مع مالك الحزين في الكيت كات

القصص الذي أظهر بعض ما في عقلنا وقلبنا من حكمة مخزونة، ونطق ببعض ما في كياننا من قوة روحية كامنة، ذلك القصص أقل القليل.

وأغلب الظن أن “مالك الحزين” للأديب “إبراهيم أصلان” المستوحى منها فيلم “الكيت كات” لصاحبه المخرج الواعد “داود عبد السيد”، تلك القصة التي تعرض في شيء غير قليل من الروعة واقع الحياة المنتهكة، المنهوبة، المهددة بالجفاف والضياع في امبابة، وبالذات الكيت كات حيث اختفى مالك الحزين الذي كانت أسرابه تعشش بالمئات على أعلى اشجار الكافور، أمام زحف السماسرة والمقاولين وتجار المخدرات، تسانده وتدعمه البنادق والدروع والخوذات.

أغلب الظن أنها من ذلك القصص القليل النادر الذي أظهر بعضاً من حكمتنا المخزونة، وبعضاً آخر من قوتنا الروحية الكامنة بلا متنفس إلا لماما.

ولعل هذا هو السبب الذي حدا بالدكتور “علي الراعي” في مقال قيّم بمجلة المصور كتبه قبل سبعة أعوام أو أكثر من ذلك قليلاً، إلى التحمس لها حماساً شديداً، حتى أنه اعتبرها بكل المقايس رواية مهمة تدفع بالواقعية الجديدة خطوات إلى الأمام.

الصبر والصمت

والحق، أن مبدع “مالك الحزين” من فئة كتاب الحساسية الجديدة التي تؤمن بكرامة إلانسان، وتقف إلى جانب المقهورين – وهي منهم – ضد القهر، ومع المستلبين ضد إلاستلاب.

وقد يكون من اللازم هنا أن ألفت النظر إلى طول المدة التي أنفقها “اصلان” في إبداع “مالكه الحزين”، فارهاصاتها بدأت قريباً من نهاية عام “الكعكة الحجرية” بتظاهراته التي خلدها “أمل دنقل” شعراً، ثم ظلت تتخلق حتى نهاية الربع الأول من عام 1981، أي إلى ما قبل حادث المنصة الشهير بخمسة شهور.

هذا إلى أنها لم تُنْشَر زارداً للناس إلا بعد الخلاص من إبداعها بعامين، وفي يونيه لعام 1983 على وجه التحديد.

ولا غرابة في هذا المخاض الطويل العمر، فقد أثارت الحياة في “الكيت كات” من حول أصلان ويالها من حياة على امتداد عشرين عاماً، أثارت في نفسه خواطر لم يجد بداً من تسجيلها، خواطر ألحت عليه، وظلت تلح حتى اضطرته إلى أن يقف عندها، ويطيل الوقوف، ثم إلى أن يسجلها فيحسن التسجيل، وهو يكتب روايته الرائعة في صبر وأناة، ويختار لها “يوسف النجار” بطلاً شاهداً على ما يجري في بر امبابة، بل قل بر مصر، و”يوسف النجار” هذا ليس إلا ابراهيم اصلان.

محراب الفن

في هذا الطور من حياته حين شغف بالموناليزا وابتسامتها المشعة غموضاً وسحراً، وبـ”دون كيخوتة” الفارس الحزين وتابعه سانكو بانزا كما رسمهما بيكاسو، وهما ممتطيان الأول حصاناً والآخر حماراً، وشغف كذلك ببول ڨاليري الشاعر الفرنسي ذي القلب الذكي والحس الدقيق المرهف والشعور الرقيق، والذي ظل مزدرياً للشهرة، معرضاً عن المجد، يشتهر عن رغمه، ويرقى على كره منه، ولا يبلغ من ذلك ثراء ولا رخاء.

ولعل شغفه هذا بشاعر كبير على هذا القدر من الخلق العظيم، وولعه بقصيدته الشهيرة “المقبرة البحرية” التي رأها صبياً، وغناها رجلاً، واطمأن فيها إلى آخر الدهر، لعله هو الذي جنح به إلى أن يجعل من عبارة “ڨاليري” “ياناثانيل لأوصيك بالدقة، لا بالوضوح” مقدمة لمالكه الحزين.

الغصة في تأليف القصة

هذا الشاهد الحزين لا لأنه يقعد بالقرب من مياه الجداول والغدران، فإذا جفت أو غاضت استولى عليه الأسى وأطبق عليه الصمت.

وإنما لأن حزنه الدفين راجع إلى أنه يقعد يتفرج على الماء وهو يغيض ولا يفعل شيئا.

وكم مرة واتته الفرصة كي يمنع الماء أن يغيض كي يزيد منه ويجعله يغيض ويكتسح فاعرض عنها، وأكتفى بالخمر يعبه إلى جوار النهر أو في حان.

وقصة “مالك الحزين” من ذلك النوع من الأدب الذي لا تأتي لذة قراءته من فهمه واستيعابه، وإنما تاتي من محاولة الفهم سواء توّجت المحاولة بالنجاح أم لا.

وهي، حسب ما ذهب اليه الدكتور علي الراعي في مقاله القيّم عنها، رواية متعددة الطبقات تبدأ من الواقع الأرضي المقذع في أرضيته حتى تنتهي إلى أخلية تعبيرية محلقة يمتزج فيها الحاضر بالماضي، حتى يبدو وكأن الأرض تميد، ولا شيء أكيد، فضلاً عن تأثرها بحكايات ألف ليلة وليلة موضوعاً وصياغة.

ليلة حمراء

وأفضل مثل على هذا التأثر بتلك الحكايات ما حدث بين تاجر الحشيش المسمى “الهرم الكبير” وصديقه الأسطى “عبده” السائق بإحدى السفارات و”فتحية” زوجة الأخير فالثلاثة يشتركون في القعدات الطرية ببيت الأسطى تحت رعاية الزوجة اللعوب التي تشارك الرجلين في احتساء “البيرة” وأنفاس “الحشيش” وتكيد مع الضيف “الهرم الكبير” لزوجها الذي يفاجئ الأخير مختبئاً في المرحاض منتظراً غيابه عن الوعي للاختلاء بها في الحرام.

وما يجري بين الثلاثة إثر تلك المفاجأة، هكذا يرويه “مالك الحزين” في قالب حكايات ألف ليلة أيام زمان.

ومد يده وأمسك برقبته جيداً وسأله أليس من الواجب أن يكون رجلاً ويكّف عن هذه الحركات المكشوفة وصاح أنه يعرف كل شيء.

و”الهرم الكبير” خنقه هو الآخر وقال له وهما يتمايلان داخل المرحاض “إحنا بنحب بعض على سنة الله ورسوله” وخرج الإثنان ونزلا السلم وكل منهما يمسك بخناق زميله وخرجا إلى “حارة توكل” ورقدا على بعضهما، وكل واحد حاول يخرم عين الثاني!

وفي اليوم التالي فتحية أفاقت وهاجت وضربت الأسطى بخشبة الغلية حتى جرى منها إلى الحارة وألقت وراءه بثيابه وهي “تصوت” يا”دهوتي” وتقول أنه يأتي بالناس لكي “يحششوا” في البيت!

والأسطى لم هدومه على صدره ورفع رأسه ونظر إليها وهي تتدلى من النافذة ورمى عليها يمين الطلاق.

و”الهرم الكبير” تفاوض معها من بعيد وأصبح يذهب إليها في السر بعد أن تنام الحارة كلها ويترك عندها الكيس والميزان ويدفع نظير ذلك ثلاثة جنيهات كل يوم”.

الدهشة وإلالهام

والغريب من أمر “الكيت كات” الفيلم المستوحى من كل هذا، أن صاحبه لم يكن غافلاً عن قيمة “مالك الحزين” منذ أول قراءة لها واستمتاعه بها أيما استمتاع، ولا عن امكانية ترجمتها إلى لغة السينما رغم صعوبة، بل قل استحالة ذلك في مناخ ثقافي الغلبة فيه للدمامة تسود على أيدي عديمي إلاحساس.

فعلى امتداد خمسة أعوام أو أكثر قليلاً، وصاحب الفيلم يعيش مستغرقاً في شخصياتها الرئيسية، وهي كثيرة مثيرة، كل واحدة منها تصلح بمفردها أن تكون عماداً لفيلم شيق فيه متعة للنفوس.

وأخيراً هداه شيء من إلالهام إلى التركيز على الشيخ حسني الضرير، فإذا به يجعل منه شخصية محورية يدور من حولها فيلمه وجوداً وعدماً.

وإذا به يختار لأداء دور هذا الشيخ “محمود عبد العزيز” ذلك النجم الذي أسرف في ابتذال نفسه في أفلام من نوع “أبو كرتونة” فكان اختياره موفقاً إلى أقصى الحدود.

رأس العجل

ومضى في مثل هذا، فكان أن استبعد شخصيات وحكايات لها شأن كبير في القصة مثل “الأسطى قدري إلانجليزي” الذي يعيش بذكريات أمجاده وهو يعمل خادماً للانجليز في شركة ماركوني أيام الاحتلال، حافظاً لمسرحيات شكسبير، متمرساً في تمثيل دور عطيل.

ومثل حكايته مع المقطف الذي وضع فيه رأس عجل كبير اشتراها من المذبح.

وكيف سرقها منه نشال بينما هو في الترام، عائداً بها إلى زوجته “أم عبده” التي اشتاقت إلى أكلة لحم رأس من عند زغلول بتاع السمين.

وكيف أصبح بعد ذلك أسير غيرة قاتلة من هذا البائع، وفي همّ مُقيم..

ولم يكتف بذلك، بل أدخل تعديلات وتبديلات على بعض الشخصيات، كادت تجعل منها شخصيات مختلفة تماماً عن تلك المرسومة في “مالك الحزين”.

لغة ولغة

فمثلاً “يوسف” في القصة مثقف جاوز الشباب قليلاً، كل أمانيه تنحصر في أن يكون أديباً شاهداً في يوم من إلايام، ولا تربطه بالشيخ الكفيف علاقة نسب، أو حتى صداقة لا من قريب أو بعيد.

أما في الفيلم فيوسف “شريف منير” ابن لذلك الشيخ، وليس له من أمان سوى الخروج من مصر لا إلى آبار البترول في بلد عربي شرقاً أو غرباً، وأنما إلى أوروبا أرض الأحلام.

وعن هذا التعديل والتبديل قال صاحب “مالك الحزين” في حديث له “تغيير علاقة يوسف بالشيخ حسني ازعجني جداً في البداية حين قرأت السيناريو”.

لكني بعد ذلك لم أشعر أن الفيلم غريب عن عالمي فرغم تغيير العلاقات وتسلل الأحداث فإن المكان موجود والحوار هو نفسه حوار الرواية.

فلم أشعر بأي غربة لما تميزت به المعالجة من ذكاء ويجب أن ندرك أن الحفاظ على العمل الأدبي بالكامل عند تقديمه على الشاشة أمر مستحيل.

وعلى كُلٍ، فإنني لا أتذكر إلا أفلاماً مصرية تعد على أصابع اليد الواحدة ظلت أمينة للقصة المأخوذة عنها، حافظة لروحها مثلما ظل فيلم “الكيت كات”.

النيل الوليمة

فالنيل الذي يلعب دوراً مهماً في “مالك الحزين”، ومن مياهه التي تجف وتغيض جاء اسم القصة، هذا النيل نراه في الفيلم يلعب نفس الدور بفضل مشاهد آخّاذة أجادت تصويرها عين كاميرا “محسن أحمد”، ولعل أهمها مشهد الشيخ حسني وهو يحاول إيهام ضرير آخر “الشيخ جنيد” (علي حسنين) أنه ليس مثله فاقد البصر، فيجدف ويؤرجح القارب الذي لا يتحرك لأنه مقيد إلى الشاطئ.

ويوسف، وهو مستلق على سطح قارب يتهادى به على صفحة النهر، منتعش بذكريات الغرام الذي سعد به مفترشاً أرض حجرة مغلقة مع جارة “عايدة رياض” جارة مفتونه به، أرادت الحياة أن تجعل كل شيء من أمرها غريباً حقاً.

صائد العميان

لو انتقلنا إلى مشاهد أخرى غير النيل، لوجدنا أن الحكايات التي أثارت فينا الضحك، ونحن نقرأ وقائعها الغريبة العجيبة في مالك الحزين، قد نجح صاحب الفيلم في اخراجها إلى الناس صوراً زاخرة بالحياة، طابعها رشاقة وخفه دم، قلّ أن تجود بهما معاً الأفلام عندنا.

وهنا أذكر على سبيل المثال تلك المشاهد التي نرى فيها الشيخ حسني وهو يقود ضريراً آخر في أزقة الكيت كات زاعماً له أنه بصير.

أو معه داخل دار سينما حيث يحكي له أحداثاً ليس لها علاقة بما يعرض هناك على الشاشة البيضاء، أو ممتطياً دراجة بخارية وسط ميدان مزدحم بالمارة والباعة الجائلين، أو داخل دكان مهجور “العين” يتعاطى “الحشيش” مع”شلة الأنس” حتى مطلع الفجر.

فإذا ما ألقي القبض عليه مع الشلة متلبساً، وبدأ الضابط العد للمقبوض عليهم، لم يجد للشيخ أثرا، وكأنه فص ملح وذاب.

أو في مأتم عم مجاهد بائع الفول العتيد، يفشي أسرار بيوت الحي من خلال مكبر صوت مفتوح يذيع على الملأ، فاضحاً كل مستور.

حقاً أنها مشاهد لا تنسى، لأنها تملأ النفس بهجة بإثارتها الضحك من صعلكة شيخ مكفوف بغير ابتذال.

اللقاء السعيد

ومصدر ذلك، في أكبر الظن، التقاء موهبتين في “الكيت كات”، وهو أمر لا يحدث إلا نادراً.

موهبة “أصلان” صاحب “مالك الحزين” وموهبة “داود” المخرج الذي بذل من حياته أعواماً طويلة من أجل ترجمة تلك القصة إلى فيلم يرقى إلى مستواها الرفيع.

ولقد وضع صاحب “مالك الحزين” أصبعه على سر نجاح الفيلم عندما قال في نفس الحديث: “الأهمية الحقيقية للفليم تكمن في أنه يقدم الصيغة التي يبحث عنها جيل كامل من المبدعين في السينما. فهو لا يقدم أي تنازل فني، إلا أنه يستطيع الوصول إلى الناس ببساطة واقتدار. وبالنسبة لي شخصيا فإنه أقنعني تماماً أن العلاقة الصحيحة بين العمل الأدبي والعمل السينمائي لا تقاس بمدى التماثل بينهما، وأنما بمدى عمق التعبير السينمائي عن مضمون وأجواء العمل الأدبي.”

ترى كم مبدع يمكن أن يخرج من يده كتابة مثل هذا عن فيلم مأخوذ عن قصة له جرى معالجتها سينمائياً بمثل الحرية التي أجازها لنفسه صاحب الكيت كات؟!

أفلام في المنفي

من الخير للمرء أن يتلفت من حين إلى حين إلى الوراء، إذ هو يتطلع أبداً إلى الأمام.

وهكذا، وجدتني قبل أيام، أعود القهقري إلى الماضي القريب، في محاولة مني لتصحيح حساباتي مع نفسي، ومع الناس، ومع الكائنات التي كان لها في حياتي نصيب.

وإذا بي مع “شادي عبد السلام” قبل خمسة أعوام، وهو على وشك الرحيل (8/10/1986)، وليس له من العمر سوى ستة وخمسين عاماً، وليس له من الأفلام الروائية الطويلة سوى “ليلة حساب السنين” ذلك العمل السينمائي الذي اشتهر تحت اسم “المومياء”.

وإذا بصور هذا الفيلم أمامي تتتابع بتكويناتها، وألوانها وحركة الأشخاص في عملها، وتلاحم كل ذلك بالأصوات في إيقاع جعل منها صوراً لا تصف الواقع، بقدر ما تعيد خلقه وإبداعه، وبقدر ما تدعونا إلى المشار كة في إعادة الخلق والإبداع.

الصمت المهيب

وبينما أنا في أحلامي العذاب، منتش بسحر هذه الصور التي هي أقرب إلى الشعر منها إلى أي فن آخر، إذا بكلمات تظهر على شاشة الذاكرة، كلمات “محمد شفيق”، ذلك الناقد الجاد الموهوب الذي اختطفته يد المنون، وهو في مقتبل العمر لايزال، دون ضجة وضوضاء، ودون أن تقال في حقه كلمة رثاء.

وبها أراد عندما كتبها في ختام مقال نُشِر في مجلة السينما قبل عشرين عاماً أو يزيد، أن يعلن بها عن حماسه للمومياء، وكيف سوف تؤرخ السينما المصرية به باعتباره فيلماً حدثاً يسدل الستار عن مرحلة كاملة، كيما يفتح الطريق بجرأة شديدة أمام مرحلة جديدة.

طريق العذاب

غير أنه توقع له باعتباره كذلك ألا يكون طريقه مفروشاً بالورود والرياحين، وفعلاً تحقق ما توقعه له الناقد الراحل فلم يلق فيلم وصاحبه في تاريخ السينما المصرية ألواناً من الاضطهاد، مثل تلك التي عانى منها المومياء وشادي عبد السلام.

فعرضه في القاهرة ظل معطلاً بعد الانتهاء من ابداعه، زمناً طال إلى عام وبعض عام.

كما أنه لم يُعرض إلا مرة واحدة وفي دار سينما واحدة لا غير.

أما صاحبه شادي عبد السلام، فلم تتح له فرصة إخراج فيلمه الثاني الذي يحكي مأساة عمرها ثلاثة آلاف عام أو أكثر قليلاً، حياة اخناتون الفرعون الكافر الذي أقام في تل العمارنة عبادة جديدة عمادها تقديس قرص الشمس، وتكريسه إلهاً واحداً لا شريك له.

فقد ارتطم الإخراج بجدار الأفق المسدود، وظل الفيلم كذلك لا تكتب له الحياة، حتى جاء صاحبه الموت.

الخميرة الجديدة

ومع ذلك فالمومياء كان الخميرة التي راحت تفعل السحر في قلوب فئة قليلة من السينمائيين العرب، اشتاقت إلى إبداع أفلام تدرك لا عن طريق حبكة السينما التقليدية، وإنما عن طريق الصور بما تتضمنه من تفاصيل الديكور وملامح الوجوه، ووضع الكاميرا أو زاويتها وحركتها، وترتيب اللقطات عند التوليف النهائي، بحيث يجد المتفرج نفسه منقاداً إلى الصور غير العادية، التي تمر أمامه، وإلي صوت الممثلين والمؤثرات الصوتيه والموسيقى وإيقاع التوليف وانفعالات الشخصيات.

أي باختصار إبداع أفلام تخاطب الشعور بلا وسيط، تخاطب قدرته على الرؤية والسمع والاحساس.

وعلى كُلٍ، فها نحن، وبعد عشرين عاماً من خروج المومياء إلى الناس، نرى التباشير في فيلمين : “شحاتين ونبلاء” لصاحبته “أسماء البكري”، و”البحث عن سيد مرزوق” لصاحبه “داود عبد السيد”، وأول ما يلاحظ عليهما هو أنهما من ذلك النوع من الأفلام الذي لا كرامة له في وطنه، ولا حياة له إلا في المنفى تائهاً بين المهرجانات.

فهما يذكرانني، والحق يُقال، بأفلام مثل “الجياد النارية” للمخرج الأرمني “بارادجانوف” و”الطريق” للمخرج التركي المنحدر من أصل كردي “يلمز جوناي” و”القربان” للمخرج الروسي”اندرييه تاركوفسكي”.

وهي جميعاً روائع جرى اضطهادها في بلادها إما من الحكام، أو من الرأي العام.

وما كنا لنستطيع أن نراها أو حتى لنسمع بها لولا تبني المهرجانات الكبرى، لاسيما مهرجان كان.

هذا أولاً.. أما الملاحظة الثانية فتنحصر في أن الفيلمين، من ذلك النوع السينمائي الذي لا يمكن روايته، مثلهما في ذلك مثل “المومياء” و”الجياد النارية” ورائعة تاركوفسكي الأخيرة “القربان” التي أهداها إلى العالم من منفاه في السويد، قبيل وفاته بداء السرطان.

بصيص نور

والآن، إلى فيلمي “أسماء” و”داود” وبـ”شحاتين ونبلاء” أبدأ.

استوحت أسماء فيلمها من قصة “شحاتين ومعتزين” لصاحبها” البير قصيري”، ذلك الأديب الذي اختار أن يعيش بعيداً عن مصر في المهجر الفرنسي، حيث أخذ في كتابة قصصه بلغة الفرنسيس منذ أكثر من خمسة وأربعين عاماً.

والحق، أنها استطاعت أن تجعل منه مرآة سينمائية صافية صقيلة نرى فيها شخصيات القصة كما رسمها مؤلفها، أي شخصيات ساخطة على ما ترى، منكرة لما تشهد، عاكفة على نفسها، تتسلى بلا مبالاتها وراحة بالها، عما يجري حولها من خطوب وصلت إلى الذروة بقنبلتين ذريتين تلقيان غدراً على هيروشيما ونجازاكي في اليابان.

وأحداث الفيلم تجري في زمن غير زماننا، إبان الحرب العالمية الثانية، والقاهرة تعج بجنود الاحتلال، وفاروق ملك مصر والسودان.

سحر البعث

ولا أستطيع إلا أن أقول إنني في كل مرة أتيحت لي فيها مشاهدته، كان لي شيء من السحر في منظر القاهرة القديمة بأزقتها وحواريها، ومقاهيها ومآذنها فقد رأيتها كما كان عهدي بها وأنا في ريعان الشباب، تبعث أمام نظري، وقد كادت اليوم أن تختفي لتصبح في خبر كان.

ومن الأكيد أن كل هذا البعث والسحر ما كان ليحدث، لولا أن ثمة شاعراً ممسكاً بآلة التصوير “رمسيس مرزوق” وثمة ديكوراً من إبداع فنان صاحب عين بريئة لم يبتذلها سوء الأفلام “أنسي أبو سيف”.

وبداهة لولا أن ثمة مخرجة تحسن الاختيار وهنا أقف قليلاً عند اختيارها الرائع لواضع الموسيقى التصويرية “مصطفى ناجي” لأقول أنه استطاع أن يضع موسيقى مقتصرة بلا ضجيج، لعلها من الأمثلة النادرة عندنا التي تلعب فيها الموسيقى التصويرية دوراً باعتبارها عنصراً أساسياً في البناء الدرامي.

الكمال في التفاصيل

ومن الأكيد كذلك أنها كانت موفقة كل التوفيق في اختيار جميع الممثلين الكبير منهم والصغير على حدٍ سواء فـ”صلاح السعدني” في دور “جوهر” الأستاذ العبثي المتشرد، القاطع بالقتل لكل الأواصر التي تربطه بماضيه الزائف.

و”محمود الجندي” في دور “الكردي” الموظف الصغير الهارب من كآبة الأيام، المحتج بالكلام ولا شيء إلا الكلام و”أحمد آدم” في دور “يكن” الصعلوك الدميم المدمن الشاعر الساخر بكل شيء.

و”عبدالعزيز مخيون” في دور “نور” ضابط الشركة الشاذ المكلف بتحقيق جريمة قتل “أرنبة” بائعة الهوى في ماخور الست أمينة.

هؤلاء الأربعة الكبار، وبخاصة “السعدني” و”آدم” قد برزوا في تلك الأدوار ممثلين عظاماً أما أصحاب الأدوار الصغيرة، فلا أحد منهم بداءًا من ذلك المجهول “أرمة” الشحاذ المقطوع الرجلين واليدين، ومروراً ببائعات الهوى والمترددين عليهن زبائن الماخور، ثم انتهاء بالمخبرين الساهرين على حماية النظام، إلا واتقن الدور المسند إليه، بأن لم تصدر عنه حركة أو نبرة فيها غلط أو نشاز.

يبقى أن أقول أن “أسماء” صاحبة “شحاتين ونبلاء” قد عنيت بالتفاصيل أشدّ عناية، وهو أمر نادر فيما يصنع عندنا من أفلام.

التأثير الحميد

فإذا ما انتقلنا إلى الفيلم الثاني “البحث عن سيد مرزوق” فسنجد أنفسنا أمام عمل سينمائي غير مأخوذ عن أي عمل أدبي، وذلك على عكس الحال بالنسبة لفيلم “أسماء”.

ومخرجه “داود” هو صاحب “السيناريو” الذي أراه متأثراً إلى حد كبير بشخصية كل من “ك” في “المحاكمة” قصة الأديب التشيكي الشهير “فرانز كافكا” و”بول هاكيت” البطل الضائع في فيلم “بعد ساعات العمل” لصاحبه المخرج الأمريكي “مارتين سكورسيزي” وهو واحد من أهم مبدعي الأفلام في مصنع الأحلام.

وبداهة أن التأثر الذي من هذا القبيل لا يعيب فيلم “داود” بل يزيده قدراً.

العزلة الجميلة

وبطل “البحث” ليس “سيد مرزوق” الذي قام بتقمص شخصيته بتفوق منقطع النظير “على حسنين” وإنما “يوسف – كمال” (نور الشريف).

إنه رجل لم تتقدم به السن، ولكنه قد جاوز الشباب شيئاً.

وقد اعتزل الناس إثر الاشتراك في إحدى المظاهرات، التزاماً بنصيحة أحد المخبرين له بالعودة إلى بيته حيث الأمن والأمان.

وذات صباح، أفاق من نومه مذعوراً، فجرس المنبه لم يرن كالمعتاد، وموعد الذهاب إلى العمل قد حان.

وها هو ذا على سلم البيت يهرول هابطا.

وبينما هو في الطريق، يكتشف أن اليوم إجازة رسمية، فيثوب إلى نفسه حائراً أول الأمر، ثم مقرراً مواصلة الرحلة، متحرراً من سجن العزلة حيث يعيش أو بمعنى أصح لا يعيش.

عودة الماضي

وما لبث أن التقى في كازينو مطل على النيل “بسيد مرزوق” وهو رجل بدين واسع الثراء، جاءه المال والجاه عن أب كان واسع الحيلة والدهاء عندما نجح في إخفاء خمسين مليون جنيه من الذهب الخالص أيام التأميمات الكبرى.

ومعاً ذهبا إلى مقابر العائلة المالكة حيث نصبت خيمة من الملاءات استنشق “سيد مرزوق” داخلها الدخان المتصاعد من الحشيش.

ثم إلى حمام سباحة بقصر “سيد مرزوق” المنيف ومنه إلى عربة مرسيدس فارهة في صحبة جوقة من العازفين ومطربة “لوسي” عليها ألا تنقطع عن الغناء.

نهاية كلب

وسرعان ما يجد “يوسف” نفسه متهماً بالقتل بموجب شهادة زور من “سيد مرزوق”، وبالتالي مطارداً من شرطة لا ترحم.

ولا يزال كذلك مطارداً، منهكاً جريحاً، حتى نراه يقفز من نافذة ليسقط في صندوق قمامة، يحمل منه إلى عربة قمامة، إلى أن تنتهي به رحلة العذاب مرة أخرى إلى قصر “سيد مرزوق” حيث تجري أحداث تملأ النفس حيرة وشوقاً وإلحاحاً.

ولم أعرض شيئاً من تفصيلات الفيلم الذي أبدع تصويرة الفنان “طارق التلمساني”، وأحكمت توليفه “رحمة منتصر”.

وإنما عرضت خلاصتها في كثير من الايجاز، ولو  قد عرضت تفصيلها، لتنقلت من لغز غامض إلى لغز أكثر منه غموضاً، ومن رمز خفي إلى رمز أشد منه خفاء.

وإذا سألنا عما أراد إليه المخرج بفيلمه هذا الرائع، فأكبر الظن، أنه إنما أراد إلى أن يصور مصير الإنسان السلبي الضائع داخل مجتمع تزداد فيه العلاقات تعقيداً واضطراباً على مرّ الأيام.

درب الهوي بين الصحافة والثقافة

ثلاثة أحداث سينمائية، أرى من المفيد أن أقف عند كل واحد منها، ولو قليلاً.

ولعلي لست بعيداً عن الصواب إذا ما جنحت إلى القول بأن الحدث الذي يحتل مكان الصدارة بينها هو عودة “درب الهوى” إلى الشاشات الكبيرة بعد غياب اجباري عنها دام زهاء ثمانية أعوام.

وتلك المنزلة لا ترجع إلى أنه عمل سينمائي هام جدير بالحماس، فهو: والحق يقال، ليس كذلك بأي حال من الأحوال ولا إلى أن موضوعه من تلك الموضوعات الخادشة للحياء، بحكم أن وقائعه تجري من أولى اللقطات وحتى مشهد الختام في ماخور تباع فيه وتشترى الأجساد.

ولا إلى وجود حشد هائل من نجوم السينما المصرية، أذكر منه على سبيل المثال لا الحصر “مديحة كامل”، “يسرا”،”شويكار”، “أحمد زكي”، “محمود عبد العزيز”، “فاروق الفيشاوي”، والمرحوم “حسن عابدين”. الذي قام بأداء دور الباشا المولع بأن يهان، فأهين على صفحات الجرائد حتى مات.

توقيع “مصري” جوهره الاعتراض على الفيلم بمقولة أنه يسئ إلى سمعة البلاد، ودعوة الوزير إلى التدخل بمنع عرضه فوراً حماية لتلك السمعة من الضياع.

وبدلاً من الامتناع عن الاستجابة لما يدعو اليه ذلك المقال، حماية لفيلم سبق لإدارة الرقابة التابعة لوزارة الثقافة أن رخصت بعرضه عرضاً عاماً، إذا بالوزير يسرع بالاستجابة، ويأمر بمنع الفيلم، ولما تمض على المقال المجهول الصاحب إلا ساعات معدودات. وإذا بالرقابة مذعنة، مستسلمة، لا تدافع عن قرارها المتهم بعرض فيلم مسئ إلى سمعة البلاد، مفسد للعباد، وإذا بها تهرول مسرعة، وبعد ثلاثة أيام لا تزيد من نشر المقال الحامل للاتهام، فتصدر قراراً ساحباً لترخيص الفيلم والمقدمات الخاصة به، وكذلك التراخيص المكملة “سيناريو أو فيديو”.

الكذبة الكبرى

ومن عجب تذرعها، تبريراً لقيامها بإصدار القرار الأخير، بما جاء في ذلك المقال من أن الفيلم قد أحدث انطباعاً سيئاً لدى الجماهير.

ناسية أو متناسية أنه ليس ثمة أي دليل على وجود هذا الانطباع السيئ المزعوم، اللهم إلا إذا استثنينا ذلك المقال اليتيم الذي فجّر الموقف، وهو بمفرده لا يصلح بطبيعة الحال دليلاً أو مقياساً للرأي يبرر ذبح الأفلام.

وما أريد أن أذكر تفصيلاً قصة الفيلم بعد ذلك مع الصحافة، ومع لجنة التظلمات، وأخيراً مع القضاء.

وإنما يكفي أن أقول أن الصحافة باستثناء نفر قليل من نقاد السينما يعد على أصابع اليد الواحدة، هللت وكبرت فيما يشبه الاجماع لمنع “درب الهوى”.

وفاتها أنه ليس مما يدخل ضمن مهام الصحافة التهليل والتكبير لمنع الأفلام، وإنما التحذير من خطر ذلك على حرية التعبير.

القانون في أجازة

أما لجنة التظلمات التي ذهب إليها أصحاب “درب الهوى” ملتمسين إلغاء قرار الرقابة الساحب لترخيص فيلمهم (29/8/1983). فقد قررت بجلستها المنعقدة في نفس عام المنع، وبالتحديد في الثاني من أكتوبر 1983، إلغاء قرار الرقابة المتظلم منه، وجواز عرض الفيلم بعد حذف المشاهد.

ولقد كان المتوقع بعد القرار الأخير، وهو قرار إداري نهائي صادر من لجنة إدارية ذات اختصاص قضائي، وبهذه المثابة يدخل في عداد القرارات واجبة النفاذ مثله في ذلك مثل الأحكام، أن تعود الرقابة إلى الحق، فتعيد إلى “درب الهوى” حقه في العرض العام.

ولكن شيئاً من هذا لم يحدث واستمرت الرقابة في غيّها مؤثرة ألدّ الخصام.

وإزاء ذلك لم يكن أمام أصحاب الفيلم سوى طريق اللجوء إلى مجلس الدولة حيث تعثرت دعواهم المرفوعة ضد المنع داخل متاهات ودرجات سفلى وعليا حتى وصلت بعد عناء شديد إلى المحكمة الإدارية العليا التي حكمت بجلستها المنعقدة في 26من يناير 1991 بإلغاء قرار الرقابة السلبي بالامتناع عن تنفيذ قرار لجنة التظلمات الصادر في الثاني من أكتوبر1983، أي بحق “درب الهوى” في أن يعرض على الشاشات عرضاً عاماً.

وهكذا ظل الفيلم ممنوعاً زهاء ثمانية أعوام لا لسبب سوى صحافة نسيت أن رسالتها الأولى تنحصر في الدفاع عن حرية التعبير، ووزارة ثقافة غاب عن موظفيها أنها ما انشأت إلا لحماية الفنون، ورقابة آثرت راحة البال على الدفاع عن قراراتها الصادرة في حدود ما رسمه القانون. تلك هي الصورة باختصار، وهي تروع لأنها تكشف عما آل إليه حال السينما عندنا، بل قل حال كل الفنون.

عسكر وحرامية

وهنا، أرى من المناسب أن انتقل بالحديث إلى الحدثين الآخرين، وهما “اللعب مع الكبار” ،”ورغبة متوحشة”، وكلاهما يقوم على سيناريو من إبداع “وحيد حامد”.

ويلاحظ على الفيلم الأول “اللعب مع الكبار” أن الروح التي تسري فيه وتسوده، هي روح تمجيد الشرطة في خدمة الشعب.

فهو يرفع من شأن المرشدين والمتصنتين حتى يتحول بهم في النهاية إلى أبطال وشهداء.

ولا يكتفي بذلك، بل يشكك في جدوى المؤسسات الديمقراطية أو شبه الديمقراطية، وبالتحديد مجلس الشعب، وذلك بتسليط الأضواء على الحصانة الممنوحة لاعضائه بحكم الدستور، وكيف أنه يساء استعمالها حماية لمهربي الهيروين.

والغريب أن يكون كل هذا التمجيد والتشكيك بقلم وحيد حامد كاتب سيناريو “البرئ” ذلك الفيلم الذي أحدث بجرأته دوياً، لا تزال أصداؤه تتردد حتى يومنا هذا.

ولا تفسير عندي لهذا التحول الفريد إلا في غلبة فلسفة الكم على ابداعه، فضلاً عن جنوحه إلى النقل والتقليد، آية ذلك العلاقة بين المتشرد المرشد “عادل إمام” وضابط المباحث “حسين فهمي” تلك العلاقة التي تزداد توثقاً مع تصاعد الأحداث، وأراها قريبة الشبه بعلاقات من هذا النوع كثيراً ما نشاهدها في العديد من الأفلام الأمريكية التي تقوم على تمجيد المباحث الاتحادية ورجالها المضحين براحتهم وأحياناً بحياتهم من أجل أمن وأمان المواطنين.

ولعل أشهر تلك الأفلام “48ساعة” الذي أدى فيه “نك نولتون” و”إيدي ميرفي” دوري الشرطي والمتشرد الأسود، وكان سبباً في شهرة الأخير وصعوده إلى مرتبة النجوم.

وعلى كُلٍ، فلولا “شريف عرفة” صاحب “اللعب مع الكبار”، وأسلوبه في الإخراج المتميز بخفة الروح، لولاه ما نجح الفيلم، ولكان سقوطه مدوياً.

وإذا كان هذا هو حال “اللعب مع الكبار” فإن حال فيلمه الثاني “رغبة متوحشة” أكثر سوءًا وأضل سبيلاً.. لماذا؟

لعب عيال

لأنه يقوم على سيناريو أقرب إلى الهراء منه إلى أي شيء آخر، اختلط فيه الحابل بالنابل، واتسع فيه الخرق حتى أصبح لا يصلح فيه أي ترقيع سواء بإخراج سينمائي له وزن “خيري بشارة” صاحب “الطوق والأسورة”، و”كابوريا”، أو بتصوير جميل بفضل كاميرا تقف وراءها عينا الفنان القدير “سمير فرج”، أو تمثيل نجمة جماهير تنتهي بها الخطوب ذبّاحة للرجال، أو هز وسط إثارة للغزائز واستجابة لتوقعات المتفرجين، أو قفزات باليه على نغمات “كارمينا بورانا” للموسيقار كارل اورف، وذلك استرضاء لصفوة المثقفين.

باختصار “رغبة متوحشة” يعد واحداً من تلك الأفلام التي لا تصدر عن سلامة التقدير من البدء وحتي المنتهى.

فليس من سلامة التقدير في شيء أن يدور الفيلم حول ثلاث نساء. أم ناهد “نادية الجندي”، وابنة “حنان ترك”، وعمة عانس “سميحة” “سهير المرشدي” اخترن أن يقمن في مكان ناء، وسط الصحراء، حيث لا عاصم لهن سوى رحمة السماء، وحيث يتعيشن من رعي الماعز ولا شيء إلا الماعز.

أما لماذا الماعز دون سائر الأغنام فهذا مالم استطع أن أجد له، حتى كتابة هذه السطور، سبباً.

المنطق الغائب

وهل من سلامة التقدير والذوق أن يترك لنجمة الجماهير حق اختيار ما ترتدي من ثياب بلا رقيب أو حسيب فإذا بها وهي راعية ماعز أو صاحبة قطيع على أكثر تقدير، سيدة صالون عايقة، صُفّ شعرها وكأنها خارجة في التو واللحظة من أحد محلات التزين الكبري، واكتسى جسدها بما غلا ثمنه من آخر صيحات بيوت الأزياء.

وكيف يكون من سلامة التقدير بأي معيار يقع عليه الاختيار، أن نجمة الجماهير ترتدي في إحدى اللقطات ملابس الفرسان، مما يوحي بأنها ستمتطي فرساً.

فإذا بنا نراها، وهي بتلك الملابس ممتطية حماراً، وكذلك الحال بالنسبة لابنتها راقصة البالية ـ أين تعلمته وقد رحلت بها الأم، وهي لا تزال طفلة، إلى الصحراء بعيداً عن العمران، قبل خمسة عشر عاماً.

ومهما يكن من الأمر، فتلك الابنة لا تكاد تقول “لسيد غزال” “محمود حميدة” وهي معه على شاطئ بحر ظهر أمامنا فجأة دون مقدمات، أنها وأمها وعمتها أشبه بأهل كهف في انفصالهن عن العالم، حتى تخلع فساتينها، لتكشف عن لباس بحر لا تقع عليه العين إلا في أرقى البلاچات.

يبقى أن أقول أن فيلماً هذا هو حال السيناريو القائم عليه، سيناريو غير متقن، عير محكم البناء، بينه وبين المنطق واستقامة التفكير بون شاسع وأمد بعيد.

وهذا هو حال شخصياته، فلا هي رسمت بتأن وامعان، ولا هي تتحاور مثل الناس العاديين، وإنما يغلب على حواراتها الافراط في الادعاء.

فيلم بمثل هذا الحال، لا يتوقع لممثليه أن يحسنوا الأداء.

ومن هنا التقهقر في التمثيل حتى غلب عليه الالحاح والمبالغة المسرحية في بعض الأحيان، والتهريج الكاريكاتوري في أكثر الأحيان.