عودة الروح إلى السينما الصامتة

لم يكن أمرا مفاجئا لي، ذلك الخبر القائل ان مخرجا فرنسيا ناجحا، عقد العزم علي عمل فيلم روائى طويل، صامت، لاتنطق شخوصه، طوال مدة عرضه، بكلمة واحدة، اسوة بالأفلام، أيام السينما الصامته، قبل ستة وثمانين عاما.
وان نجمه المفضل »چان دى چاردان«، الذى لعب دور البطولة فى فيلميه الأخيرين «القاهرة.. وكر الجواسيس.. (2006) و»فقد فى ريو»، وكلاهما حقق نجاحا كبيرا، هو الآخر، آثر، ان يكون له دور رئيسى فى ذلك الفيلم المغامرة، الذى يراهن مخرجه «ميشيل هازاناڤيتسيوس»، على ان السينما الصامتة، لايزال لها جمهور كبير.
كما انه لم يكن امرا مفاجئا، ان يقع الاختيار على فيلمه الصامت، بعد ان اتم اخراجه، وأصبح اسمه «الفنان، ليكون ضمن الأفلام المشاركة فى المسابقة الرسمية لمهرجان كان (2011)، حيث فاز نجمه «چان دى چاردان»، بجائزة أفضل ممثل كل ذلك، لم يكن امرا مفاجئا، بل متوقعا، منذ امد طويل.
artist فمنذ ان شاهدت «الاندفاع نحو الذهب»، وهو فيلم روائى طويل، صامت، لصاحبه «شارلى شابلن» وكان ذلك، أثناء اربعينات القرن العشرين ثم اتيحت لى بعد ذلك باربعة عقود فرصة مشاهدة جميع أفلامه الصامتة، القصير، منها والطويل فى مهرجان ڤينيسيا.
كنت دوما، على يقين، أو ما يقرب من اليقين، بان السينما الصامتة، عائدة لا محال، الى احتلال مكان يليق بها، بين الأنواع السينمائية المختلفة التى يموج بها المشهد العام.
ولكن الأمر الغريب اننى مع كل ذلك اليقين، أو ما يقرب منه، وجدتنى مفاجأ بوقوع الاختيار على فيلم «الفنان»- وهو فرنسى الهوية ليكون ضمن الأفلام التسعة المرشحة لجائزة اوسكار أفضل فيلم، وكلها، فيما عداه، افلام امريكية.
فضلا عن ترشيحه لجوائز اوسكار اخري، خرج فائزا بخمسة منها، اذكر من بينها جوائز افضل فيلم ومخرج وممثل رئيسي.
متغلبا بذلك، وهو الفيلم الذى آثر الصمت على الضوضاء المصاحبة للكلام، على روائع منافسة اخص من بينها بالذكر «شجرة الحياة» الفيلم السابق له الفوز قبل بضعة شهور، بالسعفة الذهبية لمهرجان كان، وفيلم «الحصان» لصاحبه المخرج «ستيفن سبيلبرج» ، وفيلم «هيجو» لصاحبه «مارتين سكورسيزى ومما هو جدير بالذكر هنا، ان فوز فيلم «الفنان» بأهم جوائز الاوسكار على هذا النحو يعد امرا غير مسبوق لفيلم صامت، على مدى عمر الاوسكار، الا مرة واحدة، عندما فاز فيلم «أجنحة» وهو صامت بجائزة اوسكار افضل فيلم، فى أول حفل لاوسكار (1929) فوقها كانت جميع الأفلام المتنافسة صامتة وذلك لقلة الأفلام المتكلمة وضعف مستواها الفني، مقارنة بالأفلام الصامتة التى كانت أعلى منها منزلة بكثير!!
يبقى لى ان اقول انه لم تمض سوى بضعة شهور على فوز «الفنان»، الا وكان فيلما صامتا اخر فائزا بجائزة «چويا» الأسبانية لافضل فيلم، وهى تعادل فى اهميتها جائزة سيزار الفرنسية.
فضلا عن حصده العديد من جوائز «چويا» الاخرى والفيلم اسمه «سنو وايت» وترجمتها بالعربية «بيضاء كالثلج» وصاحبه المخرج الأسبانى «بابلو بيرجير».
وقياسا على فيلم «الفنان» يعتبر خطوة الى الإمام، اذ فيه من روح السينما الصامتة، الشيء الكثير انه والحق يقال، اعجوبة بين جميع الأفلام والمثير للدهشة انه، لا هو، ولا فيلم «الفنان» اتيحت له فرصة العرض العام فى ربوع مصر، حتى يومنا هذا!!

اليوبيل الذهبي لفيلمين أصبحا من العلامات البارزة فى تاريخ السينما

وأقصد بهما «ثمانية ونصف» لصاحبه »فيديريكو فيلليني« المخرج الإيطالى ذائع الصيت، شرقاً وغرباً.
8andhalf و»الاحتقار« لصاحبه رائد الموجة الجديدة الفرنسية المخرج السويسرى »جان لوك جودار«.
وكلا الفيلمين من ذلك الفصيل النادر، من الأعمال السينمائية التى يدور موضوعها، وجوداً وعدماً، حول صانعى الأفلام، وصنوف المعاناة، التى يواجهونها، أثناء مراحل الإبداع المختلفة.
والغريب، أنه ورغم ندرة أعمال ذلك الفصيل، أخرج اثنان من عمالقة السينما فيلميهما »ثمانية ونصف« و»الاحتقار« فى نفس السنة (1963)، عارضين فى كليهما لما يحتمل داخل صاحب الفيلم من صراعات، قد تؤدى إلى العجز عن إنجاز الفيلم فى نهاية المطاف.
وفيلم »ثمانية ونصف« أقرب إلى أن يكون سيرة المخرج الذاتية فى مرحلة فارقة من مشواره السينمائى، وجد نفسه فيها، متوجاً مرتين بجائزة الأوسكار أفضل فيلم أجنبى، وفى نفس الوقت يرفل فى ذرا المجد العالية، بفضل فيلمه السابع »الحياة اللذيذة« (1959).
ومع صيرورته هو »والحياة اللذيذة« حديث الناس فى مشارق الأرض ومغاربها، وجد نفسه عاجزاً عن إبداع فكرة جديدة بها ينطلق إلى آفاق سينمائية على نحو يستطيع معه أن يحقق نجاحاً، به يتجاوز نجاحات »الحياة اللذيذة« منقطعة النظير.
خروجاً من ذلك المأزق، امتحن عزيمته على نحو لم يجد معه من سبيل سوى التعبير عن حيرته بالكتابة عنها، لا بالقلم كالمعتاد، وإنما بالكاميرا فى فيلمه الثامن الذى أسماه »ثمانية ونصف«.. فعلى امتداد الساعتين وعشرين دقيقة، هى مدة الفيلم حكى فيللينى قصة معاناته، بوصفه مخرجاً، متقمصاً شخصيته فى الفيلم، مخرج من صنع الخيال اسمه »جيدوانسلمى« ويؤدى دوره النجم »مارشيللو ماسترويانى« الذى سبق له أداء دور الصحفى الحائر فى شعاب »روما« فى رائعة فيللينى السابعة »الحياة اللذيذة«.
وبداية ففيلم »ثمانية ونصف« وقبل كل شىء يقال، فيلم عن صناعة »ثمانية ونصف«.
إنه يحكى قصة إنتاجه، مسلطاً الضوء، لا عملية تصويره، وإنما على التطور النفسى الذى بفضله تخلق الفيلم حتى أصبح فى نهاية الأمر، فيلماً حكايته منحصرة فيه لا تقول شيئاً إلا عنه، من خلال مشاهد، يختلط فيها الواقع بالخيال بالذاكرة، على نحو أوضح الكثير من جوانب شخصية مخرج يفكر فى فيلمه القادم، وكيف يكون، وفى أثناء ذلك يعانى من أزمة إبداع، يكاد ألا يجد منها مخرجاً.
والمعاناة لا تقتصر على تلك الأزمة، وما يتصل بها، إنها والحق يقال، معاناة متصلة، لا تنقطع، إلا مع انتهاء الفيلم.
معاناة مصدرها المنتج والممول، وكاتب السيناريو والممثلون، فعالم السينما قاس، لا مكان فيه للرحمة والتواد.
وفيلم »الاحتقار« يختلف بعض الشىء عن فيلم »فيللينى« ففيه لا يحكى »جودار« سيرته، مثلما فعل صاحب »ثمانية ونصف«.
ففيلمه مأخوذ عن رواية للأديب الإيطالى »البرتو موافيا« بعد أن خلّصلها »جودار« من شوائب الميلودراما الصارخة.
وأبطال الرواية، كما أعاد »جودار« حكايتها، عبارة عن كاتب سيناريو مغمور »بول« ويؤدى دوره ميشيل بيكولى، يعيش فى روما مع زوجته »كاميل«.. وتؤدى دورها »بريجيت باردو«.
ويجد »بول« فرصته فى الصعود، بفضل تكليفه بكتابة سيناريو مستوحى من »الأوديسية«.
وتتعقد الأمور بين »بول« ومنتج الفيلم ومخرجه، ويلعب دور الأول الممثل »جاك بالانس«.. أما المخرج فيلعب دوره بنفسه »فريتز لانج« المخرج العالمى الأشهر.
واللافت أن »جودار« قد أسند إلى نفسه دور مساعد المخرج »لانج«.. وتزداد الأمور تعقيداً، على نحو ينتهى بعدم إنتاج الفيلم.
يبقى لى أن أقول إن »ثمانية ونصف«، و»الاحتقار« كلاهما أعجوبة بين الأفلام!!

الجمال في البساطة

كان فيلم »الصيد« لصاحبه المخرج الدانمركي «توماس فينتربرج» أحد الأفلام المتنافسة على السعفة الذهبية فى مهرجان كان السينمائى لعام 2012
وعن ادائه للدور الرئيس فيه، فاز الممثل «مادز ميكيلسن« بجائزة ذلك المهرجان، لأفضل ممثل.
hunt هذا. ولم تتح لى فرصة مشاهدة ذلك الفيلم إلابعد أن مر نحو عام على عرضه الاول فى ذلك المهرجان، وتحديدا قبل بضعة أيام، من بدء الدورة السادسة والستين لمهرجان كان..
ومما يعرف عن فعالياته الكثيرة، انه من بينها افلام متنافسة على جوائز فى قسم اطلق عليه اسم «نظرة ما».
ولقد استرعى انتباهى ان لجنة التحكيم الخاصة بالافلام المشاركة فى قسم «نظرة ما».. اثناء الدورة الحالية، تحت رئاسة المخرج توماس فينتربرج، صاحب فيلم «الصيد».
ولم تمض سوى بضعة أيام على رئاسته تلك اللجنة الا وكانت وكالات الانباء، قد طيرت خبر فوز فيلمه «الصيد» بجائزة سيديا الاوروبية (19 مايو).
وهنا، أجدنى مسترجعا على شاشة ذاكرتى ذلك الفيلم، ومعه فيلمان اخران نافساه على السعفة الذهبية، اثناء فعاليات مهرجان كان (2012) احدهما «حب»، لصاحبه المخرج النمساوى «مايكل هانيكيه» والآخر «بعد الموقعة» لصاحبه المخرج المصرى «يسرى نصر الله» لأ قول ان كليهما قد أتيحت لى فرصة مشاهدته فى القاهرة ، اسوة بفيلم «الصيد»، إما معروضا على الشاشة الصغيرة، بفضل اسطوانة مدمجة، مثلما كان الحال، مع عرض فيلمى «حب» و «الصيد».
أو معروضا على شاشة كبيرة، فى احدى دور السينما.
على النحو الذى اتيح لى معه أمير مشاهدة فيلم «بعد الموقعة» واول ما يلفت النظر فى الافلام الثلاثة، ان احدهما «بعد الموقعة» جاء مفتقدا تماما البساطة والتوازن اللذين تميز بهما الفيلمان الآخران «حب» و «الصيد» على نحو كان لابد وان ينتهى الامر باولهما فائزاً «سعفة الذهبية» والثانى فائزا بجائزة أفضل ممثل.
ومن هنا، خروجه، اى «بعد الموقعة» من المنافسة غير فائز بأية جائزة من جوائز المهرجان، وما اكثرها، فى «كان».
فضلا عن عدم الاستحسان له من قبل جمهرة النقاد المشاركين فى فعاليات المهرجان ، وذلك لمجيئه مشوبا بعيوب جسيمة، من بينها غموض الفكرة، والغشاوة التى حجبت الواقع الذى تزعم انها تكشفه، وما صاحب كل ذلك من تحقين، زج بالمشاهد فى متاهات، اشبه ببيت جحا.
وأعود إلى فيلم «الصيد» لاقول ان مخرجه واحد من أصحاب بيان «دوجما 95» الذين به ارادوا تحرير السينما من كل ما هو دخيل عليها من عناصر، أصبحت عبئاً، ثقيلا لا قبل لها به فى مستقبل الأيام، مثل الموسيقى والديكور، والضوء غير الطبيعي، وما إلى ذلك من مؤثرات اخري.
وكان أول فيلم روائى طويل له مهتديا فى ابداعه، بما جاء فى ذلك البيان، فيلمه «الاحتفالية» الذى شارك به فى مسابقة كان الرسمية عام 1998، وخرج منها فائزا بجائزة لجنة تحكيم المهرجان.
ووقتها لم يكن له من العمر سوى ثمانية وعشرين عاما وفيلمه الاخير «الصيد» مثال يحتذى فى بساطة فكرته، وبساطه تناولها، بأسلوب عنى بالتفاصيل أشد عناية، دون ميل إلى الحذلقة، أو التهريج.