فيلم ثقافي

هذا أول فيلم روائي طويل لصاحبه المخرج محمد أمين. والفكرة التي يدور حولها الفيلم بسيطة للغاية، طرحها المخرج دون إدعاء أنه صاحب رسالة، يهدي بها الناس كما يزعم معظم مخرجي أفلام هذه الأيام.

وباستثناء ظهور “يسرا” فجأة، وهي ممتطية عربة مرسيدس فارهة، والفيلم يقترب من نهايته، باستثناء ذلك، فجميع أبطاله ليسوا نجوماً.

وهذا التحرر من نظام النجوم، أمر يحسب، ولا شك لصالح فيلم “أمين”.

وقد يكون من المفيد هنا، أن أحكي كيف لفت نظري اسم الفيلم وملصقه.

قبل عرض الفيلم ببضعة أيام وقعت عيناي على ملصق يشع شباباً وحيوية، وينحصر المكتوب عليه في كلمتين “فيلم ثقافي”.

مفتاح التسمية

وتساءلت ما المقصود بهاتين الكلمتين؟ وحاولت جاهداً أن أعثر على تفسير لهما في رسوم الملصق، الذي يعتبر، بفضل تصميمه الرائع، واحداً من أجمل ملصقات أفلامنا، وأغلبها، كما هو معروف، يعاني من فقر في الخيال والابتكار.

فالملصق لم يكن عليه، إذا ما استثنينا اسم الفيلم، سوى ثلاثة شبان يجرون لاهثين، وكأنهم على موعد قريب، وكل واحد منهم في يده أو في حضنه شيء متصل بما عند الآخر.

فأحدهم يقبض بيده على شريط ڤديو، وزميلاه أحدهما يحتضن جهاز ڤديو، والآخر يحمل جهاز تليفزيون.

والحق، أنني لم أجد تفسيراً لاسم الفيلم، يشفي الغليل.

وبقيت على هذا الحال، إلى أن وجدته، عندما أتيحت لي فرصة مشاهدة الفيلم، مع الجمهور، في إحدى دور السينما.

فما أن اجتمع أبطال الملصق الثلاثة على الشاشة، وأخذوا يتحدثون، فيما بينهم، حول شريط ڤيديو، بطلته “سلمى حايك” نجمة الإغراء حتى توصلت إلى معرفة المقصود من الاسم الذي أطلق على الفيلم ولماذا يجري الشبان الثلاثة في الملصق، وكل واحد من فرط السعادة، يكاد يطير.

الفاكهة المحرمة

توصلت إلى أن فيلم ثقافي لا يعدو أن يكون مصطلحاً تجري به ألسنة الراغبين في مشاهدة ذلك النوع من الأفلام الجنسية المحظور رؤيته إلا في السر والخفاء.

وكما سبق القول، فالفيلم خال من النجوم ومن حسناته، ولا شك، قيام مخرجه بإسناد الأدوار الرئيسية الثلاثة إلى ممثلين ناشئين هم: “أحمد رزق” و”أحمد عيد” و”فتحي عبد الوهاب”.

وقد شاهدنا “رزق” في المسلسل التليفزيوني “الرجل الآخر”، حيث تفوق في أدائه لدور صبي معوق عقلياً.

أما “عيد” و”عبد الوهاب” فكلاهما لفت إليه الأنظار، الأول بأدائه في “شورت وفانلة وكاب” والثاني بأدائه في “صعيدي في الجامعة الأمريكية”.

امبراطورية الحواس

والثلاثة، لا نراهم، طوال الفيلم، إلا وهم يحاولون دون جدوى، مشاهدة فيلم مسجل على شريط فيديو، لا لسبب سوى أنه مليء بلقطات ساخنة، ملهبة للحواس.

ففي كل مرة تبوء محاولتهم بفشل ذريع، والفيلم من نوع الملهاة، إذ يعرض لسعيهم الذي لا يكل، ولا يمل على نحو لابد وأن يدفع المتفرج إلى الضحك، ولكنه ضحك كالبكاء.

فأنا، وأغلب الظن إنني لست استثناء، كنت مشفقاً عليهم، وهم يلهثون مع حشد من الشباب، بطول وعرض القاهرة، بحثاً عن مكان آمن يشاهدون فيه فيلماً ردئاً، مسيئاً.

خيبة الأمل

فإذا ما خاب سعيهم، عندما تبين لهم، أن الفيلم الموعود لم يبق منه سوى دقائق معدودات، وأن سلمى حايك، قد حل محلها تسجيل لرئيس مجلس الشعب، وهو يدير إحدى الجلسات!!

أسرعوا، نتيجة هذه الخيبة وما صاحبها من إحباط شديد، إلى مغادرة القاهرة نحو الريف، بحثاً عن شريط آخر في حوزة عريس ليلة زفافه، ولا يريد التفريط فيه، بأية حال من الأحوال.

أقول، كنت مشفقاً، وكيف لا أكون كذلك، وأنا أرى شباباً في مقتبل العمر، يضيع أحلى أيام حياته، بحثاً عن متع زائفة، على سبيل التعويض.

وختاماً، قد يكون مفيدا أن أذكر أن قصة الفيلم، وإن كانت كاريكاتورا لحياة الشباب، وأبطالها كلهم مرسومون هم أيضاً في صور كاريكاتورية، إلا أن مخرجه قد نجح في كشف النقاب عما في مجتمع مريض، يضع رأسه كالنعامة في الرمل، من نفاق مستتر، بغيض.

قصة المدينتين

وليست المدينتان لندن وباريس اللتين تدور فيهما أحداث قصة الأديب الانجليزي شارلز ديكنز وإنما مدينتا القاهرة وباريس، حيث تدور أحداث فيلم “المدينة” لصاحبه المخرج يسري نصر الله، ومعروف أنه لم يخرج قبله، سوى ثلاثة أفلام. هذا ولم يكتب لي أن أشاهد فيلمه الرابع والأخير إلا قبل بضعة أيام.

حاولت أن أشاهده، عند عرضه ضمن أيام المهرجان القومي للسينما قبل أشهر، غير أن محاولتي باءت بالفشل، بسبب فوضى ذلك المهرجان.

ذمّ وثناء

وعلى كُلٍ، فكنت، قبل أن أشاهده في الأسبوع الأول من عرضه عرضاً عاماً، في منتصف شهر نوفمبر والسنة الأولى من القرن الحادي والعشرين، على وشك الرحيل، كنت قد قرأت واستمعت لآراء عديدة عنه، تتراوح بين الثناء الشديد والذم الشديد، وبين الحدين في الوسط ثناء لا يخلو من ذمّ أو ذمّ لا يخلو من ثناء، ولكني لحظت أن جميع أصحاب هذه الآراء المتباينة قد تأثروا بالفيلم، وبقى في ذهنهم، وفرض عليهم أن يتحدثوا عنه فكان هذا برهاناً عندي– وإن كان غير مقصود من أصحاب الآراء، على أنه قد شذّ عن بقية أفلامنا، التي لا يرتفع معظمها لمستوى النقد.

وهذا، ولا شك، نجاح من العدل والإنصاف أن نقرّ له به مهما اختلف حكمنا عليه.

إنه جعلنا نترك مقالب الزبالة،أو مقابر الأموات، لنخالط الأحياء في العمار، أصحاء كانوا أم معلولين.

فالمطلب الأول في أي عمل فني هو دبيب الحياة فيه.

النفاق والحياد

وفيلم “نصر الله” عمل سينمائي حي، وإن كان قد افتقد الحياء في رأي البعض، وتحرر من النفاق في رأي البعض الآخر، ويرجع هذا الانقسام في الرأي إلى تناول صاحب الفيلم حب المثل، بإعتباره حقيقة مستمدة من واقع الحياة، لا سبيل لنا أن نتجاهلها، أو نغمض عليها عيوننا.

وأحداث فيلمه تبدأ في القاهرة، وبالتحديد في حي روض الفرج حيث ولد وعاش “علي” ويؤدي دوره “باسم سمرة” الوجه الجديد الفائز بجائزة أفضل ممثل في مهرجان قرطاج السينمائي الأخير.

وتنتهي في القاهرة، وفي نفس الحي، بعد عودة “علي” من باريس، حيث صادف أهوالاً، انتهت به فاقد الذاكرة، هائماً في شوراع مدينة النور، وقد فقد كل شيء، إلى أن جرى ترحيله إلى أرض الآباء.

أما لماذا غادر القاهرة إلى باريس، فذلك لأنه كان يعشق فن التمثيل وقد أتاح له عمله مع فرقة مسرحية، أن يسافر معها إلى فرنسا، بالتحدي لإرادة أبيه، الذي كان يريد له أن يعمل في إحدى دول الخليج براتب مجز يتيح لأسرته تجاوز أزمة نقل سوق الخضار من روض الفرج إلى سوق العبور.

ممثل أم ملاكم

وفي باريس لم نره ممثلاً على خشبة المسرح، وإنما رأيناه ملاكماً محترفاً، يقتسم أرباحه مناصفة مع عربي من شمال افريقيا، يستغل وجوده غير الشرعي على أرض فرنسا.

ومما يحسب للفيلم أن صاحبه لم يصور باريس، كما اعتدناها في الأفلام، مدينة ساحرة يتغنى بجمالها الشعراء.

وإنما صورها من وجهة نظر اللاجئين إليها خلسة من أفارقة وعرب، مدينة بدينة ليس في قلبها رحمة ازاء الذين يعيشون في قاعها معذبين بالفقر والإملاق والحرمان.

كما أنه مما يحسب له مشاهد تحريك الجموع في سوق روض الفرج، فقد بدا تحركها تلقائياً، وليس مفتعلاً، وكأنه على خطوط مرسومة بالطباشير. ولا يفوتني هنا أن أشير باختصار إلى مشهد “علي” مع أفراد شلته وهم يتعاطون البيرة، في أثناء الاستحمام في مياه النيل.

حقاً كان مشهداً فريداً، طابعه الألفة واغتنام المتعة، رغم التوتر العصبي الذي يعاني منه الشبان. كما  لا يفوتني أن أثني على موسيقى الفيلم التصويرية فقد كانت موسيقى مقتصرة، خفيفة الصوت، بلا ضجيج، عرفت في المشاهد الدرامية كيف تعبر عن الحزن والأسى معاً، وأخص بالذكر مرثية موت الموسيقار الأشهر “بنيامين بريتين” واختيار آخر أغنية لحنها زكريا أحمد لأم كلثوم “هو صحيح الهوى غلاب”، خلفية معبرة عن حال أم علي– وتؤدي دورها عبلة كامل- وهي تبكي فراق ضناها الوحيد.

ركود وغموض

والآن إلى ما يحسب ضد الفيلم، لأقول أن تسلسل المشاهد وتركيب بعضها فوق بعض، في نصفه الباريسي، لم يسيرا باتصال مقنع ومريح، لا يقطعه تخلخل وركود أو غموض وحشو لا طائل تحته.

هذا إلى أن إضافة مشهد النجمة يسرا ممتطية عربتها المرسيدس، وهو مشهد تكرر في “فيلم ثقافي” أول عمل سينمائي للمخرج محمد أمين، تلك الإضافة لم تخدم الفيلم، إن لم تكن زادت الأمر غموضاً.

وأخوف ما أتخوفه ألا يكون ثمة هدف من إضافة ذلك المشهد في الفيلمين، وكلاهما يقترب من النهاية سوى الإعلان!!

مسرح وسينما غير أمريكية

 كان شهراً حافلاً بجلائل الأعمال الفنية فمع بدايته، شاهدنا، نحن القاهريين، على خشبة مسرح الهناجر “القربان”، تلك المسرحية المدهشة التي أبدع إخراجها الإيطالي “ماركو بالياني”.

ومع اقتراب الشهر “أكتوبر” من نهايته شاهدنا على خشبة المسرح القومي “هنري الرابع” لصاحبها “لويجي بيراندللو” الكاتب الإيطالي الفائز بجائزة نوبل للآداب (1934).

ومما يُعرف عن تلك المسرحية أنها من أروع ما أبدعه خيال ذلك الكاتب الكبير. هذا وقد أخرجها “والتر مانفري” حسب رؤية جديدة لأبعادها.

وفيما بين هاتين الرائعتين “هنري الرابع” و”القربان”، جرى افتتاح نادي الفنون التشيكي المصري، حيث عرض الفيلم التشيكي الصامت “كروتزر سوناتا”.

كما بدأ مهرجان “بيتر باتساك” بأسبوع لأفلامه في مركز الهناجر للفنون، صاحبه معرض للوحاته بجاليري الأوبرا، وورش عمل معه في كل من كلية الفنون الجميلة ومعهد السينما.

والسؤال من هو”باتساك”؟

مواهب مجهولة

إنه، باختصار، مخرج نمساوي نجم، كما قال عنه، بحق، الناقد “دسوقي سعيد” في كتيبه “بيتر باتساك” أسطورة نمساوية عالمية في السينما والفن التشكيلي.

وبفضل رصيده الضخم من الأفلام والأعمال التليفزيونية اكتسب منزلة رفيعة في تاريخ السينما المتكلمة باللغة الألمانية. ولقد تميّز عن معظم السينمائيين، بأنه فنان تشكيلي موهوب، ذو أسلوب فريد. وفضلاً عن ذلك فهو صاحب موهبة أدبية أبت أن تتوارى، فتجلت في عدة مؤلفات.

ومن أهم أحداث الشهر الفنية الأخرى انفراد المعهد الثقافي الإيطالي بعرض خمسة أفلام من كلاسيكيات السينما الإيطالية، وكلها تدور حول حياة المعذبين في أرض إيطاليا.

وتلك الأفلام هي “ليالي كابيريا” لفيديريكو فيلليني و”الشحاذ” لبيير باولو بازوليني و”حاصد الأرواح” لبرناردو برتولوتشي و”أب وسيد” للأخوين تاڤياني و”سارق الأطفال” لچورچيو إميليو.

وعند”ليالي كابيريا” اقف قليلاً لأقول..

الحذف لماذا؟

إنه قد جرى عرضه كاملاً، غير منقوص، في المعهد، وذلك بعد أن أعيدت إلى شريطه الدقائق السبع المحذوفة، عقب أول عرض عام له، قبل أربعة وأربعين عاماً.. ومعروف أن هذه الدقائق الثمينة جرى حذفها استجابة إلى الدوائر الحاكمة في مدينة الفاتيكان.

وعلى كُلٍ، “فبليالي كابيريا” اختتم “فيلليني” المرحلة الأولى من مشواره السينمائي، حيث كان، وإلى حدٍ كبير واقعاً تحت تأثير الواقعية الجديدة، وخاصة رائدها المخرج “روبرتو روسيلليني”.

وكانت شخصيات أفلامه، في تلك المرحلة، هامشية، تعيش حياة ضائعة، محفوفة بمخاطر جسام.

و”كابيريا” واحدة من تلك الشخصيات، إنها تبيع الهوى في أطراف مدينة روما ودورها، أسنده “فيلليني” إلى زوجته “چوليتيا مازينا”.

وعن أدائها الممتاز له، جرى تتويجها بجائزة أفضل ممثلة في مهرجان كان (1957). وحولها، وهي تؤدي دور “كابيريا” يدور الفيلم وجوداً وعدماً.

فلا يخلو مشهد من وجودها بشكل أو بآخر. ولا غرابة في هذا، فجميع شخصيات الفيلم الأخرى، ليس لها وجود مستقل، غير متصل بها من قريب أو بعيد.
تفاؤل بلا حدود

فشخصيتها والحق يُقال، هي قصة الفيلم، حيث نراها وقد عبثت بها الأقدار. دائماً ضحية الخداع، ومع ذلك تنهض من عثرتها، متشبثة بالحياة، متفائلة، لا تيأس أبداً.

ومن سمات شخصيتها الأخرى سعيها الذي لا يكل ولا يمل من أجل الفوز بحياة محترمة، مثل الناس العاديين، أن يكون لديها زوج وبيت وجيران يتعاملون معها باحترام.

وتفاؤلها هذا يعود إلى أنها لم تفقد الإيمان، وليس أدل على ذلك من مشهد ابتهالها إلى السيدة العذراء في اللقطات التي جرى حذفها من الفيلم لأعوام طوال!!

لقاء تاريخي

وختاماً، لا يفوتني أن أذكر ذلك اللقاء بين مخرجتين تسجيليتين إحداهما مصرية “عطيات الأبنودي”، والأخرى سويسرية “جاكلين فيف”.
فبفضله أتيح لنا مشاهدة فيلم “الأحلام الممكنة” لعطيات، و”يوميات فلاحين في جرويير” لجاكلين.

والفيلم الأول يعرض لحياة وأحلام الفلاحة “أم سعيد” التي تعيش في قرية صغيرة بريف السويس، حيث تعمل وتدير شئون عائلتها الكبيرة لمدة ثماني عشرة ساعة في اليوم الواحد.

ومن خلال ما تقوله لنا عن حياتها نعرف الكثير عن طفولتها وزواجها وحياتها اليومية، قبل وبعد سنوات الهجرة الي محافظة السويس التي اضطرت إليها بسبب العدوان.

شاعرية الأشياء الصغيرة

أما اللفيلم السويسري فيعرض لنا حياة عائلة من الفلاحين، أو بمعنى أصح الرعاة، صانعي الجبنة “جرويير” على مدار فصول السنة الأربعة، بدءًا من شهر مايو، عندما تؤخذ الأبقار السمان للرعي في أعالي الجبال، حتى فصل الربيع في السنة التالية.

ومن خلال ما نراه ونسمعه نستمتع بشاعرية الأشياء الصغيرة، برتابة حياة الأسرة التي يدورالفيلم حول أشخاصها كباراً وصغاراً، بمدى جمال الأداء اليومي لتفاصيل تلك الحياة.

والحق، أنه من فرط شاعرية تلك الأشياء الصغيرة، مرت دقائق الفيلم السبعة والثمانون وكأنها ثوان معدودات!!