف بضع لقطات من قائمة شيندلر.
وإذا لم يرتض صاحب الفيلم “سبيلبرج” قرارها فقد بادر بسحبه محتجاً مشترطاً عرضه كاملاً.
وما هي إلا أيام وبعد حملة صحفية ضارية ضد الرقابة حتى صدر أمر من أعلى سلطة في البلاد بعرض الفيلم دون مساس بأية لقطة منه.
وفي الأرجنتين توجه كبير اليهود في بيونس ايرس بنداء إلى الرئيس “منعم” يطلب إليه فيه تشريف حفل العرض الأول للفيلم بحضوره فاستجاب شاكراً.
وفي ألمانيا كان الرئيس”وايزاكر” في صحبة صاحب الفيلم ليلة عرضه الأول.
وفي البيت الأبيض تناول بيل كلينتون ومعه سيدة أمريكا الأولي طعام العشاء مع “كنيللي” صاحب الكتاب.
هذا بعض من كثير يحكى عن الفيلم الفائز بسبع جوائز أوسكار وعن مخرجه “ستيفن سبيلبرج”.