عش المجانين الضحك والبكاء مع المجانين

“طار فوق عش المجانين” فيلم أراه غريبا في كل شيء، غريبا في موضوعه الذي يدور في مصحة نفسية، أو بمعني أصح مستشفي للأمراض العقلية لاتخرج منها الكاميرا إلا مرة واحدة في صحبة المجانين من نزلاء المستشفي إلي البحر الفسيح، في نزهة لا تطول…….غريبا في عدد جوائز الأوسكار التي توجته بها هوليوود ، فقد حصل منها علي الجوائز الخمس الأولي ، أي التي تمنح لأحسن فيلم و لأحسن تمثيل للرجال ( جاك نيكولسون ) و للنساء ( لويز فلتشر )علي حد سواء وللإخراج “ميلوش فورمان”، ولأحسن سيناريو مستوحي من عمل أدبي (لورانس هوبر وبو جولدمان) .
وأتذكر أن هذا الحدث ليس له مثيل في تاريخ السينما إلافي فيلم واحد “حدث ذات ليلة” الذي مثلته “كلوديت كولبيرت” مع “كلارك جيبل” وأخرجه “فرانك كابرا“ قبل نحو أربعين عاما، وبالتحديد سنة ١٩٣٤ .
ومن أوجه الغرابة في “طار فوق عش المجانين” أنه يبدأ بداية توحي بأننا سنلتقي بعمل ضاحك و لكنه عندما ينتهي إذا بِنَا نكتشف أن ما التقينا به إنما هو إلي المأساة أقرب.
ومما أثار دهشتي عند مشاهدة الفيلم للمرة الثانية، أن الجمهور كان يضحك مع المجانين ولا يضحك عليهم، وفرق كبير بين الأمرين …….فألا نضحك علي المجانين ونضحك معهم قد تحول ب “طار فوق عش المجانين” إلي عمل جاد بعيد عن الإسفاف والإبتذال……..وهذا دون شك يرجع إلي مهارة المخرج “ميلوش فورمان” وإنسانيته……… وهي إنسانية حمته من السقوط في هاوية سوقية الإتجار بآلام المعذبين بالجنون والإضحاك عليها.
ينتهي “طار فوق عش المجانين” بالفجر……… وهندي يجري بخطوات كالفراسخ نحو جبل شاهق ….. هذا الجبل الذي سبق وأن رأيناه في أول لقطة بدأ بها الفيلم….. إنه يجري منطلقا نحو الحرية من جهنم يتركها وراءه إلي الأبد….. وجهنم هذه التي يفر منها الهندي من النوع العصري…… جهنم مكيفة ألهواء، كل من فيها في خدمة النزلاء….. ينجز ما تشتهي أنفسهم وما تتمني….موسيقي حالمة، أصوات رقيقة تجري كالهمسات، كلمات حلوة تنساب في عذوبة الأنغام….. وحبوب من كل الألوان تنزل عليهم بردا و سلاما.
وداخل هذا الفردوس الأرضي تدور أحداث الفيلم المستوحي من قصة “طار فوق عش الوقواق” للكاتب الأمريكي “كن كيزي” وهو أديب موهوب، تعرضت حياته خلال الستينات لضروب من المحن والخطوب، فاتهم بتعاطي المخدرات، وامتحن في رزقه وحريته، فلم تنشر له أية قصة بعد “أحيانا فكرة عظيمة” سنة ١٩٦٤ لزمن امتد إلي أكثر من عشر سنوات، وطاردته المباحث الإتحادية الأمريكية لتجعل منه إنسانا مشردا مكرها علي الفرار عبر نهر “الريو جراند” إلي المكسيك وقلبه في حلقه جزعا.
وقصة “كن كيزي” تتسم بالقسوة والعنف وبقدر من الراديكالية، بالمفهوم الحرفي لهذه الكلمة.
والفيلم يرتفع إلي مستوي القصة ملتزما بسياق الأحداث فيها… يعيد خلق جوها الخانق، محتفظا بالمغزي الرمزي الذي تتميز به.
والوقواق في اللغة الدارجة الأمريكية معناها “المجذوب” وهو في الفيلم رجل اسمه “راندي ماكميرفي (جاك نيكولسون). رافض….متمرد، خاسر عن طيب خاطر …. إنه من نوع أبطال السينما الأمريكية الذين شاهدناهم في بعض الأفلام ل “بول موني” و “كيرك دوجلاس” و “بول نيومان”؛ هذا النوع المنفلت، الغاضب في غير فهم، الذي يسير نحو قدره النهائي وكأنه قد اختار الإنتحار.
و”ماكميرفي” يبدأ به الفيلم قادما من السجن، حيث ادعي الجنون ليلتحق بمصحة نفسية نموذجية، يعمل فيها علي نشر الفوضي إلي أن ينتهي به أصحاب السلطان إلي الجنون الحقيقي، ثم الراحة الأبدية بالموت قتلا….
ويرمز صاحبا القصة والفيلم ب “عش المجانين” إلي العالم الذي نعيش فيه بكل آلامه وعذاباته ومفارقاته ….
في هذا العالم ينقسم الناس إلي محكومين وحكام. أما المحكومون فلهم الحبس الإنفرادي والعلاج بالصدمات الكهربائية وما إلي ذلك من وسائل التعليم والتهذيب بالقهر والتعذيب.
أما الحكام، أو السلطة في الفيلم، فتمثلها الآنسة ريتشد (لويز فلتشر) وهي تستمد سلطانها من المدير في القمة…. ومن الأطباء….. ومن لجنة خاصة تجتمع دوريا لفحص الحالات المستعصية علي العلاج أي الحالات المتمردة علي النظام…
والآنسة ريتشد تُمارس عملها من خلال ممرضين من السود… وهي تكن لهم الإحتقار… وهم لا يحملون لها سوي الكراهية والمقت.
ولكل مناسبة ترتدي الآنسة ريتشد قناعا… وهي أكثر العاملين بالمصحة يقظة واتصالا بالنزلاء، توزع عليهم الحلوي والعقاب!
ولو حاول أحد المساس بسلطانها تشقي وتعتريها التعاسة وينتابها الهم والغم وكأنه بمحاولته قد اعتدي علي أغلي ما يعتز به الإنسان.. حريته.
ومنذ لقائها الأول مع “ماكميرفي”، رأت فيه رجلا خطرا فاضحا، فهو مشاغب وهو جديد…. وهي تخاف الجديد لأن معه يصعب التنبؤ ويتهدد الهدوء المستقر القائم علي الضبط والربط، أخطار لا تبقي من حسن الآداب والنظام شيئا.
وحقا كان ماكميرفي عند سوء ظنها فقد أفسد العش الهاديء وأفشي الفوضي محل النظام.
فمن أول دخوله مرتدياالبنطلون “البِلوّر جينز” وهو يحمل معه جراثيم الفوضي والإستهتار…. يحتفظ بالحبة المهدئة تحت لسانه ليلفظها في غفلة من الريسة ريتشد.
يعلم النزلاء كيف يلعبون كرة السلة فيكشف لهم حظهم من الفهم والذكاء… وهو حظ كبير.
(هذا المشهد الرئع في الفيلم ليس له وجود في القصة فهو من إبداع ميلوش فورمان).
يفسد عملية العلاج الجماعي بلعبة كوتشينة أوراقها عليها تصاوير جنسية جريئة.
ينطلق سرا بالنزلاء الزملاء إلي العالم الكبير خارج سجن المصحة في رحلة صيد ومغامرات.. الخ.. الخ..
وكان لا بد من الإصطدام بين الإرادتين، إرادة التغيير متمثلة في ماكميرفي، وارادة المحافظة علي القديم متمثلة في الآنسة ريتشد.
و “ماكميرفي” هو البطل الفرد في السينما الأمريكية…. يكفي أن تراه لتعجب بانطلاقه وجرأته في مقاومة القديم ومنازلته، ونحن نعرف مقدما أن معركته خاسرة…… نعرف أن ثمة حكما عليه بالموت….. وأن هذا الحكم موقوف التنفيذ لأنه بطل فوضوي لا يعرف ما استطاع أن يعرفه الهندي الأحمر”برومدن” الذي يعثر علي طريقه إلي الحرية في نهاية الفيلم لأنه تسلح بالمكر والدهاء، بادعاء أنه لا يسمع و لا يتكلم، بعد أن عرف أن ألعدو هو النظام الذي يمتد بطول البلاد وعرضها وليس الآنسة ريتشد التي لا تعدو أن تكون أداة عمياء في خدمته، وأن التخلص منها لن يؤدي إلي استئصال الشرمن جذوره بأي حال من الأحوال فهذا الإستئصال معركته تطول.
ولكن البطل الفوضوي يخلط بين الأمور غير صبور… ومن هنا مأساته ومأساة بطل “طار فوق عش المجانين”

الصهيونيه في السينما

الصورة أصدق أنباء من الكلمة ولا غرابة في هذا لأن الصورة تُعبر عن الواقع بالواقع في حين أن الكلمة لا تعدو أن تكون تعبيراً عنه بالرمز. ولعله مما يؤيد ذلك تلك الصورة التي استهلت بها مجلة كراسات السينما الفرنسية عددها عن ديسمبر عام 1963 المكرس للسينما الأمريكية. فما الذي جاءت به هذه الصورة من أنباء تُعبر عن الواقع تعبيراً أصدق من الكلمة، بل فيه غناء عنها؟
إن الصورة عن هوليوود عام 1918 أي في عهد الرواد الأوائل الذين بنوا مصنع الأحلام. وهو عهد يمتد من عام 1913 حتى عام 1919 وفي الصورة نخبة من هؤلاء الرواد لا تزيد عن سبعة رجال وامرأة واحدة هي جلوريا سوانسون نجمة السينما الصامتة الذائعة الصيت. ولا يُهمنا من الرجال السبعة سوى ثلاثة شاءت الصدفة بل قل الحكمة أن يتراصوا إلى جوار بعض مُحيطين بالنجمة المُتدثرة بمعطف من فرو أسود ثمين. فمن هؤلاء الرجال السبعة الذين وقفوا إلى جوار بعض متساندين؟
أولهم إلى يسار الصورة هو هربرت روتشيلد يليه أدولف زوكور ثم سيسيل ب دي ميل، أي الممول فالمنتج فالمخرج. وقد لعب كل واحد منهم دوره الهام وبتنسيق تام في بناء المصنع الذي ظل يُنتج الأفلام لمدة خمسين عاماً أو ما يزيد من عمر الزمن ويبدو لمن لا يحكم على الأمور إلا بمظاهرها أن دور أدولف زوكور وسيسيل ب دي ميل في بناء مصنع الأفلام هو الدور الرئيسي. الأول باعتباره الرائد المجري الذي أسهم في تأسيس شركة بارامونت- تلك الشركة التي تُعد بحق أهم احتكارات هوليوود وأكثرها تأثيراً في مسار السينما الأمريكية- الذي نحت عبارة الجمهور لا يُخطئ أبداً لتتخذ منها هوليوود شعاراً لسلعها التي غزت بها القلوب والجيوب، وتبريراً لانتاج سوقي لا يُراعي حُرمة لصدق أو لفن.. واكتشف نظام النجوم ترصع به سماء عاصمة السينما ليتحول إلى سديم بدايته ماري بيكفورد فتاة بريئة معبودة الجماهير ونهايته مارلون براندو أباً روحياً عدواً للجماهير. ولأنه ما زال يعيش ليُطفئ يوم السابع من يناير الماضي مائة شمعة.. ومن حول رأسه الذي اشتعل شيباً أبطال هم في حقيقة الأمر بقايا كعبة السينما تحولت إلى أطلال.. ولو دققت في وجوه هؤلاء الأبطال لتعرفت بعد عناء على شارلتون هستون وجريجوري بك وبوب هوب وبت ديفيز وجروشو ماركس وغيرهم ممن كانوا في سالف الأوان.
والثاني دي ميل باعتباره الرائد الأمريكي الذي أسهم بجرأته وحذقه في انتاج وإخراج سبعين فيلماً بدأت صامته بزوجة الهندي 1913 وانتهت متكلمة بالوصايا العشر 1956.
واستباح الأديان والقصص في الكتاب المقدس فاظهر موسى على الشاشة مرتين صامتاً مرة (1923) ومتكلماً مرة أخرى (1956) والسيد المسيح في ملك الملوك (1927)
وشمشون ودليلة (1949) واستحدث بعض القواعد لتحريف التاريخ وتشويهه.. ما تزال جمهرة مخرجي هوليوود تسير على هديها لا تحيد عنها في جميع الأفلام التي تُنتج باسم التاريخ وبالإهدار له. ولأنه هو الذي نشر أسطورة معجزة السينما الأمريكية وذلك بدوام الزهو والتباهي بالحيل السينمائية التي استعملها مرة أيام السينما الصامتة في جوادلوب بكاليفورنيا ومرة ثانية أيام السينما المُتكلمة بأبي رواس بالبحر الأحمر لتصوير بحر الأساطير وهو ينشق بإرادة الرب ليُفسح طريقاً لقوم موسى خروجاً من مصر ثم وهو يَغْش فرعون مصر وجنده مع الاصرار على الامتناع عن إفشاء سر هذه الحيل وكأنها سر إلهي لم يوح به إلا للمخرج الأمريكي.. ولن يوحى به لأحد سواه.
ولكن الدور الرئيسي كان- في حقيقة الأمر- من نصيب أقل الثلاثة اتصالاً بالفن السابع، وأقلهم إعلاناً عن نفسه، كان من نصيب هربرت روتشيلد. ولا عجب في هذا لأنه من أشهر بيت مال: بيت الروتشيلد الذي يعرف متى وأين يستثمر رأس المال ولأي غاية يكون الاستثمار، والذي منه قدم البارون دي روتشيلد الدعم المالي للمستعمرات الصهيونية الأولى في فلسطين. وليس صدفة أن كتاب وزير خارجية بريطانيا آرثر جيمس بلفور المؤرخ 2 من نوفمبر عام 1917 والذي اصطلح على تسميته بوعد بلفور قد وُجّه إلى اللورد والتر روتشيلد عميد فرع بيت المال المذكور في انجلترا ولم يُوجّه إلى شخص آخر.
غير أن الصدفة شاءت أن تجري أحداث قضية دريفوس التي اتخذت منها الصهيونية وقوداً لإزكاء نار الدعوة (للعودة إلى أرض الميعاد) خلال عام 1895 وهو نفس العام الذي اكتُشفت فيه السينما وظهرت أول صور لها وهي تتحرك على شاشة بيضاء لا شية فيها داخل قبو بمقهى كبير بشارع كابوشين بمدينة النور.
وبالنظر إلى أن تلك القضية أدت إلى انقسام المجتمع الفرنسي الذي لم يكن له من حديث إلا عن دريفوس سواء بالحق أو الباطل لذلك لم يكن غريباً أن يقع اختيار جورج ميلييس المخرج الفرنسي على مأساة هذا الرجل لتكون موضوعاً لأول فيلم طويل له. وهو الفيلم الذي أخرجه تحت اسم دريفوس خلال عام 1899 أي بعد ثلاثة أعوام من تأليف تيودور هرتزل لكتابه الدولة اليهودية وقبل ثلاثة أعوام من تأليفه لكتابه الثاني الأرض القديمة الجديدة.
وأغلب الظن أن النجاح الذي حازه فيلم جورج ميلييس عن دريفوس قد نَبّه قادة الحركة الصهيونية ودُعاتها- ومنذ وقت مبكر- إلى أهمية السينما باعتبارها أداة دعاية سريعة وفعالة للفكر الصهيوني.
وكان أول ما ظهر من سينما مباشرة في خدمة الصهيونية فيلم اسمه (حياة اليهود في أرض الميعاد) ليعقوب بن دوف وهو مخرج صهيوني من أصل روسي استقر به المقام بفلسطين قبل نشوب الحرب العالمية الأولى. وقد أخرج هذا الفيلم خلال عام 1912 أي في الفترة التي اشتد فيها ساعد الصهيونية بهزيمة ثورة 1905 بروسيا القيصرية، وبدء موجة الخروج من سجن الشعوب تلك الموجة التي عُرفت باسم الهجرة الثانية.
ومن بعد صدور الوعد أصبحت الصهيونية إزاء وضع جديد كل الجدة يتطلب الإسراع بتهجير عدد متزايد من اليهود إلى فلسطين لتيسير إنشاء الوطن القومي الموعود. وفي سبيل بلوغ هذا الهدف اعتمد دعاة الصهيوينة على الاستغلال الدعائي لأمرين: أولهما الدين من خلال قصص العهد القديم وأساطير الأولين، والثاني الطاعون النازي وما يحمله من فكر عنصري معاد للسامية.
ولسنا نتعرض في هذا المقام بالتفصيل لاستغلال دعاة الصهيونية للدين فذلك غير خافٍ على كل من له علم- ولو قليل- بنشوء الحركة الصهيونية، وإنما ما نريد أن نتعرض له ونقف عنده وقفة يسيرة هو استغلال الصهيونية للدين في السينما.
من المُسّلَم في الدين اليهودي أن (عودة) اليهود من الشتات إلى جبل صهيون في أورشليم (القدس) أمرٌ حتمي. ومن المُسّلَم في التاريخ اليهودي أن حنين اليهود وبالذات فقرائهم إلى الأرض الأم في فلسطين إن هو إلا رد فعل عاطفي لفظاعة الحياة واليأس من صلاح الأحوال في المنفى. ولعل خير تعبير عن هذا الحنين هو نشيدهم الذي يجري بهذه الكلمات: لا نزال مشردين في هذا العالم، ولكن في العام القادم سنكون في أورشليم.. ولا نزال في العام القادم سنكون أُناساً أحراراً.
ومفهوم هذا النشيد أن ما يعذب في الشتات هو التشرد والعبودية، وأن ما يبعث الأمل هو العمل لا من أجل حرية اليهود في الأرض التي بها يعيشون وإنما من أجل الخروج للعودة إلى أورشليم.
ولا يسع من يقرأ التوراة إلا أن يعترف بما في قصة موسى وهو يقود شعبه من أرض الفراعنة إلى أرض اللبن والعسل من معان ورموز تستطيع الصهيونية أن تطوعها لخدمة الدعوة بين يهود الشتات للتحرر من العبودية والخوف بالعودة إلى أرض الميعاد.. ويتضح من القصة أنها تُفيد الصهيونية لو أُحسن إخراجها في لغة السينما ففيها التشرد والعبودية والأمل والعمل من أجل الخروج والعودة بالشعب المختار إلى الأرض الموروثة. ومن هنا وقوع اختيار شركة بارامونت لصاحبها أدولف زوكور على قصة موسى لتنتجها تحت اسم الوصايا العشر مرتين، المرة الأولى صامتة بلا ألوان عام 1923 في أيام قلَّ فيها اقبال بني إسرائيل على الهجرة إلى أرض الأنبياء. والمرة الثانية ناطقة بالألوان عام 1956 عقب إعلان قيام دولة إسرائيل في أيام انحسرت فيها موجة هجرة أبناء الشعب المُختار.
وفي كلا الفلمين كان سيسيل ب دي ميل هو المخرج وفي كليهما كان لا همَّ للمخرج الأمريكي- الذي شاهدناه إلى جوار أدولف زوكور وهربرت روتشيلد في صورة ترجع إلى أيام الرواد عقب ارسال الوعد إلى لورد روتشيلد بقليل- إلا أن يتناول قصة موسى وبني إسرائيل أثناء وجودهم في أرض مصر ثم أثناء الخروج منها على وجه مشوه المُراد به باطل هو تصوير أهل مصر وكأنهم أبناء شعب منبوذ كُتب عليه ذل العيش في أغلال العبودية لفرعون وقومه الظالمين.
وهذا السبيل الذي سلكه دي ميل لا يُثير دهشة أحد، فالتاريخ ليس من الأمور التي يُهتم بها أو يُهتز لها، آية ذلك أنه لما اعترض النقاد على استعمال اسم الأميرة (نفريتري) أو (نفرتيتي) في الوصايا العشر- رغم أن التاريخ يقول أن هذه الأميرة عاشت في غير عصر موسى- لم يُعر اعتراضهم التفاتاً وزاد من حيرة نقاده حين قال في استهتار بَيّن أن ثمة أميرتين بهذين الاسمين يفصل بينهما قرن ونصف من عمر مصر القديمة. وأن الأميرة العاشقة (آن باكستر) لموسى (شارلتون هستون) في الفيلم نفرتيري ونفرتيتي في آن واحد. وأنه في فيلمه عن السيد المسيح ملك الملوك ألقى مسئولية موت المخلص على كايفاس بدلاً من يهوذا مُراعاة منه لشعور اليهود. وإنما الذي يُثير الدهشة أن يجيء دي ميل إلى مصر خلال عام 1945 ليصور فيلمه في ربوعها، وأن يشارك الجيش المصري في بعض المشاهد لشعب مصر لاسيما مشهد البحر الأحمر وهو ينفلق كالطود العظيم لينجو موسى ومن معه أجمعين ثم يُغرق الله الآخرين أي فرعون ومن معه من الجنود المصريين. وأن يلعب عباس البغدادلي وهو ضابط مصري سابق من سلاح الفرسان- دور سائق عربة رمسيس فرعون مصر (يول براينر). وأن يتوج ذلك بحفل افتتاح كبير يُعرض فيه فيلم الوصايا العشر في مدينة نيويورك يوم التاسع من نوفمبر عام 1956 أي فور اجتياح القوات الإسرائيلية لشبه جزيرة سيناء بأيام بل قل ساعات معدودات.
وإذا ما تطرقنا إلى استغلال الصهيونية للطاعون النازي في السينما خدمة لما ترسم وتخطط من مشروعات لتبين لنا أن الصهيونية لم تعاد النازية لمعاداتها لليهود، وأنما اتخذت من هذا العداء ذريعة لإنشاء وطن قومي للشعب اليهودي.
وفي الحق إن ما فعلته النازية في يهود أوروبا فعلت أكثر منه بكثير في شعوب الاتحاد السوفيتي ويوجوسلافيا وغيرها من شعوب شرق أوروبا، ولكن الصهيونية لا تركز في السينما إلا على ما فعلته النازية في حق اليهود.
ولا جدال في أن النازية برجعيتها السوداء وتأكيدها على نقاء العنصر الآري من خلال الحط من شأن العنصر السامي قد مهدت الطريق إلى رجعية سوداء أخرى تؤكد على نقاء شعب الله المختار من خلال تحقير الشعوب الأخرى لاسيما الشعوب العربية. فمن يرى الأفلام المعادية للسامية التي انتجتها ألمانيا الهتلرية وبخاصة اليهودي الخالد لصاحبه الدكتور فريتز هيبلر واليهودي سوس لصاحبه فايت هرلان لابد وأن يُصاب بالغثيان من وباء العنصرية وكيف فقد حكام ألمانيا كل صواب. فما يعيب اليهود في نظر السينما الهتلرية هو ما يعيب الشعوب المتخلفة كافة وبخاصة الملونة منها.
وهذا الجنون العنصري كان لابد وأن تفيد منه الصهيونية.. فبفضله بثت الذعر في قلوب اليهود ودفعت جموعهم إلى الإنتماء إلى الحركة المنادية بالعودة إلى الوطن المُختار للشعب المُختار. وبدأت هوليوود تُنتج أفلاماً تُركز على اضطهاد اليهود في أوروبا المُحتلة بقطعان النازية وبالتجاهل لأي اضطهاد آخر.
والراجح أن الفيلم الذي استهل حركة التنوير باضطهاد اليهود إبان العهد النازي وأفادت منه الصهيونية دون وعي من صاحبه أو بوعي لا يصل إلى درجة التواطؤ مع الفكر الرجعي الصهيوني هو الدكتاتور العظيم (1940).
إلا أنه منذ الدكتاتور العظيم، وبعد أن كشف النقاب عن جرائم الهتلرية، والسينما حيثما للصهيونية نفوذ لا تركز عند التعرض للأحداث إبان فترة احتلال قطعان هتلر لأوروبا الا على اضطهاد اليهود.
على أن من الخطأ البيّن أن نعتقد أن الصهيونية في السينما وقفت عند حد التركيز على محنة اليهود تحت سلطان هتلر. إنها منذ اندحار ألمانيا النازية وقيام اسرائيل على أرض فلسطين وهي تعدد أنواع الاضطهاد لهم في كل أرض غير أرض الميعاد كما تُهيئهم نفسياً للخروج من منفاهم في الشتات نحو الفردوس الموعود!
وهكذا بدأت أفلام تتكلم عن العنصرية ضد اليهود في الولايات المتحدة من بينها فيلم النار المتشابكة (1947) لصاحبه أدوارد ديمترك وهو المخرج الذي ذهب إلى اسرائيل عام 1953 حيث أخرج فيلم المحتال الذي قام بأداء الدور الأول فيه كيرك دوجلاس، وفيلم اتفاقية الجنتلمان أو الحائط الخفي (1947) لصاحبه إيليا كازان الذي وقع اختياره على جريجوري بك ليؤدي فيه أحد الأدوار الرئيسية.
ولعل خير فيلم يضرب به المثل على أن الصهيونية في السينما حريصة غاية الحرص على تنبيه اليهود إلى خطر العيش خارج اسرائيل هو الخروج (1960). فهذا الفيلم- وهو عن قصة للأديب الصهيوني ليون اوريس- يصف بتفصيل وبأسلوب شاعري غنائي ميلاد اسرائيل. وقد اختارت هوليوود لانتاجه- وهو انتاج ضخم لأن الصهيونية أرادت له أن يكون فيلماً من مائتي دقيقة وأن يكون شأنه بالنسبة لاسرائيل شأن فيلم ميلاد أمة بالنسبة للولايات المتحدة- دالتون ترامبو. وهو أحد عباقرة فن كتابة السيناريو بعاصمة السينما، واتو بريمنجر الذي يُعتبر واحد من أهم مخرجي السينما الأمريكية المعاصرة، وبول نيومان لأنه أكثر النجوم شهرة وأشدهم تعصباً للصهيونية. وبعد الفراغ من انتاجه وقبل توزيعه وقع الاختيار عليه ليكون الفيلم الذي يُفتتح به مهرجان كان عام 1961.
وإننا لوشاهدنا الفيلم لوجدنا فيه كل جراثيم الدعاية الصهيونية التي نجد بعضاً منها في الأفلام المعاصرة أو التالية له. ولفهمنا الاهتمام به.
فالاسم المختار له هو “الخروج” ذلك اللفظ السحري الموغل في القدم والذي تستثمره الصهيونية للإيحاء لليهود بأن الخروج من العالم المُحيط باسرائيل لازم بل فرض كما كان الحال أيام فرعون حين قاد موسى بني اسرائيل خروجاً من مصر. أما موضوعه فينساب في خطين مرتبطين الأول عن محاولة دخول الباخرة “الخروج” فلسطين بما تحمل من بقايا يهود معسكرات الاعتقال النازي الناجين من الإبادة الجماعية ومقاومة السلطات البريطانية عودة يهود الخروج الذين كُتبت لهم النجاة من فرعون ألمانيا إلى أرض الميعاد. والثاني ميلاد دولة اسرائيل وشروع العرب في وأد المولود الجديد بشن الحرب التي انتهت بانتصار الاسرائيليين بفضل إيمانهم وتقدمهم على العرب الغُزاة.
ونحن بعد مشاهدة الخروج نحس من أول لقطة أننا بإزاء فيلم صهيوني قح لا عهد لنا بمثله من قبل في تاريخ السينما فهو يدخل في عِداد أفلام الانتاج الضحم، ومخرجه يعرض للتاريخ القريب على هدى ما رسمه شيخ المخرجين سيسيل ب دي ميل لمخرجي هوليوود منذ ما يقرُب من نصف قرن أي بالتشويه والتحريف.
فعند مخرج الخروج لا حياة لليهود في عالم غير اليهود لأن العالم فاسد ولا يحمل ناسه لأبناء الشعب المختار إلا الكراهية لا فرق في ذلك بين من كان حليفاً بالأمس (الإنكليز) وبين من كان عدواً فالكل سواء في الحقد والبغضاء ولذلك فمن حق اليهود بل ومن الحق عليهم أن يعودوا إلى أرض الميعاد حتى ولو أدت هذه العودة إلى اقتلاع شعب فلسطين من مكانه. لأن الشعب المختار له من الحقوق ما ليس للشعوب الأدنى منه. ولا نظير فيما أعرف من أفلام لهذا التبجح على التاريخ إلا في الأفلام النازية أو في الأفلام الأمريكية التي عرضت لمأساة الهنود الحمر على وجه يُسيء إلى نضالهم بحيث يُبرر إبادتهم.
وقد نكون مبالغين إذا قلنا أن الخروج أحاط بكل الأفكار الصهيونية. ولكن لا شك في أنه عرض لجوهرها. وليس غريباً أن يكون الخروج- وهو فيلم أمريكي توزعه شركة الفنانين المتحدين الأمريكية- مطابقاً في أفكاره السائدة للدعوة الصهيونية من ألفها إلى يائها فجنسيته في الواقع أقرب إلى الجنسية الاسرائيلية منها إلى الجنسية الأمريكية أو بمعنى أصح أقرب إلى الجنسية المزدوجة الجانحة في جموح إلى الجنسية الاسرائيلية.
وهذه الجنسية المزدوجة يتمتع بها الكثير من أفلام السينما الصهيونية سواء أكانت منتجة داخل هوليوود أو خارجها، ومصداق ذلك ما جاء في قاموس السينما والتليفزيون لموريس بيس وجان لويس شاردان بباب التعريف بالسينما الاسرائيلية. فمما يُلفت النظر في التعداد الوارد في هذا الباب لبعض الأفلام الاسرائيلية أن من بينها أفلاماً كان يُقال عنها فيما مضى أنها أمريكية فلما آن الأوان أُعلن أنها أفلام اسرائيلية ومن أهم هذه الأفلام مذكرات آن فرانك والخروج.
ومهما يكن من أمر الجنسية أهي واحدة أم مزدوجة فالشواهد تدل على أن فيلم الخروج يُعتبر نقطة تحول في تاريخ الصهيونية في السينما داخل اسرائيل وخارجها. فمن قبله كانت السينما الاسرائيلية في المهد ما تزال، فاللسان العبري لم يكن قد انطلق بالكلام في كل الأفلام. وعدد الأفلام الروائية الطويلة لم يكن ليتجاوز أصابع اليد الواحدة (ثلاثة أفلام عام 1953) لأن أغلب الاهتمام كان موجهاً للأفلام القصيرة وبخاصة الوثائقية منها باعتبارها المدرسة المُثلى لتعليم النشء لغة السينما هذا إلى أن مستوى السينما الاسرائيلية لم يكن قد وصل بعد إلى المستوى العالمي الذي يسمح لأفلامها بالخروج من أرض اسرائيل انطلاقاً إلى العالم الفسيح للدعاية بين اليهود وغير اليهود.
أما بعد الخروج فقد تحولت جميع الأفلام الاسرائيلية إلى الكلام بلغة التوراة. ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل تجاوزه إلى فرض العبرية على بعض مشاهد الأفلام الأمريكية لاسيما الغنائية منها. فنحن نُفاجأ بجولي أندروز في فيلم ميلي لصاحبه جورج روي هيل (1967) وهي تتمايل طرباً في فرح يهودي بنيويورك وتُغني إلى العريس وعروسته بلسان عبري. كما نُفاجأ بماريسا بيرسون وفريتز ويبر في فيلم كاباريه لصاحبه بوب فوس (1972) وهما يتكلمان في المعبد اليهودي بلغة العهد القديم.
وزاد عدد الأفلام الاسرائيلية على مهل ليصل إلى عشرة أفلام روائية طويلة عام 1966 وإلى خمسة وعشرين فيلماً روائياً طويلاً خلال عام الاحتفال بمرور عدد مُعادل من الأعوام لهذا العدد من الأفلام على ميلاد الدولة الصهيونية. ومن بين هذه الأفلام ما هو بالأبيض والأسود وما هو بالألوان، هذا بالإضافة إلى أفلام قصيرة كثيرة بعضها روائي والبعض الآخر تسجيلي والبعض الثالث تجريبي.
وبدأ خروجها إلى العالم خارج أسوار اسرائيل. وهو خروج توج بمنح الفيلم الاسرائيلي فجوة في القمر لصاحبه أورو زوهار جائزة أحسن فيلم في مهرجان كان عام 1965 وبمنح الفيلم الاسرائيلي ثلاثة أيام وطفل جائزة أحسن ممثل للطفل (أودد كوتلر) في مهرجان كان عام 1967 وكان ذلك قبيل معارك حزيران بأيام. ولا يفوتنا أن نذكر في هذا المجال واقعتين حدثتا أثناء هذا المهرجان لما في ذكرهما من بعض بيان لمدى عناية الصهيونية بالدعاية للسينما الاسرائيلية ومن بعض تذكرة لمدى اهتمامها بلغة السينما لما لها من سحر وتأثير.
من المعروف أن ثمة تقليداً في مهرجان كان من مقتضاه أن يُعرض الفيلم بصالة الاحتفال الكبرى ثم تعقد ندوة عنه يحضرها النقاد ومن يكون موجوداً من فناني الفيلم وبخاصة مخرجه في صالة صغيرة أطلقوا عليها اسم الشاعر جان كوكتو. وقد لوحظ عند الاطلاع على برنامج اليوم المخصص لندوة الفيلم الاسرائيلي أن ثمة لقاء بين رجال الصحافة وبين الممثل الكوميدي جيري لويس الشهير بصهيونيته. وأن موعد هذا اللقاء قد حُدد بحيث يكون تالياً مباشرة للندوة. وحكمة التحديد على هذا الوجه واضحة وهي أن تزدحم الصالة بجمهور جيري لويس وهو جمهور كبير فيفيد من هذا الازدحام الفيلم الاسرائيلي. وقد تحقق ما رسم له مخططو الدعاية فازدحمت الصالة إلى الحد الذي اضطر معه بعض الصحفيين والنقاد إلى الوقوف أو الجلوس أرضاً أثناء الندوة في انتظار لقاء النجم الكوميدي.
ولم تكتف الدعاية للفيلم الاسرائيلي بهذا القدر من النجاح، وإنما نظمت الأمور بحيث يدخل النجم الصهيوني الصالة قبيل الندوة فيبدو وكأنه قد فوجئ بوجود المخرج الاسرائيلي وكأنه لم يقابله من قبل. وهنا ينبري الناقد روبير بنيامين فيعرف النجم بالمخرج وسط التصفيق والتهليل.
أما الواقعة الثانية فهي خاصة بالرجل العجوز والطفل. لصاحبه المخرج كلود بيري وهو فيلم تدور أحداثه في فرنسا إبان الاحتلال النازي حول طفل يهودي (آلن كوهين) تريد أسرته العاملة أن تنقذه من الذبح العظيم على يد هتلر وقومه الكافرين فتعطيه إلى صديقة لتذهب به إلى الريف بعيداً عن المدينة ليعيش بمنجاة في حماية والدها (ميشيل سيمون) وهو ثري عجوز يكره اليهود وسيرتهم، وبالطبع يُنَبّه على الطفل أن يُخفي دينه عن الرجل العجوز المتعصب وأن يظهر بمظهر الكاثوليكي المؤمن بالمسيح عدو اليهود. وتختلف على العجوز والطفل وعلى فرنسا الأحداث ويتعلق قلب العجوز بالطفل. وتنتهي الحرب باندحار النازية وتطلب الأسرة العاملة طفلها. ويعرف العجوز أن الطفل يهودي ورغم ذلك لا يرتد عن حبه له. وفي آخر الفيلم يوضع الطفل في قطار يمضي به إلى أهله في مكان مجهول ثم نحن لا نعلم من أمره بعد ذلك شيئا.
وقد حاول أنصار الصهيونية في السينما الفرنسية- وهم كُثَّر- أن يؤثروا على لجنة اختيار الأفلام فيدفعوها إلى اختيار الرجل العجوز والطفل لمهرجان كان. فلما فشلوا أثاروا ضجة من أجل تكريم ميشيل سيمون. وكان لا مناص من الرضوخ لحماسهم الذي يُراد به باطل لأن أحداً لا يستطيع أن يُنكر عطاء ميشيل سيمون للسينما الفرنسية. وهكذا رُتبت الأمور بحيث صعد الممثل العجوز على خشبة المسرح بصالة العرض الكبرى يوم اختتام المهرجان ليتسلم جائزة تكريمه من يد الطفل آلن كوهين وسط التصفيق والتهليل.
وبعد، فقد يكون من الخير أن نذكر قبل أن نتحدث عن الاتجاهات السائدة في السينما الصهيونية في المرحلة التالية لفيلم الخروج، أن نصيب السينما الاسرائيلية في مهرجان فينيسيا عام 1972- وهو المهرجان الذي يُختتم به موسم المهرجانات السينمائية في أوروبا- كان خمسة أفلام من بينها فيلمان روائيان طويلان، فإذا أُضيف إلى ذلك فيلم تحيا أورشليم وهو فيلم تسجيلي صهيوني لصاحبه المخرج الفرنسي هنري شابييه وكاباريه وهو فيلم موسيقي صهيوني لصاحبه المخرج الأمريكي بوب فوس وهما الفيلمان اللذان وقع عليهما الاختيار الأول لتستهل به عروض الأفلام الوثائقية التي تسجل مشاكل عصرنا والثاني ليُفتتح به المهرجان رسمياً، فإن نصيب الصهيونية في السينما يكون، والحالة هذه، سبعة أفلام. هذا في الوقت الذي لم يكن للأمة العربية من المحيط إلى الخليج في المهرجان سوى فيلمين أحدهما تسجيلي قصير لمصر لا يتجاوز عرضه عشر دقائق والثاني روائي طويل للكويت ليس فيه من الدعاية للعرب شيء.
والآن ماذا عن الاتجاهات السائدة داخل تيار الصهيونية في السينما بعد فيلم الخروج؟ إن أول ما يُلاحظ من متابعة أفلام هذا التيار أن موجة الأفلام الصهيونية المستوحاة من التوراة ومن أساطير الأولين التي طغت على أفلام هوليوود المُنتجة بهدف الابهار بعد إعلان قيام دولة اسرائيل بقليل- هذه الموجة قد انحسرت من بعد عرض فيلم الخروج عام 1961.
فعقب قيام الدولة بادرت هوليوود إلى انتاج شمشون ودليلة من إخراج سيسيل ب دي ميل وتمثيل فيكتور ماتيور وهيلي لامار (1949) وداود وباتشيبع تمثيل جريجوري بك وسوزان هيوارد (1951) وخطايا إيزابيل، تمثيل بوليت جودارد (1953) والوصايا العشر (1956) وسليمان وملكة سبأ من إخراج كنج فيدور (1959) واستر والملك لمخرجه راؤول والسن (1960) وسدوم وعاموره للمخرج روبرت الدريش (1961).
أما بعد الخروج فلم تنتج هوليوود من أفلام هذا النوع سوى فيلم واحد ضخم هو الانجيل في البداية للمخرج الشهير جون هوستون (1966) الذي أخرج من بعده فيلمين أحدهما خطاب الكرملين وهو فيلم معاد للاتحاد السوفيتي والثاني رحلة مع الحب والموت وهو فيلم اختير له آساف ديان، ابن موشى ديان، ليؤدي دور محارب يموت من أجل السلام.
في الواقع ففيلم جون هوستون عن التوراة يعتبر واحداً من أهم الأفلام التي مهدت عن طريق الدين والأساطير للتوسع الإسرائيلي عام 1967 فهو لا يتوقف من منتصفه حتى نهايته أي زُهاء تسعين دقيقة إلا عند إبراهيم ليؤكد في ذهن المشاهد تارة بالتصريح وتارة بالتلميح أن اسماعيل هو أبو العرب ومن نسل العبيد لأنه عن أم أمة (هاجر) وأن اسحق هو أبو اليهود ومن نسل السادة لأنه عن أم أميرة (سارة) وأن أرض اسرائيل تمتد من الفرات إلى النيل بالوعد من الله إلى إبراهيم.
وعلى كُلّ فإن الصهيونية في السينما- ومنذ خروج فيلم الخروج- وهي تسلك طرقاً أخرى تهدف إلى التحذير من الحياة في الشتات وإلى التذكير بالحق في العودة الي ارض الميعاد مع التركيز على أن العرب عبيد بلا حق وذلك من خلال موضوعات معاصرة لا ترتد إلى عصور الرسل والأنبياء بل قل من خلال أفلام مرحة مُتشحة بثوب الرقص والغناء.
وظاهرة استغلال هذا النوع الأخير من الأفلام للدعاية لأهداف الصهيونية وتطلعاتها قد استهلت بفيلم ميلي 1966 الذي غنت فيه جولي اندروز باللسان العبري دعاية. ثم ازداد الجنوح إليها بعد هزيمة حزيران فكان أن انتجت هوليوود فيلم فتاة مرحة لصاحبه ويليم ويلر والذي مثلته باربرا ستريسند مع عمر الشريف (1968) وفيلم هيللو دوللي من إخراج جين كيللي وأداء نفس ممثلة فتاة مرحة (1969) وفيلم كاباريه أداء ليزا مينيللي وفيلم عازف على السطح وقد أخرجه نورمان جوديسون وقام بأداء أدواره ممثل اسرائيلي الجنسية اسمه حاييم توبول. وهذه الأفلام الأربعة قد أُنفق على انتاجها مبالغ تجاوزت الخمسين مليون دولار. وهي في مجموعها تدور وجوداً وعدماً حول أحد أمور ثلاثة تُميز شعب الله المختار اضطهاده في الشتات أو عودته إلى أرض الميعاد: ففي “فتاة مرحة” تجاهر باربرا ستريسند وتفاخر بيهوديتها. وفي “هيللو دوللي” تعود في دور خاطبة يهوديه “دوللي ليفي” وهو دور يرمز به في نظر الناقد الفرنسي جان جيلي إلى انتصار القيم اليهودية بما تتسم به من يقظة وانطلاق وسحر وخيال وسعي إلى النجاح المادي. وخير مثال على هذا الانتصار هو عودة دوللي ليفي- وبعد غياب طويل- إلى الحدائق التي تنتمي إليها. حدائق الهارمونيا حيث تُقابل بالترحاب من الملأ الذي يُحييها مُنشداً كلمات تتغنى بتألقها وبقوتها.
وفي “كاباريه” الكل فاسد وشاذ عدا فتاة ماريسا بيرسون من أسرة ثرية يهودية تحب فتى غير يهودي. إلا أنها تُضحي بهذا الحب من أجل دينها. وتتابع الأحداث فيعلن المُحب أنه كان يهودياً من قبل أن يكون مسيحياً ويعود إلى الدين الحق ويتزوج من حبيبته في المعبد اليهودي المحاصر بقطعان النازية التي تتهدد اليهود في برلين قبيل استيلاء هتلر على السلطة.
وفي عازف على السطح يعيش تيفي مع زوجته وبناته الخمسة في إحدى قرى روسيا القيصرية حياة تُرفرف عليها السعادة لا يُعكر من صفوها سوى فقر يحتمل وحب لا يحتمل من إحدى بناته لشاب غير يهودي وتمر الأيام هادئة والنفوس مطمئنة إلى أن تهب عاصفة قيصرية مميتة فتودي سمومها بالأمل، أي أمل في أن تعيش أسرة تيفي كما كانت تعيش من قبل. ويبزغ فجر أمل جديد من خلال عودة الوعي بالخطر الذي يتهدد الأسرة في الشتات ويبدأ الخروج.
وغني عن البيان أنه ما كان يمكن للصهيونية في السينما أن تكتفي بالأفلام الاستعراضية أداة لبث دعايتها وبخاصة عقب عدوان حزيران. إنها من بعده وهي تستعمل جميع أشكال التعبير بالصورة المتحركة وعلى نطاق واسع يمتد من الفيلم الوثائقي إلى الفيلم الروائي سواء أكان قصيراً أو طويلاً.
والأمثلة على ذلك كثيرة في مجال الفيلم الوثائقي لعل أهمها ثلاثة أولها لفريدريك روسيف مخرج فيلمي ثورة أكتوبر والموت في مدريد. وهو في فيلمه الصهيوني يصور العرب دعاة حرب مستسلمين واليهود دعاة سلام محاربين من خلال عرض زائف لتاريخ الصراع بين الشعوب العربية والصهيونية وقد أُطلق عليه اسم حائط أورشليم (1969) وضمنه مغالطات عديدة من بينها لقطة لموشى ديان أمام حائط المبكى خاشعاً داعياً الله أن يجيب الدعاء ويعيد السلام إلى أرض السلام.
والفيلم الثاني لهنري شابييه وهو ناقد فرنسي اختار القدس لفيلمه الذي أسماه تحيا أورشليم (1972) كما اختار الفرنسي الصهيوني جوزيف كبسيل ليقدم له. والفيلم ذو نزعة صوفية جوهرها أن القدس عادت إلى أصحابها بعد طول اغتصاب وأن حلم الإنسان في السلام قد تحقق بتلك العودة. والفيلم الثالث لصاحبه مارسيل أوفلس ابن المخرج الألماني الشهير ماكس أوفلس الذي يؤرخ لمدينة فرنسية هي كلير مونت فيران أثناء الاحتلال من خلال الأسى والشفقة 1969 وهو فيلم يطول عرضه لأكثر من أربع ساعات ويحكي فيه ضمن ما يحكي عن محنة اليهود أيام الحكم النازي وكيف أن أهل فرنسا كانوا أكثر جنوحاً إلى كراهية اليهود من سلطات الاحتلال وأشد جموحاً في تنفيذ عملية اصطيادهم لإرسالهم إلى معسكرات الاعتقال حيث الحل النهائي القائم على تطهير القارة من يهودها.
أما بالنسبة للأفلام الروائية فقد يكون ما فيها من صهيونية واضحاً لكل من له عينان كما هو الحال في مذكرات آن فرانك للمخرج الأمريكي جورج ستيفنز وحدائق فينزي كونتيني (1971) للمخرج الإيطالي فيتوريو دي سيكا وبيك وبيك وكولجرام (1972) للمخرجه الفرنسية راشيل فينبرج وهي أفلام تعرض لمحنة اليهود نساء ورجالاً على يد هتلر، تلك المحنة التي تنتهي في فيلمي جورج ستيفنز وفيتوريو دي سيكا بأن فرانك وميكول فينزيي كونتيني إلى أفران كان يُباد فيها اليهود.
وقد لا يكون ما في الأفلام الروائية من صهيونية بمثل هذا الغلو في الوضوح. ولنضرب المثل على ذلك بثلاثة أفلام أولها للمخرج الفرنسي هنري فيرنيي والثاني للمخرج السويدي انجمار برجمان والأخير للمخرج الاسرائيلي باروخ ديهار.
في الفيلم الأول واسمه اللصوص يتنازع البطولة جان بول بلموندو وعمر الشريف الأول في دور لص شريف خفيف الظل حاضر البديهة والثاني في دور ضابط غير شريف خائن لواجبه كضابط واسمه زكريا. وينجح اللص الشريف في سرقة مجوهرات تصل قيمتها إلى المليون جنيه. ولكن الضابط غير الشريف بالمرصاد للص الشريف لأنه يريد كل الحلى المسروقة لنفسه ويحاول اللص الشريف اقناعه باقتسام المسروقات مناصفة بينهما غير أن محاولاته تضيع سدى لأن رغبة شرهة جامحة تدفع الضابط زكريا إلى رفض الاقتسام. وفي ختام الفيلم يغلب اللص الشريف الضابط الغير شريف وجنده المدججين بأرقى الأسلحة وأحدثها ويهلك عمر الشريف الرافض للاقتسام غرقاً في أمواج بحر من القمح.
وواضح من هذا السياق ومن اختيار عمر الشريف ليمثل دور ضابط غير شريف اسمه زكريا أن الفيلم زاخر برموز منها ما هو مستوحى من داود يغلب جوليات بالمقلاع، ومنها ما هو مستوحى من قصة ابتلاع اليم لفرعون وجنوده، وأن هذه الرموز تستهدف اتهام الرافضين للاقتسام وتبرير احتلال عموم فلسطين.
وفي الفيلم الثاني اللمسة- وهو أول فيلم للمخرج السويدي يموله الرأسمال الأمريكي- البطل اسرائيلي الجنسية هاجر مع عائلته من ألمانيا النازية إلى نيويورك ثم منها إلى اسرائيل. وهو في الفيلم ببعثة حفريات أثرية إلى السويد حيث يكشف التنقيب عن تمثال خشبي للعذراء وابنها له من العمر خمسمائة عام. وفي البداية نرى هذا التمثال جميلاً لا عيب فيه. وقرب النهاية نرى في أنحائه حشرات جميلة كامنة أيقظها النور فهي تقضي عليه. وظاهر من هذا العرض الموجز أن فيلم انجمار برجمان زاخر هو الآخر بالرموز. وفي أغلب الظن أنه يرمز بدافيد- وهو اسم البطل- إلى نور الصدق. ويرمز بتمثال العذراء إلى ظلام الكذب الذي لا يستطيع أن يصمد للنور. والنور هنا آت من اسرائيل.
وفي الفيلم الأخير واسمه خد اثنين (1972) البطل مخرج اسرائيلي يقاوم مطاردات فتاة أمريكية مولعة بالسينما تريد أن تتدرب معه على أصولها ثم يرضخ في النهاية بالاستجابة إلى رغبتها أن تكون مساعدة له. وتتبعه كظله إلا أنها لا تفهم مما يفعل شيئاً. فهو يصور أمامها مشهد أطفال داخل مخبأ بمزرعة تعاونية (كيبوتز) على الحدود في فترة يسود فيها السلام. ثم إذا بها بعد تركيب الصوت على الشريط تفاجأ بسماع أصوات مدافع يتحول المشهد بفضلها إلى مشهد حرب. وهو يصور أمامها في مطار اللد رجلاً ملتحياً مهاجراً من الاتحاد السوفيتي يحمل حقيبة كبيرة يزعم أن بها رفات أبيه الذي أوصاه بنقلها إلى الأرض المقدسة.
ثم إذا بها تفاجأ- وهي في طريق المطار منتظرة عربة الأستوديو- بالمهاجر الروسي يخرج من العربة ويخلع لحيته ويتبادل النكات والتهاني على حسن تقمصه الدور. فتغضب لهذا الزيف. وعبثاً يحاول المخرج أن يردها إلى صوابها بأن يذكرها بأصول لغة السينما وما تقضيه من إعادة بناء الماضي عبثاً لأنها لا تستطيع أن تفهم.. ولا تستطيع معه صبرا.

 

العلم والرقابه والسينما

“العلم عندنا هو الرخصة عن ثقة.. أما المنع فكل واحد يُحسنه” هذه العبارة التي قالها الإمام أبو حنيفة والإسلام في أوج مجده، لا تنصرف بداهة إلى فن السينما لأنه وقت أن فاه الإمام الكبير بها كان هذا الفن في علم الغيب، مايزال بعيداً عن التصور، بعيداً عن الخيال.
وفي الحق فإن هذه العبارة المُضيئة تعكس في صدق الحال الذي كانت عليه الثقافة أيام أن كان للإسلام مجد.. فلم يكن ثمة خوف من المعرفة، ولذلك كانت الإباحة في كل شيء هي القاعدة والمنع هو الإستثناء.. الإباحة تنهض برهاناً على العلم والمنع يؤخذ دليلاً على العجز وليد الجهل.
ولو كان ارتد ميلاد فن السينما ألف عام لأمكننا أن نتصور ازدهاراً له في عالم الإسلام أسوة بالفنون الأخرى التي كانت معروفة وقتذاك والتي كانت مزدهرة بفضل الثقة في الحرية وعدم التخوف منها.
ولكن الواقع شيء وما يَفرُ إليه الخيال شيءٌ آخر، فقد جاء ميلاد السينما وعالم الإسلام قد قُفل فيه باب الاجتهاد منذ زمن بعيد.. وشعوبه عبيد بعضها مُستذل فيما تبقى من إمبراطورية الرجل المريض وبعضها مُستضعف في سجن الشعوب بأرض القياصرة والبعض الثالث مُستبد به في إمبراطورية، الشمس عنها لا تغيب.
وقد كان الشعب المصري من نصيب الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس.. ففي عام 1882 هُزم جيش عرابي ليبدأ الاحتلال البريطاني ويطول ليله فترة من عمر الزمن دامت حتى عام 1956.
وبين هذين التاريخين خرجت السينما إلى الوجود؛ ففي 28 من ديسمبر من عام 1895 كان العرض الأول لسينماتوجراف لوميير بالقهوة الكبرى بميدان كابوشين بمدينة النور باريس.
وفي يوم من العام التالي كان العرض الأول للسينماتوجراف بقهوة اسمها زافاني بعروس البحر.. الإسكندرية.
أي أن السينما جاءت إلى مصر وهي محتلة مكبلة بأغلال الاستعمار البريطاني الذي كان من أهدافه أن يحجب المعرفة عن الشعب المصري بمزيد من الرقابة على حرية الفكر بما في ذلك حرية التعبير الفني.
وفي البداية كانت السينما لا تخيف أحداً من المسئولين عن رعاية مصالح دولة الاحتلال فالأفلام كانت خرساء لا تنطق بكلمة.. وكلها مستوردة من الغرب بلا استثناء.. الفكر فيها منعدم.. وإن كان هناك فكر فهو ليس بالفكر الضار لأنه من هذا النوع الداعي إلى دوام الاستسلام لأصحاب العبيد من البيض الذين كانوا يتحكمون في مصير مصر بل قل في مصير العالم.
إن ما كان يُخيف السلطة البريطانية هو ظهور المسرح المصري واهتمام المثقفين المصريين به كأداة تعبير عمّا يجيش بصدورهم من كراهية للاحتلال ورغبة في التخلص السريع من عاره.
ومن هنا اندفاع تلك السلطة، وبشكل محموم إلى منع كل مسرحية تتناول من قريب أو من بعيد قضية الوطن وحريته السليبة. وهو اندفاع كان كثيراً ما يصل إلى حد اغلاق المسارح.
ولعل في موقف السلطة الاستعمارية من المسرح ما يُلقي بعض الضوء على تشددها رقابياً فيما بعد مع السينما والأسباب التي حدت بها إلى هذا التشدد. لذلك قد يكون من المفيد أن نعرض بإيجاز شديد لهذا الموقف من المسرح. بعد صدمة الهزيمة وضياع استقلال مصر بالاحتلال بدأت الروح تعود على مهل إلى الحركة الوطنية. وكان لابد أن يواكب هذه العودة محاولة رد اعتبار الثورة العرابية تلك الثورة التي حاول الاستعمار بالتضامن مع الخديوي أن يُحط من شأنها عن طريق تلطيخ سمعة قائدها ما وسعهما إلى ذلك سبيلا.
وقد ظهر هذا الصراع بين الحركة الوطنية وبين السلطة الاستعمارية في مجال المسرح أول ما ظهر حين أجازت حكمدارية القاهرة مسرحية عن عرابي باشا لأنها تتضمن تشهيراً به وتشويهاً لواقع الثورة العرابية وتزييفاً لحقيقتها ثم حين صادرت خلال عام 1909 مسرحية أخرى عن الزعيم المُفترى عليه لأنها ترفع من شأنه بالامتداح والتمجيد.
ثم أن كانت مذبحة دنشواي فحاول المصريون التعبير عن غضبهم بتمثيل مسرحية تدور أحداثها حول مأساة هذه المذبحة. ولكن حكمدارية القاهرة تدخلت في يولية من عام 1906 وحالت دون هذا التعبير لما فيه من تذكير بجرائم الاستعمار.
وبعد ذلك بعامين طلب البعض إلى نظارة الداخلية تمثيل رواية دنشواي فكتبت النظارة إلى الحكمدارية تستطلع رأيها وكان رد الحكمدارية بالرفض القاطع لتمثيلها.
وفي نفس العام أي عام 1908 تعرضت مسرحية بعنوان “في سبيل الاستقلال” للمصادرة بعض الوقت لاعتقاد السلطة أن فيها مساس بمحمد علي الكبير عاهل الأسرة المالكة.
وقرب نهاية العقد الأول من القرن العشرين (عام 1909) تعرضت مسرحية “شهداء الوطنية” التي سبق وأن تكرر تمثيلها دون أدنى تدخل من السلطة- للمصادرة لتغير ردود فعل جمهور المسرح تجاه ما فيها من مناداة بالحرية والمطالبة بالدستور.
وبالنظر إلى عدم احترام الفرق المسرحية لقرار السلطة بحظر عرض تلك المسرحية فقد اتجه العزم إلى التنبيه على أصحاب المسارح بضرورة الحصول على تصديق من المحافظة التابعين لها- مختوماً بختم الدولة- قبل عرض أية مسرحية.
ومع نمو الحركة الوطنية واشتداد المطالبة بالدستور ازداد غلوّ السلطة في المنع فجنحت إلى التدخل السافر في نشاط المسرح عن طريق ارسال عدد من رجال الشرطة إلى كل مسرح في ليلة التمثيل تحت إمرة مأمور القسم الذي يقع في دائرته المسرح لمنع الممثلين من تمثيل مسرحيات لم تصرح بها الحكومة أو منع من يريد إلقاء خطبة مُهيّجة يعاقب عليها القانون (ص33 من كتاب التاريخ السري للمسرح قبل ثورة 19 للدكتور رمسيس عوض).
ولم يقتصر الغلو على ذلك بل امتد إلى اغلاق المسارح لاتفه الأسباب كأن يُقال تبريراً لهذا الإجراء التعسفي إن بالمسرحية مطاعن شديدة على النظام يخشى أن تؤدي إلى تكدير صفو الأمن أو أن أحد الخطباء تحدث إلى النظارة عن الحرية وسوء حال الفلاح (ص41 و42 من الكتاب السابق).
وظل الأمر يتدهور إلى أن وصل إلى حضيض الاستبداد الرقابي بصدور لائحة التياترات (المسارح) في 12 من يولية من عام 1911. تلك اللائحة التي قننت المنع وجعلت عرض أية مسرحية مُرتهناً بالحصول على ترخيص سابق بذلك من جهة رقابية حكومية لها مطلق تقدير ما يدخل من المسرحيات في حدود النظام العام وحسن الآداب فيُمنح ترخيص بالعرض العام وما يخرج منها عن هذه الحدود فيُحجب عنه الترخيص.
وقد كان إصدار هذه اللائحة من بين الإجراءات التمهيدية التي اتخذتها سلطات الاحتلال البريطاني وهي في سبيلها للاستعداد للحرب العالمية الأولى التي كانت نذرها قد بدأت تظهر في الأفق وتوطئة لإعلان الحماية البريطانية على مصر بمجرد نشوب هذه الحرب.
وغني عن البيان أن السينما لم تكن في الحسبان وقت صدور اللائحة في التاريخ المُشار إليه.. إلا أن هذا لن يحول دون تطبيق أحكامها عليها بطريقة القياس.
فبمجرد اندلاع نيران الحرب سارعت السلطة إلى حظر عرض أفلام ألمانيا والدول المتحالفة معها مستندة في ذلك إلى أحكام تلك اللائحة التي تخولها الحق في منع عرض أي مصنف فني بحجة الأمن ومصالح الدولة العليا.
ومما يثير الدهشة استقرار هذه اللائحة واستمرار العمل بها زهاء أربعة وأربعين عاماً وذلك في حقبة تاريخية توالت فيها على العالم حروب وثورات وسقطت عروش واختفت امبراطوريات وظهرت أمم ونهضت قوميات وهي أحداث جسام أدت إلى ادخال كثير من التعديل والتغيير في البناء السياسي والقانوني لمعظم دول العالم.
ولكن اللائحة صمدت لكل هذا فقد ظلت دون أي تعديل من يوم أن عُمل بها إلى يوم أن أوقف العمل بها بصدور القانون رقم 430 لسنة 1955 لتنظيم الرقابة على الأشرطة السينمائية ولوحات الفانوس السحري والأغاني والمسرحيات والمنولوجات والاسطوانات وأشرطة التسجيل الصوتي.
وكل ما هنالك أن إدارة الدعاية والارشاد الاجتماعي بوزارة الشئون الاجتماعية اصدرت في فبراير سنة 1947 تعليمات خاصة بالرقابة على الأفلام لا تعتبر تعديلاً للائحة لأنها في حقيقة الأمر لا تعدو أن تكون مكملة لأحكامها ومقننة لما جرى عليه العمل رقابياً فيما يتعلق بالسينما خلال 36 عاماً.
ومن اللازم المفيد أن نقف هنا وقفة يسيرة لنستعرض على وجه تفصيلي هذه التعليمات ثم لنستظهر ما كان لها من أثر مباشر هدّام علي السينما المصرية كان له انعكاساته على السينما العربية من المحيط إلى الخليج.
تنقسم هذه التعليمات إلى شقين: أولهما خاص بالناحية الاجتماعية والأخلاقية ويشمل على ثلاثة وثلاثين محظوراً!
والثاني خاص بناحية الأمن والنظام العام ويشتمل على واحد وثلاثين محظور.
والمحظورات الخاصة بالناحية الاجتماعية والأخلاقية تبدأ بالدين وتنتهي بالجنس والعنف.. فليس مُباحاً أن تمثل قوة الله بأشياء حسية أو أن تظهر صور الأنبياء أو أن يُتلى القرآن الكريم على قارعة الطريق أو في مكان غير لائق أو بواسطة مُقرئ مرتد حذاءه أو أن يظهر النعش أو النساء وهن يسرن في الجنازات وراء الموتى وليس مقبولاً أن يُساء إلى سمعة مصر والبلاد الشقيقة باظهار منظر الحارات الظاهرة القذارة والعربات الكارو وعربات اليد والباعة المتجولين ومبيض النحاس وبيوت الفلاحين الفقراء ومحتوياتها إذا كانت حالتها سيئة والتسول والمتسولين.. وليس جائزاً أن تصور الحياة الاجتماعية المصرية على وجه فيه مساس بسمعة الأسرة المصرية أو التعريض بالألقاب أو الرتب أو النياشين أو الحط من قدر هيئات لها أهمية خاصة في نظام الحياة العامة كالوزراء أو البشاوات ومن في حكمهم ورجال الدين ورجال القانون والأطباء.. وليس لائقاً أن تظهر الأجسام العارية سواء بالتصوير أو بالظل أو أجزاء الجسم التي يقضي الحياء بسترها أو أن تذكر الموضوعات أو الحوادث الخاصة بالأمراض التناسلية والولادة وغيرها من الشئون الطبية التي لها صفة السرية أو أن تصور طرق الانتحار وحوادث التعذيب أو الشنق أو الجلد ومناظر العنف والقسوة البالغة.
أما المحظورات الخاصة بناحية الأمن والنظام العام فلها وجوه كثيرة منها منع التعرض لموضوعات فيها مساس بشعور المصريين أو النزلاء الأجانب أو لموضوعات ذات صبغة شيوعية أو تحتوي دعاية ضد الملكية أو نظام الحكم القائم أو العدالة الاجتماعية ومنها عدم إجازة اظهار مناظر الإخلال بالنظام الاجتماعي بالثورات أو المظاهرات أو الاضراب أو التعريض بالمبادئ التي يقوم عليها دستور البلاد أو بنظام الحياة السياسية في مصر أو نواب الأمة وشيوخها أو إظهار رجال الدولة بصفة عامة بشكل غير لائق وخاصة رجال القضاء والبوليس والجيش أو التعرض لأنظمة الجيش أو البوليس أو تناول رجاله بالنقد ومنها حظر الأحاديث والخطب السياسية المثيرة وتناول الموضوعات التي تعرض لمسائل العمال وعلاقاتهم بأصحاب الأعمال دون حيطة وحذر وإظهار تجمهر العمال أو إضرابهم أو توقفهم عن العمل وبث روح التمرد بينهم كوسيلة للمطالبة بحقوقهم؛ ومنها ألا تعرض الأفلام للجرائم التي ترتكب بدافع من اختلاف الرأي فيما يتصل بالنظام الاجتماعي أو السياسي أو للسخرية من القانون باظهار مرتكبي الجرائم بمظهر البطولة بما يُكسبهم عطف المتفرجين والحوادث وأن تمتنع عن إظهار المناظر الخاصة بتعاطي المخدرات.
وفي ضوء هذه المحظورات- وهي قليل من كثير- فلا عجب إذا ما انصرفت السينما المصرية عن تناول أي موضوع اجتماعي أو سياسي يعكس كفاح المصريين ضد الاستعمار والظلم الاجتماعي.
ولسنا بحاجة إلى أن نقول بعد هذا كله أن حظ السينما في هذا المقام لم يكن خيراً من حظ المسرح.
ولا غرابة في هذا لأن السينما أكثر الفنون جماهيرية وبالتالي فهي أكثرها تأثيراً في الوعي والقيم.. بها قد تُحشد الطاقات أو تعطل لتبعثر وتتحول إلى هشيم لا نفع فيه لوطن.
فمنذ عام 1912 حين صور بعض الأجانب لأول مرة في مصر مشاهد لبعض المعالم المصرية من أجل المصريين كالميدان في مواجهة دار الأوبرا والسياح على ظهور الجمال بجوار الأهرام وعودة خديوي مصر في شوارع الإسكندرية والجمع وهو يُغادر كنيسة سانت كاترين والمسافرين في محطة سيدي جابر وإلى عام 1952 حين بدأ المخرج الراحل أحمد بدرخان تصوير فيلمه عن حياة مصطفى كامل وهو فيلم يتناول الحركة الوطنية المصرية في بداية القرن من خلال سيرة الزعيم الشاب باستحياء شديد وبسذاجة مُخلة-
لم يحاول أحد أن يعرض لكفاح الشعب ضد الاستعمار صليبياً كان أم عثمانياً أم فرنسياً أم إنجليزياً أيام صلاح الدين الأيوبي أو السلطان الغوري أو عمر مكرم أو عرابي أو سعد زغلول. أو لكفاح الفلاحين ضد المماليك والأغوات والجباة والاقطاعيين.
وباستثناء “لاشين” وهو فيلم انتهى به الأمر إلى المصادرة وضياع نسخته السالبة لم يحاول أحد أن يعرض لسير الأبطال من أبناء الشعب المصري أو لأمجاد أقدم حضارة في التاريخ. هذا في الوقت الذي كانت فيه مصر مرتعاً للسينما الأجنبية تعرض تحت سمائها الأفلام المستوحاة من التوراة دعاية لأرض الميعاد في إسرائيل كابنة يفتاج وجوديث والوصايا العشر (الصامت) والأفلام التي تمجد الاستعمار وتبرئه من جرائمه كأربع ريشات بيضاء عن احتلال كتشنر للسودان و”جونجادن” عن فتوحات الإنجليز في الهند.. والأفلام التي تعرض لسير غزاة الاستعمار وفاتحيه ودهاة ساسته أمثال نابليون ونلسن ووليم بت وجلادستون.
وتصور على أرضها- وبإذن من الرقابة، الأفلام الأمريكية المنتجة بغرض الدعاية للاستعمار والصهيونية.. ولعل خير مثل يُضرب على ذلك هو فيلم “الوصايا العشر” في نسخته المتكلمة.. فقد جاء صاحبه المخرج “سيسيل دي ميل” إلى مصر فإذا بالجيش المصري يوضع تحت إمرته وفي خدمة رسالته التي تلخص في أن يصور من أبي رواس بالبحر الأعظم هذا الجيش في صورة فرعون وجنوده وهو يلاحق بني إسرائيل في خروجهم من مصر.. والبحر وهو ينشق بمعجزة من الله ليُفسح طريقاً لموسى وقومه ثم وهو يُغشي فرعون وجنوده من المصريين لتُكتب النجاة لشعب الله المختار.. ويكتب الهلاك غرقاً لأبناء النيل من أهل مصر.
وغني عن البيان أن المناخ الرقابي الذي من هذا القبيل لا يصلح لازدهار سينما وطنية خالصة.. ومن هنا انحدار السينما المصرية في الثلاثينات والأربعينات إلى محاكاة أكثر أفلام هوليود هبوطاً وانحطاطاً.. ومن هنا هذا البعد الفلكي بين فقر الموضوعات التي دأبت السينما المصرية على التصدي إلى معالجتها وبين الواقع المصري بكل ثرائه.
والآن ماذا بعد رحيل قوات الاحتلال. ماذا بعد انتهاء العمل بلائحة التياترات والتعليمات المُكملة لها؟ هل أتى القانون رقم 431 لسنة 1955 المُشار إليه بجديد يخدم فن السينما في مصر.. أم أن جديده قديم ليس فيه نفع لهذا الفن؟
وقبل القطع برأي في هذا القانون قد يكون من المفيد أن نقف أمام أحكامه هو الآخر وقفة يسيرة لعلها تُلقي بعض الضوء على ما يؤثر في فن السينما بمصر.
يُقرر الشارع في المادة الأولى من قانون التنظيم أن الأشرطة السينمائية تخضع للرقابة.. وفي المادة الثانية أنه لا يجوز بغير ترخيص تصوير الأشرطة السينمائية بقصد الاستغلال وعرض الأشرطة السينمائية أو لوحات الفانوس السحري أو ما يماثلها في مكان عام.. وفي المادة الخامسة أن الترخيص يسري لمدة سنة من تاريخ صدوره بالنسبة إلى التصوير ولمدة عشر سنوات إلى العرض.. وفي المادة التاسعة ينبه إلى أنه يجوز للسلطة القائمة على الرقابة أن تسحب بقرار مسبق الترخيص السابق إصداره في أي وقت إذا طرأت ظروف جديدة تستدعي ذلك.. وفي المواد من 14 إلى 18 يتكلم عن العقوبات التي توقع على كل من يُخالف أحكام القانون.. ومن بين هذه العقوبات الحبس والغرامة وغلق المكان العام ومصادرة الأدوات والأجهزة والآلات التي استعملت في ارتكاب المخالفة.
وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للقانون “أن الأغراض المقصودة من الرقابة هي المحافظة على الأمن والنظام العام وحماية الآداب العامة ومصالح الدولة العليا.. وأن ما قصده الشرع من مصالح الدولة العليا فهو ما يتعلق بمصلحتها السياسية في علاقاتها مع غيرها من الدول وأنه نظراً للتطور السريع للحوادث ولتغير الظروف التي قد يصدر فيها الترخيص بحيث يعتبر مُخالفاً للآداب العامة والنظام العام ما لم يكن كذلك من قبل فقد حددت المادة الخامسة من القانون مدة سريان الترخيص ونصت المادة التاسعة على جواز سحب الترخيص السابق إصداره في أي وقت بقرار مُسبب.”
ويتضح من ذلك أن كل الأفلام المصورة بقصد الاستغلال التجاري تخضع لرقابتين. رقابة أولية سابقة على التصوير ورقابة نهائية لاحقة عليه.. وأنه بدون الترخيص بالفيلم قبل تصويره ثم الترخيص به بعد الانتهاء من إخراجه يستحيل عرضه عرضاً عاماً. وأن جهة الإدارة هي صاحبة الولاية في ممارسة الرقابة ولها مطلق التقدير في أن تمنح الترخيص بالتصوير أو بالعرض متى تشاء. وفي أن ترفض منحه متى تشاء.. وفي أن تسحبه متى تشاء.. ولا حد لسلطتها التقديرية في هذا الخصوص سوى أن يكون قرارها مُتسماً بمراعاة حسن الآداب أو النظام العام أو مصالح الدولة العليا.
وأن أي شخص يجرؤ على مخالفة أحكام قانون الرقابة فيصور فيلماً أو يُخرجه أو يُعرضه قبل الحصول على ترخيص بذلك. هذا الشخص يدخل في عداد أعداء المجتمع فيعاقب بالحبس أو بالغرامة أو بالإثنين معاً. ويعاقب بمصادرة الأدوات التي استعملت في ارتكاب الجريمة.. كما أن المكان الذي جرى فيه العرض المخالف يعاقب هو الآخر بالغلق ويبين مما تقدم أن القانون لا يعامل السينما بوصفها فناً أو هو يعاملها بهذا الوصف ولكن في كثير من التحفظ والاحتراس.
فقد يكون عجباً أن يطلب إلى فنان أن يحصل على ترخيص بأن يمسك القلم ليكتب قصة تجول في خاطره أو بأن يمسك الفرشاة ليرسم لوحة كامنة في خياله.. ومع ذلك فهذا العجب العجاب هو الذي كان وما يزال مع الفنان إذا كان من صانعي السينما.. فهو لا يستطيع أن يُمسك بالكاميرا ليكتب لغة السينما التي يريد إلا بعد ترخيص وهو إذا ما تحدى القانون فأمسك بالكاميرا وليس معه ترخيص عاملته الدولة معاملة المجرم الخارج على القانون.
والواقع أننا بعد تلك الوقفة أمام نصوص القانون لا نحس أننا بإزاء روح جديد لا عهد لنا بمثله من قبل. فأحكامه لا تعدو أن تكون ترديداً لأحكام لائحة التياترات ولكن في ثوب جديد يساير التطور وروح العصر..
والحق أن هذه النصوص بترديدها لأحكام اللائحة إنما تحقق نفس الرسالة السابقة وهي الحيلولة بين السينما المصرية وبين أن تكون مرآة صادقة للمجتمع المصري.
ومما يزيد من خطورة تأثير أحكام هذه النصوص على مستقبل فن السينما أن أغلب القائمين على تنفيذها مازالوا متأثرين بتعليمات وزارة الشئون الاجتماعية الخاصة بالرقابة على الأفلام مهتدين بهديها.. ومن هنا جنوحهم إلى المنع.. ولعل هذا الجنوح تأثراً بتلك التعليمات هو الذي يُفسر منع عرض كثير من روائع الفن السابع مثل فيلم “الن رينيه” “الحرب انتهت” لمجرد الظن أن حاكماً ما قد يضيق ذرعاً بعرضه وفيلم “كوستا جافراس” “زد” لمجرد الوهم بأن حكاماً ما قد يُسخطهم عرضه وفيلم “ايزنشتين” “الإضراب” لأن عرضه قد يدفع مشاهديه إلى الشغب والإضراب وفيلمي “سام بكنباه” “عصابة الأشرار” و”كلاب القش” لما فيهما من مناظر عنيفة تتسم بالقسوة الدموية وفيلمي ستانلي كوبريك “دكتور حب غريب” و”البرتقالة الآلية” لما في الأول من مساس بالدولة الذرية صاحبة الأمر والنهي النووي ولما في الثاني من اغتصاب وعنف وجنس. ولعل نفس هذا الجنوح إلى المنع هو الذي يدفع بمعظم المنتجين وصانعي الفيلم إلى إيثار السلامة وإلى تجنب الوقوع في محظورات الرقابة خشية تعرضهم لمنع الفيلم أو لمنع تصديره إلى الخارج وبالتالي إلى وقوعهم في كارثة مالية مُحققة.
من هنا أزمة السينما المصرية.. وهي أزمة لن تنفرج إلا بحصول فن السينما في مصر على استقلاله من الرقابة كاملاً غير منقوص.. وهذا لن يتأتى إلا بالعلم بمخاطر الرقابة على فن السينما.. وبالعلم وحده.