فيلم أم درس في النشل والردح والاحتيال؟

هناك أفلام ما إن نخرج من القاعة المظلمة إلى الشارع المزدحم، حتى تختفي تماماً من شاشة ذاكرتنا، فلا نجد منها شيئا.

وأغلب الظن أن “خالتي فرنسا” من ذلك النوع من الأفلام، وما أكثرها في هذه الأيام.

ويكفي لتأكيد ذلك أن صاحبيه المخرج “علي رجب” وكاتب السيناريو “بلال فضل” هما صاحبا “صايع بحر”، ذلك الفيلم السابقة، الخادش للحياء، والبعيد كل البعد عن واقع حياتنا وتقاليدنا.

ففيلمهما الثاني معاً “خالتي فرنسا” لا يقل عن “صايع بحر” سوءاً.

باسم المعذبين في الأرض

فجيمع أبطاله صيع، يزعم صاحب السيناريو أنهم من فئة المهمشين المعذبين في أرض مصر.

ومن بين أبطاله، تنفرد الشخصيات النسائية، خاصة “خالتي فرنسا” وابنة أختها “بطة” بالأدوار الرئيسية.

و”بطة” وخالتها فرنسا ليس لهما عمل في الفيلم سوى النشل، وعند الارتقاء، الردح أو الشرشحة حسب تعبير (منى ذكي) في حديث أدلت به من منطلق الدعاية للفيلم، إلى جريدة قومية، ذات جلال في كل العهود.

حكايات شاذة

وحكاية “بطة” مع خالتها فرنسا (عبلة كامل) يرويها صوت (منى ذكي) أثناء ظهور العناوين.

وتبدأ الحكاية كما جاءت في الرواية ببطة وهي مجرد نطفة في رحم أمها، ليلة دخلتها، وكيف عكرت صفو الليلة، خالتها فرنسا.

وسرعان ما تنتقل “بطة” بحكيها إلى أتوبيس حيث ولدتها أمها، بعد حمل لم يدم سوى سبعة شهور.

ثم إلى أوتوبيس آخر، حيث يجري ضبط أمها وأبيها متلبسين بالشروع في نشل أحد الركاب.

وأثناء وجودهما في السجن، حيث مكثا عشر سنوات، تكفلت بتربية “بطة” أو بمعنى أصح أساءت تربيتها، خالتها فرنسا. وما أن تم الإفراج عنهما حتى حملت الأم.

حادث أليم

ومرة أخرى ولدت في الأوتوبيس بنت ثانية اسمها “وزة” ولأن والدي “بطة” وأختها “وزة” قد جاءهما الموت في حادث أليم أثناء عودتهما من الأراضي المقدسة، بعد أداء فريضة الحج والقيام بعلمية نشل لحجاج البيت الحرام، توجت بنجاح كبير.

فقد تولت “الخالة فرنسا” أمر تعليم الأختين اليتيمتين النشل والردح، حتى وصل تفوقهما في المهنتين إلى درجة من الاعجاز، قل أن يكون لها مثيل.

ومع انتهاء “بطة” من حكيها لتاريخها مع عائلتها في البدايات، حاول صاحبا الفيلم “بلال” و”رجب” أن يدغدغا حواسنا بحدوتة تافهة، فيها من ألوان الردح والسباب الشيء الكثير.

خلاف عائلي

وحتى يشدا أعصابنا، ويعلقا عيوننا ببياض الشاشة وسوادها، افتعلا صراعاً بين “بطة” وخالتها فرنسا.

“فبطة” تريد لأختها الصغيرة “وزة” أن تتعلم لأن العلم نور، ويبتعد بها عن طريق الإجرام وتريد لنفسها حياة قوامها العمل وكسب العيش الشريف بعرق الجبين.

ولكن الخالة فرنسا تأبى ذلك بإصرار وعناد كعناد البغال.

أمن مصر

كما افتعل صاحبا الفيلم صراعاً آخر بين قوتين إحداهما شريرة متمثلة في عصابة تهرب المخدرات إلى بر مصر، تحت زعامة رجل أعمال، واسع الثراء (سامي العدل)، والأخرى خيرة متمثلة في ضابط شرطة همام، لا هدف له سوى انقاذ البلاد والعباد من خطر المخدرات.

ولأمر ما، وقع اختيار الضابط على “بطة” لتكون شغالة جاسوسة مدسوسة في قصر “العدل” المنيف.

فتى الأحلام

وكما في حكاية سندريلا تلتقي “بطة” بفتى الأحلام (عمر واكد) فيقع في حبها، وتبادله حباً بحب.

وطبعاً ينتهي كل هذا الهراء بانقاذ البلاد من خطر المخدرات، وبزواج “بطة” من حبيب قلبها ابن الأكابر في فرح ولا كل الأفراح.

وتودع هي وأختها “وزة” وخالتها فرنسا دنيا النشل والردح والاحتيال!!

الشر المضحك

يتهدد فن السينما في بر مصر شر مستطير، أراه متمثلاً في رقابة خائفة من أي عمل فني جديد، خاصة إذا كان جوهره التنوير، معادية لأعمال الفكر، بروح العصر انطلاقاً من الحق في حرية التعبير.

ولعل خير مثل قريب على هذا الشر الذي يتهدد فن السينما، بل قل كل الفنون، الأزمة التي عانى منها، لبضعة أعوام، الفيلم المصري “باحب السيما” لصاحبه المخرج “أسامة فوزي”.

وعانى منها، لبضعة أيام الفيلم الكندي “انحدار الامبراطورية الامريكية” أحد أفلام ستة جرى اختيارها للعرض في مهرجان الفيلم الكندي الثاني (9 – 14 يونيه).

وابدأ بـ “باحب السيما” لأقول أنه مأخوذ عن سيناريو من تأليف “هاني فوزي” أجازته الرقابة قبل أربعة أعوام.

ومما يعرف عن صاحب سيناريو هذا الفيلم أنه مقل، شأنه في ذلك شأن المخرج “أسامة” فرصيده من الأفلام المأخوذة عن سيناريوهات من تأليفه لا يزيد عن ثلاثة، أولها “أرض الأحلام” (1993)، وآخرها “فيلم هندي” (2003).

أما “أسامة”، فرصيده السابق على “باحب السيما” لم يزد على فيلمين روائيين طويلين “عفاريت الأسفلت” (1996) و”جنة الشياطين” (2000).

أفلام علامات

وأرجح الظن، أن أفلام “هاني” و”أسامة” السبعة، سواء رضينا عنها أو سخطنا عليها، ستعتبر من علامات السينما المصرية في مستقبل الأيام.

جدة وجدية

وينفرد فيلمهما “باحب السيما” بجرأة وجدية قل أن يكون لهما مثيل في أفلام هذه الأيام.

فأحداثه تدور وجوداً وعدماً حول الحياة اليومية لأسرة قبطية، تعيش في حي شبرا. الأب (محمود حميدة) رجل متزمت، يكره السينما كراهة التحريم، يعتبر كل شيء متصل بالفن، ولو من بعيد، رجساً من عمل الشيطان. والأم (ليلى علوي)، ناظرة حائرة، تعمل في المدرسة نهاراً، وتكد وتكدح على آلة الحياكة ليلاً. محرومة من اشباع رغباتها المشروعة بسبب جنوح شريك حياتها إلى اعتبار المضاجعة لغرض غير الخلفة، أي للمتعة، من المحرمات.

ليس في حياتها الكئيبة ما تهتم به، سوى ذلك الزوج القبيح، المعادي لكل ما هو جميل.

الولد الشقي

وابن صغير (يوسف عثمان)، مولع بالسينما، وابنة في عمر الزهور، مولعة بابن الجيران.

والصغير شاهد على العصر، بذكرياته عن الصراعات داخل الأسرة تروى بلسان الممثل (شريف منير).

وصراعه مع أبيه الذي يحظر عليه الذهاب إلى السينما، محور من محاور الفيلم بل يكاد يكون محوره الرئيسي. وينتهي بالصغير منتصراً، بموت الأب بالسكتة القلبية، وتسلل التليفزيون إلى البيت حيث كان ممنوعاً من منطلق العناد والاستبداد.

والغريب موقف الرقابة المتعنت من الفيلم ووضعها العراقيل أمام عرضه، ومحاولاتها المحمومة من أجل الحيلولة بينه وبين الجمهور، فإذا استحال ذلك، فيمكن تشويهه بالبتر، بحيث يصبح عبثاً لا طائل وراءه مثل معظم الأفلام .

صحراء التتار

والآن إلى مهرجان الفيلم الكندي، وتخريب الرقابة له، لأقول أنه جرى افتتاحه بفيلم “غزوات البرابرة” لصاحبه “ديني أركان”.

ولأنه له فيلمان آخران ضمن عروض المهرجان، هما حسب تواريخ عرضهما أثناء أيام المهرجان الستة “انحدار الامبراطورية الامريكية” و “يسوع مونتريال”.

توقعت أن أسمع كلمة مخرج فيلم الافتتاح كما وعدنا بذلك قبل بدء أيام المهرجان.

غير أن توقعي خاب.. لماذا؟

لأن المخرج لم يغادر وطنه كندا، أو ربما غادره إلى أرض بلد آخر، غير مصر، أرض الفراعنة.

أما لماذا آثر عدم المجئ إلى القاهرة، حيث الاحتفاء به مخرجاً متميزاً، أفلامه محل اهتمام جميع المهرجانات، واشادة جميع النقاد الواعين، فذلك لأنه كان قد وصل إلى علمه خبر معاداة رقابتنا للتنوير، وحرية التعبير.

وبحكم ذلك العداء المستحكم، لها أكثر من مأخذ على ما أبدعه من أفلام، وبخاصة “انحدار الامبراطورية الامريكية” و “يسوع مونتريال”.

قوى الظلام

ولعلها كانت تزمع الحيلولة بين جمهور مركز الابداع، وهو جمهور صغير، وبين مشاهدة رائعته “غزوات البرابرة” أكثر أعماله السينمائية نضجاً، وشجباً لقوى الظلام، وآية ذلك فوزها بأوسكار وسيزار أفضل فيلم أجنبي جرى عرضه في كل من الولايات المتحدة وفرنسا، وهو أمر نادر الحدوث في دنيا صناعة الأطياف.

ولأنه أي “أركان” فنان عاش طوال عمره (60 عاماً) في بلد يتمتع مبدعوه بقسط وافر من حرية التعبير لم يرتض لكرامته أن تهان، آثر عدم المشاركة في فعاليات مهرجان تتحكم في أفلامه رقابة ليس في وسعها التمييز بين ما يضر، وبين ما ينفع الناس!!

لعنه الحب والحرمان والحصان

كل حرب ولها اسم خاص بها، يميزها عن غيرها من الحروب، وما أكثرها في تاريخ البشرية القصير.

فعلى سبيل المثال، هناك حرب العاشر من رمضان، وقبلها بستة أعوام حرب الستة أيام.

وهناك في جنوب أفريقيا حرب البوير، وفي وسط أوروبا الحرب السبعينية بين فرنسا والمانيا.

وفي العصور الموغلة في القدم نشبت حرب طروادة. وقياساً على الحروب الأخرى تعد من أطولها، فلقد دامت عشرة أعوام. أو هكذا يُقال. ومع ذلك فهي ليست أطول الحروب المعروفة لنا فحرب البسوس، قبل ظهور الإسلام أطول عمراً.

وكذلك حربا الثلاثين عاماً، والمائة عام في أوروبا. ورغم ذلك، فهي أكثر الحروب شهرة وذكراً.

سر الشهرة

فببسالة أبطالها ومآسيهم تغنى الشعراء، وعن انتصاراتهم وهزائمهم دونت الملاحم، ورسمت اللوحات وكتبت المسرحيات ولحنت الأوبرات وصنعت الأفلام.

ومن بين أهم ما أبدعه الخيال عنها، ملحمتا الإلياذة والأوديسة لصاحبهما “هوميروس” شاعر البداوة اليونانية، “قبل خمسة وعشرين قرناً من عمر الزمان.

ولست أخفي أن البعض يشك في وجود صاحب الملحمتين يريد أن يعتقد أنه شخص خرافي اخترعه القدماء.

غير أن هذا الرأي لا يزال شاذاً، وأن الكثرة المطلقة من العلماء والمؤرخين لا تكاد تحفل به، ولكن من يدري!

حتمية الحروب

وأياً ما كان الأمر في وجوده وعدمه، فملحمتا الإلياذة والأوديسة قد جرى ترجمتها إلى لغة السينما، في أكثر من فيلم صامت ومتكلم.

والآن، يعمل مصنع الأحلام في هوليوود جاهداً، مع وسائل الإعلام الجماهيرية الأخرى، من أجل إعداد الرأي العام داخل الولايات المتحدة وخارجها، لمواجهة محن ومآسي حرب يشيب من هولها الرضع في حجور الأمهات.. حرب ضروس قد تطول حتى تبدو وكأنها بلا نهاية لجيلنا، وربما لمن سيأتي بعدنا من اجيال.

ولقد وجد أولو الأمر في هوليوود ضالتهم المنشودة في “إلياذة” ” هوميروس ” وشخصياتها الأسطورية خاصة “أخيل” بطل الأبطال.

وفي سير شخصيات أخرى، أخذت الدنيا غلابا، أذكر من بينها الإسكندر الأكبر الذي يجري حالياً انتاج فيلمين ضخمين عن مآثره وفتوحاته، أحدهما للمخرج الأمريكي “اوليفر ستون” والآخر للمخرج الاسترالي “باز لورمان”.

انتاج ضخم

ويعتبر الفيلم المأخوذ عن “الإلياذة” واسمه “طروادة” أحد أكثر أفلام العام الحالي تكلفة، فقد أنفق على انتاجه حوالي مائتي مليون من عزيز الدولارات.

وهو من إخراج “وولف جانج بيترسن” ذلك السينمائي الألماني الذي جاءته الشهرة بفضل فيلم اسمه “الغواصة”، تدور أحداثه وجوداً وعدماً داخل غواصة ألمانية، لم يكتب لأحد من بحارتها النجاة من قنابل طائرات الحلفاء، أثناء الحرب العالمية الثانية.

اختزال الحرب

وفيلمه عن طروادة اختزال من مدة حربها من عشرة أعوام إلى عشرة أيام، تدور أثناءها الحرب سجالاً بين الطرواديين بقيادة “هيكتور” ( اريك بنا) ابن برايام ملك طروادة (بيتر اوتول نجم لورنس العرب) وبين اليونانيين يتزعمهم المنشق “أخيل” (براد بيت).

إلى أن تنتهي بسقوط طروادة، بفضل خديعة الحصان.

اختفاء الأرباب

والفيلم طويل “165دقيقة”، يمر منساباً بغير ملل وعكس ملحمة “الإلياذة” جاء خالياً من الأرباب والربات.

وحتى في المشهد الوحيد، والقصير، حيث التقى أخيل بأمه “ثيتيس” (جوليا كريستي بطلة الدكتور زيفاجو)، وهي في الملحمة نصف ربة- نراه يلتقي بها بوصفها أمّاً عادية فانية، شأنها في ذلك شأن أي انسان.

سبب الحرب

كما أن الفيلم لم يرسم شخصية “هيلينة جميلة الجميلات” التي قامت الحرب بين طروادة واسبارطة بسبب اختطاف “باريس” ابن ملك طروادة لها “اورلاند بلوم” كما في الملحمة، امرأة سطحية، أنانية، لا يهمها سوى نفسها الأمارة بالسوء.

وإنما رسمها شابة في عمر الزهور بريئة، أسيرة زوج مسن (الملك فييلوس) يكبرها بكثير.

روعة الأداء

وختاماً، أحب أن أشير آخر الأمر إلى مشهد في الفيلم، لعله أجمل مشاهده، حيث نرى “برايام” ملك طروادة يتوسل (أخيل) كي يسلمه جثمان ولده، وولي عهده “هكتور” بأسلوب عادي، مستقيم، مشرق البيان، لا يلبث “أخيل” معه إلا أن يدفع إليه بالجثمان، مغسولاً، مغموراً بالعطور، محمولاً بما هو أهل له من تجلة وإجلال.

فالفيلم بفضل هذا المشهد الذي لا ينسى، لا لسبب سوى ارتفاع أداء “اوتول” إلى مستوى رفيع، خليق بممثل شكسبيري كبير، لا يشق له غبار، فيلم جدير بأن يُرى لا مرة واحدة بل مرات!!