هذه الأيام تعادل أياماً قبل أربعين عاماً، وجدتني فيها عائداً إلي وزارة الثقافة كي أشغل مرة أخري منصباً كنت قد انتدبت إليه من مجلس الدولة، قبل ذلك بأربعة أعوام (1962).. فوقتها، أي قبل أربعة وأربعين عاماً> اختفت من الوجود وزارة الثقافة، إعمالاً لقرار أصدره رئيس الجمهورية، لحظة غضب وانفعال، بدمجها في وزارة الإعلام، وكان من آثار ذلك القرار الذي أودي بالوزارة، إلغاء ندبي، وعودتي معافياً إلي القضاء، بعد خمسة شهور إلا قليلاً قضيتها منتدباً، ذلك المنصب الذي انتدبت له مرتان هو منصب مدير الرقابة علي المصنفات الفنية،
وأثناء مدة الندب الثاني التي طالت حتي قاربت العشرين شهراً، وقعت أحداث جسام، بعضها يشيب من هولها الولدان.
وطبيعة الحال كان أكثر هذه الأحداث هولاً وتأثيراً زلزال يوم الخامس من يونيو (حزيران)، ولن أقف عند يوم الهول والهزيمة هذا، فما أكثر ما طرح حوله من أسئلة، وما أكثر الإجابات وإنما سأقف عند يوم آخر، بدا لي في زحمة توابع الزلزال، يوماً عادياً، سيمر كغيره من الأيام، دون أن يترك أثراً.. وكم كنت مخطئاً!!.
إذ لم تمض سوي أسابيع معدودة إلا وكان قد اتضح أنه من الأيام القليلة التي سيكون لها في حياتي تاريخ، وكذلك في حياة سينما سقطت في هاوية نمطية مبكرة، فأصبحت مصابة بالتشابه والتكرار.
أعود فأقول: إنني سأقف عنده قليلاً، لأنه في صباحه التقيت بشخص جاء إلي مكتبي، دون موعد، ملتمساً بأدب جم أن أصدر علي وجه السرعة قراراً بإجازة سيناريو من تأليفه وبالترخيص له بالتصوير.
ومما هو جدير بالذكر هنا أن هذا الشخص الذي فوجئت بمجيئه لم يكن لي سابق معرفة به، حتي اسمه حاولت عبثاً أن أجد له في ذاكرتي أي أثر، وأول ما لفت نظري، عند الحديث معه هو ذوقه الرفيع وعشقه لتاريخ مصر القديم، والمؤلم أنه ما كان يمكن أن يدور في خلده أن ذوقه هذا وعشقه لتاريخنا سيكون وبالاً عليه، يتحول بأحلامه إلي كوابيس وأياً ما كان الأمر، فالتماسه الإسراع بإجازة السيناريو والتصوير لم يكن أمراً غريباً.
الأمر الذي أثار دهشتي، وأدخل كل ما يتصل بالسيناريو في باب الغرائب هو أن يكلمني فور زيارته، رئيس مجلس إدارة شركة الإنتاج السينمائي، التابعة لمؤسسة السينما، كي يطلب ما خلاصته الامتناع عن الموافقة علي السيناريو، لا لسبب سوي أن الفيلم المستوحي منه فيما لو رأي النور سيكبد الشركة خسائر فادحة، هي في غني عنها، خاصة أنها تعاني من ضائقة مالية، لن يكتب لها نجاة منها، إلا بفضل أفلام تحقق نجاحاً في الشباك.
والشيء الذي ليس فيه شك أنه بحكم موضوع السيناريو الجاد، فالفيلم لا يدخل في عداد ذلك النوع من الأفلام الناجحة وقد يكون من الخير أن يمنع من المنبع، أي وهو في مرحلة الرقابة لايزال.
وعندئذ ذكرت له أن احتمال فشل الفيلم تجارياً ليس من الموانع الرقابية التي تحول دون إجازة السيناريو، ذلك أن المنع وفقاً للقانون محدود بمخالفة المصنف الفني لا من البلاد أو النظام العام أو لحسن الآداب، وانتهي حديث الهاتف ودياً، أو هكذا ظننت مدفوعاً بحسن النية وكم كنت واهماً، فما هي إلا أيام، حتي كان قد عاد الحديث الهاتفي مرة ثانية لأسمع صوت رئيس مجلس الإدارة يكرر المطالبة بعدم الموافقة علي السيناريو، ويقيم طلبه في هذه المرة علي سبب متصل بالنظام العام، لا الشباك هو اكتشاف أن الأفكار المنطوي عليها السيناريو معادية للقومية العربية!!.
ولأنني وجدت أنه لا جدوي من التحاور معه في ذلك الاتهام الواضح الافتعال، فقد وعدته خيراً، وكان خير ما فعلته أن أسرعت بالموافقة علي سيناريو المومياء، لصاحبه شادي عبدالسلام وذلك المخرج الرائد الذي ذاع صيته في مشارق الأرض حتي اليابان، وفي مغاربها حتي نيويورك، حيث يعرض فيلمه يومياً في متحف المترو بوليتان، ومع ذلك حيل بينه وبين تحقيق حلم حياته، إخراج فيلمه »إخناتون«.
حطم ذلك صمته تحطيماً، وفارق هذه الحياة أشد ما تكون السينما حاجة إليها، فارقها في مثل هذه الأيام 8 أكتوبر قبل عشرين عاماً بالتمام.
التصنيف: صحف
قراءة في الممنوع والمشروع من الأفلام
حشود من رواد السينما ومن أحباب النجم »توم هانكس« الفائز مرتين بجائزة اوسكار افضل ممثل رئيسي، وقراء قصة دان براون »شفرة دافينشي« اعادت الروح الي دور السينما في مدن العالم الحر بتزاحمها امامها سعيا الي مشاهدة الفيلم المستمد من تلك القصة التي اقبل علي قراءتها عشرات الملايين في مشارق الأرض ومغاربها، وما أبدع هذا التزاحم الذي بفضله حقق الفيلم في الولايات المتحدة وكندا ايرادات وصلت خلال اسبوع واحد الي سبعة وسبعين مليون دولار وذلك رغم الحملة الضارية التي شنتها ضده قوي الظلام.
وبفضله حقق في انحاء الأجزاء الأخري الحرة من المعمورة ايرادات بلغت حتي الآن حوالي مائتين وأربعة وعشرين مليون دولار وهو رقم مذهل بكل المعايير لم يصل اليه من قبل سوي الجزء الثالث من »حرب النجوم«.
وبحكم تردي وضع حرية التعبير السينمائي عندنا لم تتح للفيلم فرصة عرضه عرضا عاما في ديار مصر حيث اعتادت الرقابة الانحناء بغير وعي لدعاة منع اي نوع من الافلام يأتي بجديد غير مألوف بذريعة ان عرضه علي الكافة اي أمثالنا الغلابة من عباد الله قد يشكل تهديدا للسلام الاجتماعي وتعكيرا لصفو الأمن العام.
وهناك خسارة لا شك فيها من منع هذا النوع من الافلام لأن مؤداه بحكم اللزوم نشوء فراغ فني لا تملؤه سوي افلام سينما شاخت وباخت من بين اعمالها اذكر علي سبيل المثال: »مهمة مستحيلة« الجزء الثالث من مسلسل افلام موضوعها يدور وجودا وعدما حول مغامرات عميل احدي وكالات المخابرات الأمريكية اسمه »ايتان هنت«، وأذكره رغم انه ليس أكثر الافلام الأمريكية المعروضة سوءا لا لسبب سوي ان عرضه عندنا تزامن مع منع عرض »شفرة دافنشي« أو إشاعة منع عرضه. وكما هو معروف فبداية هذا المسلسل كانت بفيلم اخرجه برايان دي بالما ـ 1996 ـ وفيه ادي دور العميل »ايتان هنت« ـ توم كروز ـ ذلك النجم الذي اكتشفه قبل ربع قرن الا قليلا »فرانسيس فورد كوبولا« صاحب ثلاثية »الأب الروحي« فأسند له دورا مهما في فيلم »الخوارج« 1983 حيث برز من بين حشد من الشباب الواعد شاركه بطولة الفيلم وذلك بفضل حضور قوامه وسامة وابتسامة مشرقة وضاءة تبعث البهجة في القلوب.
وانطلاقا من هذه البداية المبشرة لمع اسمه في سماء هوليوود حيث اصبح نجم شباك تدر افلامه ارباحا تقدر بعشرات الملايين من عزيز الدولارات.
والفيلم ويا ليته يكون الجزء الأخير من ثلاثية يختتم بها مسلسل العميل »ايتان« لا يعالج من قريب أو بعيد اية قضية تهم الناس شأنه في ذلك شأن الفيلمين الاول والثاني فهو عبارة عن مغامرات تثير السخرية تنتقل ببطلها »ايتان« من شئ سخيف الي شئ أكثر سخافة وفي الوقت نفسه من لغز غامض الي لغز أكثر غموضا ومن رمز خفي الي رمز اشد منه خفاء. والشئ المحقق ان متابعة حبكة هذه المغامرات المعقدة اشد تعقيد مضيعة للوقت. حقا ان صاحب الفيلم المخرج »ج.ج ابراهامز« لم يبخل علينا بمغامرات عمادها حركة متواصلة تنتقل بنا الي اماكن عديدة أذكر من بينها برلين ومدينة الفاتيكان وشنغهاي بناطحات سحابها حيث يقفز توم كروز بينها وكأنه طرازان ومع ذلك فكل هذا التنقل المحموم يدفعنا الي التساول عن جدواه أصلا. ولأن الفيلم لا يعدو أن يكون هراء فلم يحقق ما كان مرجوا له من ايرادات في الولايات المتحدة وكندا (47 مليون دولار في الاسبوع الاول اي اقل من ايرادات »شفرة دافنشي« بثلاثين مليون دولار!!)
ولا غرابة في هذا الفشل فهو فيلم بليد، ما ان نصل الي بيوتنا حتي يكون كل اثر له قد تبخر من ذاكرتنا!!
فجر سينما جديدة
أمر مدهش أن نتوجه الي دار سينما لمشاهدة فيلم لا نعرف عنه شيئا. لا نعرف من أخرجه، ولا من كتب القصة والسيناريو، حتي ابطاله وبطلاته لا نعرف عنهم سوي انهم من جيل ناشئ، يتحسسون طريقهم، تحمس لهم، علي غير المعتاد منتج جاد، له رصيد من افلام سعي بها الي النهوض بفن السينما في مصر. فإذا ما بدأ العرض، وجدنا أمامنا فيلما يقدم لنا المعاني التي تدور حولها أحداثه بجلاء ومنطق واضح يترتب لاحقه علي سابقه، بفضل سيناريو محكم البناء. ولدهشتنا نكتشف أن صاحب السيناريو »عمر جمال« شاب يسير نحو العشرين،
ورغم صغر سنه استطاع أن يختزن في ذاكرته صورا واقعية من حياة شبان من نفس جيله وفي الوقت المناسب استرجع تلك الصور علي شاشة ذاكرته، حيث تم اختزالها ثم صياغتها في شكل قصة سينمائية وشاركه في ذلك صديق في مثل سنه »محمود مقبل«. ومن هذه القصة استوحي السيناريو بأحداثه التي سرعان ما جري ترجمتها الي لغة السينما في فيلم تحت اسم »أوقات فراغ«،
وأغرب ما عجبت له هو ان مخرجه »محمد مصطفي« ظل يعمل مساعد مخرج لأكثر من خمسة وعشرين عاما دون أن تتاح له فرصة الانفراد بإخراج فيلم روائي طويل قبل »أوقات فراغ «.والاستغراب مرده الي وصول حرفة السينما في الفيلم الي ذروة عالية من البراعة لأن مخرجه أولا عرف كيف يحرك الممثلين والممثلات وينطقهم دون تشويح وثرثرة لا حد لها.لو سئلت ماذا قالت »منة« ـ راندا البحيري ـ أمام الكاميرا لحبيبها »حازم« ـ أحمد حاتم ـ ذلك الفتي الثري، المستهتر، الذي غدر بها في نهاية المطاف؟ وماذا قال لها؟ لما عرفت كيف اجيب ولربما ظننت انهما لم يتبادلا قط كلاما فإن التعبير بالصمت وملامح الوجه، غالبا ما ينسينا الاهتمام بالحوار. ولأنه ثانيا عرف كيف ينقل الينا من خلال التفاصيل جو الحياة التي يعيشها شباب افقده الفراغ والجنس والمخدرات الشعور بأي مسئولية وباعد بينه وبين اي شكل من اشكال الالتزام.
وعلاوة علي ما تقدم فقد أمتعنا الفيلم بلقطات في الشوارع والميادين والملاهي والأماكن المغلقة تدل علي براعة كاميرا سمير بهزان في التصوير ولا يفوتني هنا أن أشير الي براعة مها رشدي في توليف هذه اللقطات علي نحو حافظ علي ايقاع الفيلم وانسيابه دون تعثر من حين لآخر في فجوات تعكر صفو الاستمتاع.
ومن بين مزايا الفيلم الأخري انه قدم بديلا لسينما تحجرت في موضوعات مكررة لا تقول شيئا وتصلبت في وجوه قديمة اغلبها شاخ وباخ. قدم سينما أخري تعرض لهموم الشباب من خلال موضوعات فيها من نبض الحياة الشئ الكثير، ومن خلال كوكبة جديدة من الشبان، بوجوههم الصافية، الجذابة، وملامحهم القلقة وعيونهم الحادة الضاحكة.
وأكثر افراد تلك الكوكبة تألقا أحمد حاتم وعمرو عابد وكريم قاسم وأحمد حداد، وكم كان مذهلا أن نراهم علي الشاشة وهم يصورون شقاوة الاولاد المحرومين من الحنان وهم يعانون من الفراغ، ويعبرون عن جزع المراهقين حين يفاجأون بدناءات العالم فينصرفون عنه ثم ما يلبثون أن يفتشوا عن نبع جديد دون أن يستعينوا بنصح أم، أو ارشاد أب.
يبقي لي أن اقول ان الفيلم تجنب التلفيق لكسب رضاء الجمهور بتبني نهاية سعيدة لأحداثه كما تفعل معظم الافلام فهو ينتهي بابطاله الثلاثة في مدينة ملاهٍ معلقين بين الارض والسماء بإحدي المراجيح، طالبين النجدة، ولا مجيب سوي كلمات للشاعر عبدالرحمن الابنودي يشدو بها المطرب اللبناني مروان الخوري تقول من بين ما تقول: ان الدنيا دوارة وليس لها الأمان!!