رحلة مع الأطياف في مدينة النور

كانت لقاءاتي بباريس على امتداد أربعة وعشرين عاماً، لقاءات غريب بغريبة. ولكني وجدتني في لقائي الأخير بها، وكأني ألتقي بأصدقاء قدامى.

وهذا الاحساس قد يكون منشؤه اكتشاف أنها ودون مدن العالم جميعاً العاصم الوحيد لفن السينما.

فأينما كنت أولي وجهي قبل المشرق المغرب، كنت أجد داراً أو أكثر تعرض الأطياف.

أجدها في كل حي من أحيائها القديم منها والحديث.

وأجدها متناثرة كالنجوم ترصع جبين الشانزليزية وهو يشق طريقه في جمال وجلال من هرم متحف اللوڨر، وحتى قوس نصر الدفاع.

حارس الذاكرة

وأجدها في معهد العالم العربي المطل على نهر السين حيث جرى تكريم “كمال الشيخ” بعرض عدد من أفلامه بدءًا من “حياة أو موت” وانتهاء بـ”قاهر الزمان”.

وفي قصر شايو حيث مكتبة هنري لانجلو حارس ذاكرتنا السينمائية، بجوار نافورات برج ايڨل.

وفي متحف بومبيدو للفن الحديث حيث تجري الآن وحتى منتصف أكتوبر القادم عروض السينما الاسترالية بدءًا من عام 1918 وحتي يومنا هذا.

وتحت الأرض في مركز الهال حيث جرت للمرة الأولى عروض لجميع أفلام تظاهرات مهرجان كان الاخير فيما عدا

القاهرة المنورة

وبطبيعة الحال، كان من بين هذه الأفلام “القاهرة منورة بأهلها” لصاحبه الروائي “يوسف شاهين” ذلك الفيلم الروائي القصير الذي أثار افتتاح “أسبوعي المخرجين” به ضجة كبرى مفتعلة لاتزال أصدائها ترن في الآذان.

بل أستطيع أن أقول أني وجدتها في ميدان ايطاليا حيث رأيت المستقبل، رأيته في أكبر سينما في العالم تشيد حالياً احتفالاً بمرور مائة عام على أول عرض سينمائي (28/12/1895) جرى بفضل الأخوين لوميير في الصالون الهندي بالمقهى الكبير المطل على شارع كابوسين الواقع في قلب مدينة النور وحتي في مدينة ــــــــ الصناعية على مشارف ضواحي باريس وجدتها لا في شكلها القديم المعتاد، وأنما في أشكال جديدة مبتكرة، لعل أهمها دار”جيود” بقبتها الفضية تعكس ما حولها من مبان وأشجار وأضواء، وبشاشتها نصف الكروية تشغل مساحة ألف متر مربع، مما يتيح للعين أن تستبعد كل ما ليس له علاقة بمشاهد الفيلم المعروضة حولها بطريقة “أومني ماكس” على شاشة هائلة تصل في الارتفاع إلى حوالي ستة أدوار.

الوليمة الكبرى

وعلى كُلٍ، فمن المؤكد.. الآن أن ما يعرض أسبوعيا على الشاشات الكبيرة إنما يصل إلى ثلاثمائة فيلم أو يزيد، منها القديم مثل الرائعة الصامتة “متروبوليس” (1926) لصاحبها المخرج الألماني “فريتز لانج” و”امرأة بلا شرف” (1931) ثان فيلم تمثله النجمة الأسطورة “مارلين ديترش” في هوليوود.

ومنها الجديد المبتكر مثل ذلك الفيلم القصير الذي لا تزيد مدته على بضع دقائق، ويجري عرضه في صالة صغيرة متحركة “سينمكس” من ستين مقعداً، أقرب في معمارها إلى سفينة فضاء منها إلى أي شيء آخر.

أما السينما الايطالية التي كانت أفلامها حديث العالم أيام “دي سيكا” و”روسيلليني” و”فيسكونتي” و”بازوليني” هذه السينما يكاد ألا يكون لها ذكر الآن.

وكذلك الحال بالنسبة لما كان يوصف بالسينما الوطنية في شرقي أوروبا. لقد أصبحت هي الأخرى في خبر كان.

ولو سار الحال على هذا المنوال، لانتهى الأمر إلى هيمنة هوليوود على السينما العالمية في كل صغيرة أو كبيرة.

ولست أدري لماذا وجف قلبي لهذا الخاطر، هل لمجرد الاحساس بأن السينما الوطنية على وشك الانقراض، ستبتلعها لُجّة السينما الأمريكية الغنية القوية بفضل آخر مبتكرات العلم الحديث في دنيا صناعة الأطياف، وهو علم ما أوتينا منه إلا أقل القليل، ومع ذلك تعمل قوى الظلام والتخلف على حجب نوره عنا، لا لشيء سوى أنها لا ترى في الفن السابع إلا ضلالاً.

ويخيل إليّ في ضوء ما هو معروض من أفلام أن السينما الامريكية متفوقة حتى على السينما الفرنسية في عقر دارها.

وهنا قد يكون من المفيد أن أشير إلى “الرقص مع الذئاب” ذلك الفيلم المتوج بسبع جوائز أوسكار، لأقول أنه أنجح الأفلام المعروضة وآية ذلك مجاوزة ما بيع من تذاكره رقم المليون بكثير.

ومن الحق لهذا الفيلم أن يوصف بالبساطة التي تثير البهجة والإعجاب.

ومن ظواهر إعجازه الفني أن مدة عرضه وهي ثلاث ساعات تمر وكأنها دقائق معدودات.

وقد لا أكون بعيداً عن الصواب إذا ما قلت أنه أول فيلم في تاريخ السينما تدمع فيه العيون لمصرع ذئب برصاصات تنطلق من بنادق جنود بيض في لهو وعبث ومجون.

والحديث عن الرقص مع الذئاب يسحبنا إلى الكلام عن الأفلام الأخرى التي كانت مرشحة لأوسكار سواء فازت بها أم لا.

والشيء المحقق بالنسبة لها أنها جميعاً وبلا استثناء لم يكن لها حظ من النجاح مثل حظ “الرقص مع الذئاب” بل أن أحدها، وهو “الأب الروحي” جزء ثالث قد باء بفشل ذريع.

الشذوذ والانحراف

وباستثناء “قمر بارد” للمخرج والممثل “باتريك بوشيتي” و”شرائح لذيذة” للمخرجين “دي جينبه” و”كارو” وهما فيلمان فرنسيان قوامهما الغلو في عرض كل ما هو شاذ، مفسد للصلات، باستثنائهما فمن العسير العثور على فيلم فرنسي جديد متميز بشيء فني يسترعي الانتباه بحيث يستدعي وقفة ولو قصيرة.

والامر بالنسبة للسينما الأمريكية على العكس من ذلك تماماً.

فما أكثر افلامها التي تتصف بالبراعة الفنية، وما أكثر أفلامها التي تحفل بالحياة الواقعية.

وكم كنت أود لو استطعت أن أقف، ولو قليلاً، عند بعض ما هو متفوق منها تفوقاً ظاهراً، كأن أعرض لقصة الأم “انجليكا هوستون” التي انتهى بها الأمر إلى قتل ابنتها طلباً للنجاة في المنحرفين، ذلك الفيلم الذي أبدعه المخرج الانجليزي ستيفن فرير صاحب “العلاقات الخطرة” رائعته التي أخرجها قبل ثلاثة أعوام.

أو لقصة عاملة بمطعم أكل سريع في سن اليأس “سوزان ساراندون” في فيلم “القصر الأبيض” لصاحبه المخرج “لويس ماندوكي” وكيف نجحت بحرارة جسدها وروحها، أن توقع في شباكها فتى يهودياً “جيمس سبيدر” من أبناء الأكابر.

شاي في الصحراء

او لقصة الأديب الأميريكي “بول باولز” “السماء الواقية” كما أخرجها في لغة السينما “برناردو برتولوتشي” صاحب الامبراطور الأخير.

وكما صورت أحداثها كاميرا “فيتوريو شتورارو” في المغرب وصحرائه الكبرى، حيث نسمع بين الحين والحين آي الذكر الحكيم، والمؤذنين، وكوكب الشرق تغني دليلي احتار، ومطرب الملوك والأمراء يخاطب الراقدين تحت التراب، ومواويل في مدح الرسول يتردد صداها عبر أصوات صمت الصحراء.

كم كنت أود أن أحكي تفصيلاً كل هذه القصص وغيرها كثير مثل مأساة مغني الروك “جيم موريسون” كما يمثلها “قال كيلمر” في فيلم “اوليفر ستون” الأخير المسمى باسم فرقة المغني المذكور”دورز” (أبواب).

أو مغامرة ضابطة المباحث “كلاريس” مع هواة القتل الملتاثين كما تمثلها “جودي فوستر” في “صمت الخراف” رائعة المخرج الصاعد “جوناثان ديم”.

أو تحولات “اليس” (ميا فارو) المتمردة على نفاق مؤسسة الزواج في فيلم “وودي آلن” الأخير.

ولكن ما باليد حيلة لضيق المكان والزمان والآن إلى فيلمين أرى التريث عندهما ولو لثوان والفيلمان هما “حمى الأدغال” و”تيلما ولويز” وكلاهما من أفلام مهرجان كان.

البيض والسود

والأول صاحبه المخرج الأسود “سبايك لي” وهو من بين الأفلام التي كانت قاب قوسين أو أدنى من النخلة الذهبية الجائزة الكبرى للمهرجان.

غير أن لجنة التحكيم، ومن بين أعضائها المخرج التونسي “فريد بوغدير” صاحب “الحلفاويين” اكتفت بمنح الفيلم جائزة أحسن ممثل مساعد “سامويل جاكسون”.

وهي جائزة استحدثت تعويضاً له عن حرمانه من الجائزة الكبرى أو أية جائزة أخرى ذات قيمة تذكر.

يعنفون بالحيوان الأعجمي لا لشيء إلا لأنهم بيض، ولأن خصومهم سود.

كما يقول أن النظام القائم على هذا الاستعلاء إذا شذ عنه شاذ، فالبيض والسود ينكرونه ويقاومونه بوحشية منقطعة النظير.

النساء

اما”تيلما ولويز” لصاحبه المخرج الانجليزي “ريدلي سكوت” فقصته غريبة كل الغرابة.

إنها تدور تحول امرأتين إحداهما متزوجة “جينا ديفيز” والأخرى عانس تعمل في مطعم “سوزان ساراندون” نجمة “القصر الابيض”. وفجأة تدفعهما ظروف خارجة عن إرادتيهما إلى التمرد على عالم الرجال.

وتتتابع الأحداث متصاعدة إلى أن تنتهي بهما إلى ما يشبه الانتحار.

والفيلم مأخوذ عن سيناريو بقلم واحدة من بنات حواء “كولي خوري”. وهي تريد أن تقول بواسطته أن المرأة تعيش حياة كلها ذل واضطهاد مثلها في ذلك مثل السود وأقليات أخرى.

وأنها إنما تكذب وتسرق وتقارف أثاماً لا تحصى، لأنها تخاف خوفاً منكراً متصلاً، يدفعها إلى ضروب من التمرد لا تكاد تخطر لأحد منا على بال.

يبقى أن أقول أن الفيلمين قد أحدثا ضجة كبيرة حيثما جرى عرضهما، لعلها تفوق الضجة التي أحدثها فيلم “شاهين” الأخير، تفوقها بكثير.

!! مواطن مصري.. واقعية عفا عليها الزمان

ترددت كثيراً.. هل أكتب عن أفلام الأعياد، وكيف أن سيناريوهات أربعة منها قد انفرد بإبداعها كاتب واحد، وكيف أن هذا ولا شك مما يدخل في باب الخوارق والمعجزات.

أم عن مهرجان الفيلم الأفريقي الذي جرت عروضه في قاعة ايوارت التذكارية بالجامعة الأمريكية. وكان من بينها “الكاميرا الأفريقية” (1983)، ذلك الفيلم الوثائقي الهام الذي أرّخ فيه المخرج التونسي “فريد بوغدير” لسينما الأفارقة السود على امتداد عشرين عاماً بدءًا من ميلادها عام 1963 بفضل المخرج السنغالي الرائد “عثمان سيمبين”.

أم عن المهرجان الأول للفيلم الأوروبي لعام 1991 الذي اشتركت فيه كل دولة من دول المجموعات الأوروبية بفيلم أو أكثر: ذلك المهرجان الذي أريد له أن يفتح آفاقاً واسعة لتعزيز العلاقات بين الجماعة الأوروبية ومصر بكل ما تملكه من تراث حضاري، وباعتبارها الشريك الثقافي المتميز لتلك الجماعة وفوق أرضها بدا الحوار العربي الأوروبي المثمر البنّاء.

أم اكتفي بمواطن مصري، اكتب عنه بوصفه آخر أفلام عميد السينما العربية، وأول عمل سينمائي مستوحى من إحدى روايات الأديب “محمد يوسف القعيد”.

وظللت هكذا متردداً حائراً، إلى أن أُتِيح لي أن أشاهد أحد أفلام مهرجان الفيلم الأوروبي”كاووس” ويعني “فوضى” في لغة أهل اليونان.

وفي الحق، فما أن انتهى استمتاعي بقصص “كاووس” الخمس وهي تحكي بأسلوب سينمائي فريد، حتى جنح بي الخيال إلى المقارنة بينه وبين “مواطن مصري”.

فكلا الفيلمين مأخوذ عن عمل أدبي، الأول عن مجموعة “قصص قصيرة لمدة سنة” للأديب الايطالي الشهير “لويجي بيرانديللو” والثاني عن “الحرب في بر مصر” للقعيد.

وكلاهما أبطاله من الفلاحين المعذبين إما في ريف جزيرة صقلية، أكثر أجزاء ايطاليا تخلفاً وفقراً أو في ريف مصر حيث السيادة على مر العصور للفقر والجهل والمرض.

وكلاهما من إبداع مخرجين كبار، فالأول صاحباه الشقيقان “باولو” و”فيتوريو تافياني” اللذان يخرجان الأفلام معاً منذ ثلاثين عاماً أو يزيد.

وقد فاز فيلمهما “أب وسيد” بالنخلة الذهبية، جائزة كان الكبرى ( 1977).

كما فاز فيلم آخر لهما “ليلة القديس لورنزو” بجائزة التحكيم في نفس المهرجان، فضلاً عن الترشيح للأوسكار( 1982).

أما الفيلم الثاني “مواطن مصري” فصاحبه “صلاح أبو سيف” وكفى.

بغير حياء

وفي البدء تشككت في عدالة المقارنة بين الفيلمين، فالامكانات التي في تناول السينما الايطالية أكبر بكثير مما هو متاح منها للسينما عندنا.

هذا إلى أن”بيرانديللو” المأخوذ عن قصصه الفيلم الايطالي، مع بعض التحريف من أدباء قمة الأوليمب المبشرين بجائزة نوبل.

في حين أن”القعيد” من الأدباء المنتمين إلى بلد من العالم الثالث، كان فن الرواية فيه إلى عهد قريب لا يزال في مرحلة التكوين.

وكان من الطبيعي أن أفكر في هذا كله.

غير أني سرعان ما قهرت الشك حين تذكرت أن “كاووس” لم يكلف صاحبيه من المال إلا القليل، فهو فيلم بلا نجوم، وأغلب مشاهده جرى تصويرها خارج الاستديوهات.

وعلى العكس من ذلك تماماً “مواطن مصري”، فهو فيلم قائم على نظام النجوم، ويعتبر من أفلام الانتاج الكبير التي ينفق عليها الكثير من عزيز الدولارات.

وحين تذكرت أيضاً أن “بيرانديللو”، ولئن جرى تتويجه بنوبل (1934)، وله في تجديد الأدب العالمي دور عظيم، فالقعيد هو الآخر واحد من الأدباء الذين تغلب على أعمالهم الروائية صيغة التجديد والكسر للجمود، انطلاقا نحو آفاق ليس من المعتاد الارتياد لها فيما تخطه عندنا الأقلام من روايات.

هذا إلى أن شهرته تفوق شهرة “بيرانديللو” وقت قيام الأخير بنشر مجموعة قصصه المأخوذ عنها “كاووس” قريباً من نهاية القرن الماضي، آية ذلك ترجمة الكثير من أعمال “القعيد”، وبالتحديد “يحدث في مصر الآن” إلى العديد من لغات العالم شرقاً وغرباً.

رقة وغلظة

وعلى كُلٍ، فأول ما يسترعي الانتباه في قصص “بيرانديللو” الخمس المستوحى منها “كاووس”، وهي “الابن الآخر”، “مرض القمر” “الجرّة”، “الراحة” و “حديث مع الأم”، أن مؤلفها يقترب من شخصياتها، وهو على استحياء شديد، فضلاً عن أنه يكن لها الاحترام ويشفق عليها بسبب معاناتها من جراء مشاق وآلام العمل في الأرض وما ينجم عن ذلك من احباطات وعذابات.

وما يسترعي الانتباه علاوة على ما تقدم، ذلك الدور الكبير الذي تلعبه المرأة في تلك القصص.

فهي في أولاها أم مجنونة تكره ابنها المتعلق بها لأنه جاءها اغتصابا وفي انتظار رسائل من ولديها الشرعيين اللذين هاجرا إلى أمريكا قبل أربعة عشر عاماً، رسائل لا تصل أبدا.

وهي في آخر القصص أم حنونة يسترجع المؤلف “بيرانديللو” مع طلفيها حكاية هروبها مع أسرتها من الجزيرة طلباً للنجاة من الثوار في فلك بشراع أحمر أقرب إلى أساطير الأولين.

وهي في القصص الأخرى تارة زوجة ترغب في خيانة زوجها الفلاح المصاب بجنون القمر، ولو مرة واحدة، فلا تشاء لها الاقدار.

وتارة ابنة تحاول دون جدوى اقناع أبيها الدوق صاحب الضياع منح الرعاة المتمردين قطعة أرض لإقامة مقابر عليها تكون مثوى لهم أخيراً.

وتارة نساء عاملات يشاركن أزواجهن النضال ضد جشع مالك مزرعة زيتون، وصل جبروته إلى حد العمل على ابقاء حرفي ماهر داخل جرّة كبيرة محبوساً.

غياب الحب

أما رواية “القعيد”، فهي تدور حول مأساة شاب فلاح أجبره الفقر على تقمص شخصية ابن عمدة القرية للذهاب بدلاً منه إلى الجيش حيث أرسل إلى جبهة القتال، وإذا به يستشهد، ولا يعود إلى القرية إلا جثة.

وأول ما يلفت النظر بعد الانتهاء من قراءتها، هو غياب عاطفة الحب التي تجمع بين رجل وامرأة، كأنما أصبح هذا الحب شيئاً ثانوياً يجب أن يتراجع إلى الوراء، حتى لا يشغل به بال من وهب نفسه لدراسة مشكلات الوطن ومحاربة الظلم والاستعمار.

ويبدو أن هذا الغياب قد لفت نظر “محسن زايد” صاحب سيناريو “مواطن مصري” فأراد أن يتفاداه بإضافة صبية حسناء إلى شخصيات الفيلم الأخرى، تذهب من حين لآخر إلى “مصري” (محمود عبد الله) قبل تجنيده كي يساعدها في الاستذكار.

والكاتب يحاول بذلك الايحاء إلينا بأن ثمة قصة حب، أو بمعنى أصح تباشير حب بين “مصري” والصبية الحسناء.

والآن إلى الفيلمين بعد هذا الاستطراد الطويل.

سر النجاح

غني عن البيان أن أولهما “كاووس” ليس بيت القصيد، ومن ثم لن أقف عنده إلا قليلاً، لأقول أن صاحبيه “تافياني” لم يلتزما بحرفية نص قصص “بيرانديللو” بل اختارا منها الذي يروقهما وذهبا إلى أبعد من ذلك بأن اعتمدا على حكايات مرضعته “ماريستيللا” له وهو صغير وهي حكايات عجيبة كانت تسليه وتفزعه في آن واحد.

ولقد جاء فيلمهما زاخراً بابتكارات فنية عديدة لا تنسى، ولا يتسع المجال لشرحها تفصيلاً.

ولكني أشهد أنني طول العرض كنت أتتبع باعجاب البراعة الفائقة سواء في وصل القصص الخمس بواسطة غراب معلق في رقبته جرس، ومحلق في السماء أو في اختيار أماكن التصوير في الحضر والريف أو في زوايا اللقطات والتكوينات أو في أداء جميع الممثلين، فلم تصدر عن أحد منهم كبيراً أم صغيراً حركة أو نبرة فيها غلط او نشاز.

ونظراً إلى أن اختيارهم قد روعي فيه ألا يكون أي منهم على اتصال بعالم النجوم من قريب أو بعيد، لذلك جاء أداؤهم لأدوار الفقراء العاملين في الأرض مقنعاً إلى حد كبير.

التقهقر.. لماذا؟!

فاذا ما انتقلنا إلى “مواطن مصري” فسنجد أنفسنا أمام ظاهرة غريبة كل الغرابة.

فمن المعروف أن آخر ابدعات “أبو سيف” فيلم “البداية” الذي أخرجه قبل ستة أعوام. وبه تجاوز المخرج الكبير الواقعية بمفهومها القديم، إلى واقعية جديدة متحررة من الجمود.

ومن هنا توقع الجميع منه مواصلة السير على نهج “البداية” في فيلمه الجديد “مواطن مصري”، لاسيما أنه مأخوذ عن رواية للقعيد أراها، ورغم إسهابها في الوصف وإسرافها في التكرار واللهجة الخطابية، قد ارتفعت إلى مستويات أعلى وأفسح أفقاً من كثير مما نقرؤه لأدباء آخرين تأثروا بهوجة الواقعية الاشتراكية التي ازدهرت في زمن مضى.

غير أنه ما أن بدأت مشاهد الفيلم ففي التتابع حتى خاب كل ما توقعته وعلقته على آخر أعمال “أبو سيف” من آمال، وإذا بي أرى فيلماً لمخرج يكرر نفسه مرتداً إلى واقعية أصبحت في خبر كان.

وفي اعتقادي أن ما شاب “مواطن مصري” من عيوب أنما يرجع إلى عدة أسباب لعل أهمها السيناريو.

فقد غاب عن بال “محسن زايد” وهو واحد من فئة قليلة تجيد كتابة السيناريو، أن رواية “القعيد” أقرب في الروح والشكل إلى”كانديد” “فولتير” “وصرصور” “كافكا” و”خرتيت” يونيسكو منها إلى “أم” “جوركي” وما شابهها من قصص واقعي اشتراكي عتيق.

ومن هنا مجئ معالجته السينمائية لها ملتزمة بقواعد سرد تقليدية عفا عليها الزمان.

وها هو ذا الفيلم نتيجة لذلك بارد يدور حول معانٍ مجردة دون أن يقدمها لنا نابضة بالحياة، عاجز عن أن يبعث فينا الاحساس بمأساة الفلاح “مصري” “ابن الخفير” عزت العلايلي الذي ذهب إلى حتفه في جبهة القتال بدلاً من ابن العمدة “عمر الشريف”.

سوء الاختيار

وإذا بنا في الختام أمام مجرد بيان سياسي مفرط في الفجاجة والسذاجة، يرد أن يقول بوضوح وجلاء أن أبناء مصر من الفلاحين الذين بذلوا الدماء الطاهرة في معركة الشرف والفداء، هولاء الأبناء لم يجنوا ثمار النصر، وإنما جناها بدلاً منهم الاقطاعيون الذين عادوا إلى السلطة فور استشهاد “جمال” متسيدين أقوياء.

ومن عيوب “مواطن مصري” الأخرى اسناد دوري العمدة وزوجته الأخيرة لكل من “عمر الشريف” و”صفيه العمري”.

فأي متقمص لشخصية العمدة في مسلسلات التليفزيون الريفية عندنا، وما أكثرها أصلح لهذا الدور من نجمنا العالمي.

فشفتاه من طول الإقامة في الخارج لا تنطقان العربية إلا بلكنة أجنبية وعيناه لا تشعان بريق الفهم لدور عمدة مزواج منحصر تفكيره في الوسية والطين.

أما “صفية العمري” فلولا أن الفيلم قال لنا صراحة ومنذ البداية أنها إنما تؤدي دور إحدى زوجات العمدة المفضلات، لولا ذلك لحسبت أنها بملابسها الضيقة وتشويحها وتقصيعها إنما تؤدي دور إحدى الغانيات!!

ملهاة أوسكار أو الرقص مع الذئاب

انتهت ملهاة أوسكار السنوية التي يحلو لهوليوود أن تلونها وتضفي عليها ظلالاً من عندها بتسميتها “جوائز الأكاديمية”.

والآن الأسئلة المطروحة كثيرة، ومن بينها على سبيل المثال، لماذا خرج “الأب الروحي”، جزء ثالث، صفر اليدين من أية أوسكار حتى ولو صغيرة، وذلك رغم أنه كان مرشحاً للعديد منها، بما في ذلك أوسكار أفضل فيلم ومخرج “فرانسيس فورد كوبولا”؟

ولماذا لم يكتب لفيلم “الرفاق الطيبون” أن يفوز إلا بجائزة يتيمة، ألا وهي أوسكار أفضل ممثل مساعد “جوبيسكي”، مع أن مخرجه هو “مارتين سكورسيزي” صاحب “سائق التاكسي” و”الإغراء الأخير للمسيح” وروائع أخرى خلاصة مأساة الانسان ازاء الأقدار؟

لماذا أصبحت ليلة ملهاة الأوسكار ليلة “الرقص مع الذئاب” بخروج ذلك الفيلم منها فائزاً بسبع جوائز من بينها أوسكار أفضل فيلم ومخرج مع أنه أول عمل سينمائي يخرجه “كيفين كوستنر”، ذلك الممثل الذي كان حتى عهد قريب إنساناً مغموراً، إلى حد أن المخرج “لورنس كازدان” قام أثناء عملية توليف فيلمه “البرود الكبير” (1983) بحذف جميع اللقطات التي أتيح لكوسنتر أن يظهر فيها، وذلك دون مراعاة منه لشعوره عندما يرى الفيلم، وقد جاء خالياً تماماً من أي ذكر له، ولو اسماً.

تجليات وشائعات

والأدهى والأمر أن المخرج الراحل “جون هستون” وهو من الفئة القليلة المشهود لها بحسن اختيار الممثلين لما هو مناسب لهم من أدوار قد رفض قبل اختفائه من مسرح الحياة بأيام، ترشيحاً لكوستنر من قبل المنتج “راي ستارك” كي يؤدي الدور الرئيسي أمام “أنتوني كوين” في فيلم “الانتقام”..

ولم يكتف بذلك، أنه إثر لقاء قصير فاشل مع الممثل، ذهب في سخريته منه إلى حد الاقتراح على ابنه المخرج “داني هستون” أن يسند إليه أحد الأدوار في فيلمه القادم “الدكتور نورث” وأن يراعي في اختيار الدور أن يكون صاحبه مريضاً بداء الإيدز (ص 24 كتاب “آل هستون” تأليف لورنس جروبل- الطبعة الأمريكية 1989- دار نشر ماكميلان)..

وهذه السمعة السيئة المصاحبة لبدايات “كوستنر” مع السينما، كما لابد وأن يكون لها تأثير كبير على المناخ العام المحيط بالرقص مع الذئاب، ذلك الفيلم الذي شارك في إبداعه لا بالإخراج فحسب وأنما، كذلك بالانتاج وتمثيل الدور الرئيسي على امتداد ثلاث ساعات أو يزيد.

فلقد انطلقت شائعات تتحدث عن عقبات لا سبيل للتغلب عليها، وتوقع الجميع للفيلم فشلاً ذريعاً على مستوى فشل “بوابة النعيم” للمخرج “مايكيل شيمينو” والذي كان سبباً في إعلان الشركة المنتجة له “الفنانين المتحدين إفلاسها”

لعنة المال

وهنا افتح أول قوس فأقول أنه ولئن كان قد جرى ترشيح “الأب الروحي” و”الرفاق الطيبون” إلى ثلاث عشرة أوسكار فيما بينهما، إلا أنهما لم يحصلا منها إلا على أوسكار واحدة كانت من نصيب الفيلم الاخير..

والفيلمان وإن كانا لم يفشلا في الشباك، إلا أن ما حققاه معاً من ايرادات أقل من تلك التي حققها بمفرده “الرقص مع الذئاب”، وهي ايرادات كانت قد وصلت قبل الملهاة الكبيرة وبقليل إلى مائة وتسعة وثلاثين مليون دولار، مع أن تكاليف انتاجه تقل عن عشرين مليون دولار..

ويلاحظ هنا أن تكاليف الانتاج التي تحملتها شركة بارامونت صاحبة “الأب الروحي” قاربت الخمسة والخمسين مليون دولار.

وكان فشله النسبي جماهيرياً، في أعقاب فيلمين مكلفين “ثماني وأربعون ساعة أخرى” و”أيام الرعد” جاءت ايراداتهما مخيبة لما علقته تلك الشركة عليهما من آمال كبار، سبباً في قيامها باصدار قرار برفت “فرانك مانكوزي” رئيسها على امتداد سبعة أعوام، وذلك قبل بث وقائع الملهاة عن طريق الأقمار الصناعية بسبعة أيام.

وفي الحق، “فبارمونت” وهي أكثر شركات هوليوود نجاحاً خلال النصف الثاني من عقد الثمانينات – ليست أسوأ حالاً من شركات أخرى منافسة تعاني نفس الضائقة.. ارتفاع تكاليف الفيلم وانخفاض الايرادات..

فمثلاً متوسط تكلفة الفيلم الذي تنتجه هوليوود قد ارتفع إلى مبلغ ستة وعشرين مليون وثمانمائة ألف دولار، أي بزيادة أربعة عشر في المائة عن عام 1989، ومائة وخمسة وثمانين في المائة عن عام 1980..

فإذا ما أضيف إلى ما تقدم مبلغ أحد عشر مليوناً وستمائة ألف دولار مقابل نفقات الدعاية وطبع النسخ، فإن متوسط تكلفة صنع الفيلم في هوليوود، بما في ذلك نفقات الإعداد لتوزيعه وعرضه، ترتفع، والحالة هذه، إلى مبلغ ثمانية وثلاثين مليون دولار..

الصعود إلى الهاوية

ومن المناسب هنا، الإشارة إلى مذكرة رئيس استديوهات “والت ديزني” “جيفري كاتزبرج” التي كتبها قبل أربعة شهور، محذراً فيها من مغبة تصاعد موجات ارتفاع التكاليف والمنافسات الحادة الحمقاء..

مطالباً أولي الأمر في هوليوود أخذ تحذيره مأخذ الجد، لا الاستهانة وإلا انتهى الأمر بصناعة السينما إلى الوقوع في هاوية كارثة ليس لها مثيل..

والبادي أن أصحاب الأمر والنهي في شئون أوسكار أخذوا تحذير “كاتزبرج” مأخذ الجد عند توزيع غنائم أوسكار..

ومن هنا استئثار فيلمي “الرقص مع الذئاب” و”شبح”، وهما الأقل تكلفة بين الأفلام الخمسة المرشحه لأوسكار أفضل فيلم، استئثارهما فيما بينهما بتسع جوائز، أغلبها من ذلك النوع الذي ترنو إليه أبصار المتنافسين.

واذا كان هذا شأن “الرقص مع الذئاب” و”شبح”، فإن الأفلام الأخرى التي كانت متنافسة معهما على تلك الأوسكار الهامة، وهي “الأب الروحي” و”الرفاق الطيبون” و”اليقظة” كان لها شأن آخر، فقد اقتصر نصيبها فيما بينها على أوسكار هزيلة ليس لها وزن كبير..

أقوال النجوم..

وهكذا أريد لهذه الأفلام الثلاثة ألا تخرج من ملهاة أوسكار متوجة بأكاليل الغار..

ولا غرابة في هذا، فهي من هذا النوع الضخم من الأفلام الذي لا قيام له إلا بنجم ساطع أو حشد من النجوم.

فمثلاً بطولة “الأب الروحي” يتقاسمها أكثر من نجم “آل باشينو”، “ديان كيتون”، “اندي جارسيا”.

وبطولة الفيلمين الآخرين انفرد بهما النجم “روبرت دي نيرو” الذي كان مرشحاً لأوسكار أفضل ممثل رئيسي عن أدائه لدور معوق في فيلم “اليقظة”…

ومعروف أن آفة صناعة السينما في هوليوود هي النجوم، فارتفاع تكلفة الأفلام ناشئ في المقام الأول من أجورهم الخيالية التي تزداد صعوداً على مر الأيام.

“فارنولد شفارزنجر” و”وجاك نيكلسون” يتقاضى الواحد منهما مقابل التمثيل في أي فيلم مبلغاً فلكياً يصل أحياناً إلى عشرة ملايين دولار، فضلاً عن نسبة مئوية من الأرباح قد تتجاوز الأجر بكثير..

وفي ضوء هذا، فليس محض صدفة أن جوائز أوسكار الأربعة المخصصة للتمثيل لم تكن من حظ أي نجم، وإنما كانت من حظ أربعة ممثلين وممثلات ليس لهم صيت النجوم الكبار، آية ذلك “كاتي بيتس” ممثلة المسرح البدينة التي أريد لها أن تفوز بأوسكار أفضل ممثلة رئيسية عن أدائها البارع في فيلم “ميزري” لصاحبه “روب راينر”..

الصبر والصمت..

فإذا ما انتقلنا إلى الممثلة الأخرى الفائزة بأوسكار أفضل ممثلة مساعدة عن دورها في “شبح” وهي “وبي جولدبرج” لوجدنا أنفسنا أمام فنانة متعددة المواهب، تحسن أداء جميع الأدوار التي تسند إليها، سواء ما كان منها فكاهياً ام مأساوياً..

ولقد سبق وأن رشحت لأوسكار أفضل ممثلة رئيسية عن أدائها الرائع في فيلم “اللون الأرجواني” لصاحبه المخرج “ستيفن سبيلبرج”..

بيد أنه، كان عليها أن تنتظر أكثر من خمسة أعوام، حتى تفوز بأوسكار أقل قيمة.

وهنا يحسن التنبيه إلى ظاهرة ذات دلالة كبيرة وهي انتظار جميع الممثلات الملونات زهاء خمسين عاماً، حتى يراد لواحدة من بين صفوفهن أن تفوز بأوسكار..

فمنذ فوز”هاتي ماكدونال” بأوسكار أفضل ممثلة مساعدة عن أدائها لدور خادمة سوداء وفية لأسيادها البيض ملاك العبيد في فيلم “ذهب مع الريح” (1940)، وأوسكار ممتنعة تماماً عن أية ممثلة سوداء.

وهنا أقفل القوس لأقول أن “الأب الروحي” و”الرفاق الطيبون” لم يهزما أمام “الرقص مع الذئاب” فحسب، وإنما هزما كذلك أمام فيلم آخر مسل خفيف الظل “شبح” قوامه فكرة استهلكتها هوليوود من قبل، هي البقاء وفياً للحبيبة حتى بعد الاختفاء بالموت، وليس له من ميزة أخرى سوى أنه حقق ايرادات مذهلة تجاوزت الأربعمائة مليون دولار..

الحلم الأمريكي..

وتلك الهزيمة المدوية في مضمار الصراع من أجل أوسكار، إنما ترجع إلى اسباب كثيرة أخرى، من بينها أن الفيلمين يدوران حول “المافيا” ذلك الموضوع الأثير لدى هوليوود، لا لشيء سوي أن الجمهور دائم الانجذاب إلى رجال العصابات الاجرامية وما يسيل على أيديهم من دماء تغطي الشاشة البيضاء ولا يستطيع لا المقاومة لكل هذا العنف، ولا الفكاك حقاً، قد يثير العنف الدموي الذي من هذا القبيل الرعب في القلوب مثلما هو الحال في بعض لقطات “الرفاق الطيبون”.

غير أنه رغم ذلك، يطلق الكامن من اشتهائنا البدائي للتسلط الفردي المتحرر من القيود..

وأغلب الظن أن المطروح في الأفلام التي تعرض لعالم هؤلاء الرجال الخارجين عن القانون، ليس ثمة علاقة بينه وبين فكرة الجريمة والعقاب..

المطروح شيء آخر، هو الفرد المنتمي للعصابة أو المافيا باعتباره بطلاً مأساوياً، نرى فيه النقيض لمجتمع متفائل سعيد يسوده وهم العيش في ظل العدل والمساواة والإخاء..

وعلى كُلٍ.. فالبطل الذي من هذا القبيل، يعتبر في نظر أصحاب الفكر الجانب المظلم للحلم الأمريكي..

وقد يكون الأب الروحي بأجزائه الثلاثة أصدق أفلام المافيا تصويراً لذلك الجانب..

ولعلنا نذكر، في هذا الخصوص أن “الأب الروحي” جزء أول (1972) قد فاز بأوسكار أفضل فيلم وسيناريو، فضلاً عن فوز “مارلون براندو” بأوسكار أفضل ممثل رئيسي عن أدائه لدور “دون كرليون” الأب الروحي الذي هرب صبياً من صقلية إلى نيويورك حيث نجح في بناء امبراطورية  تقوم على الإجرام.

بعد ذلك بعامين، كانت المفاجأة الكبرى، عندما خرج “الأب الروحي” جزء ثان من معترك الصراع على أوسكار فائزاً بجوائز أفضل فيلم وإخراج وسيناريو وموسيقى تصويرية وتمثيل لدور مساعد “روبرت دي نيرو”..

وكانت هذه هي المرة الأولى التي يكتب فيها لعمل سينمائي مجزأ أن يتوّج بأوسكار أفضل فيلم مرتين..

ومهما يكن من أمر فأحداث الجزء الثالث لا تبدأ من حيث انتهت أحداث الجزء الثاني، وإنما بعدها بحوالي عقدين من عمر الزمان..

الماضي المجهول

فها هو ذا “مايكيل كورليوني” (آل باشينو) يخطو نحو الشيخوخة وحيداً، وليس أمامه، بعد أن اختار ابنه “توني” أن يكون مغني أوبرا، مفضلاً تلك المهنة الرقيقة على تهيئة نفسه لوراثة عرش الأسرة الدموي، ليس أمامه إذن سوى أن يعلق كل الآمال على “فنسنت” (اندي جارسيا) ابن شقيقه (سوني) الذي ارتأى فيه صورته أيام الشباب.. الحيوية، والعنف المفاجئ، مع صوت خفيض يخفي شخصية لا تلين أمام المهام الجسام..

والفيلم يبدأ به، وهو يحاول أن يضفي على استثمارات العائلة طابع الشرعية، حتى يقطع كل صلة بينها وبين عالم الإجرام.

ولقد ذهبت به الظنون إلى تصور أن خير وسيلة لاكتساب الشرعية والاحترام، هي استثمار ثروة العائلة الطائلة في الأراضي وشبكات التليفزيون، بدلاً من الكازينوهات وعمليات القمار والرهان.

وكان من بين مشاريعه الطموحة، أن يعقد صفقة عقارات كبرى مع بنك الفاتيكان..

ولكن غاب عنه أن ماضيه الذي لا يستطيع أن يتحكم فيه، يمكن أن يؤدي إلى تحطيم كل ما أحكم تدبيره من تخطيطات..

وفعلاً، سرعان ما يعصف هذا الماضي بسعيه نحو حياة شريفة آمنة تقوم على سيادة القانون فيطوح بكل شيء إلى النقيض، إلى حياة متصلة بالماضي الإجرامي الآثم.. حياة لا تقوم إلا على سفك الدماء.

إرادة التغيير

والظاهر أن الجمهور قد مل هذا النوع من الأفلام الذي يجنح إلى التركيز على عالم الأجرام..

والظاهر كذلك أن الدوائر الحاكمة قد نفضت يديها من الأفلام التي تسلط الأضواء على الجانب المظلم للحلم الأمريكي، مؤثرة عليها ما لا يظهر من سراديب هذا الحلم إلا ما كان مشرقاً.

وفي الحياة الأمريكية أكثر من صورة مضيئة تصلح لمثل هذه السينما البناءة، فثمة مثلاً محاربة الاضطهاد العنصري لا سيما ما كان منه موجهاً ضد السود والهنود، وإثارة التعاطف مع الأقليات، وبخاصة بعد أن أصبح قطاع السكان البيض المكون من طائفة البروتستنت المنحدرة من أصل أنجلوسكسوني، والمسمى “الواسب” اختصاراً، أصبح أقلية في أغلب الولايات والمدن الكبرى، ومن ثم لا يستطيع الاحتفاظ بهيمنته على السلطة إلا من خلال تحالفات مع أقليات أخرى، لعل أهمها الأقلية اليهودية وذلك بحكم ثرائها الواسع، وبحكم سيطرتها على جانب لا يستهان به من أجهزة الثقافة والإعلام..

ومن هنا نجاح “الرقص مع الذئاب” جماهيرياً بالإقبال على مشاهدته إقبالاً منتقطع النظير بالنسبة لفيلم طويل جاد، وأكاديمياً بخروجه من مضمار أوسكار متوجاً بسبع جوائز وتصوير وسيناريو مستوحى من عمل أدبي وموسيقى تصوريرية وصوت وتوليف.

ولن أحكي تفصيلاً أحداث الفيلم وإنما أكتفي بأن أقول أنها تدور وجوداً وعدماً حول ضابط أبيض “دنيار” (كيفين كوستنر) أبلى بلاء حسناً أثناء الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب الأمريكي القديم، فكان أن عرض عليه، مكافأة له، أن يختار من أماكن العمل في الجيش ما يشاء..

وإذا به يختار مكاناً بكراً قصياً، منفصلاً عن الحضارة تماماً “لأنه يريد أن يراه قبل أن يختفي”..

وبداءة صاحب – وهو في وحدته – ذئباً، ثم اتبع ذلك بلقاءات مع أفراد من قبيلة “سيبوكس”، وهي من أشد قبائل الهنود الحمر بأساً..

وفي نهاية المطاف تتبناه القبيلة بحيث أصبح وكأنه واحد من أبنائها، وبحيث اختارت له اسما آخر “الرقص مع الذئاب”..

سر الانتصار..

والفيلم آيه في جمال البساطة، راعى صاحبه إلا يسند أدوار الهنود الحمر إلا لمن كانوا هنوداً لحماً ودماً، وألا تسمعهم يتكلمون طوال الفيلم إلا بلغة قبيلة “السيبوكس”..

ومفاجأة الفيلم هي في قلب الأدوار، بحيث نرى الهنود، وهم الذين اعتدناهم في السينما الأمريكية أشراراً، نراهم وقد أصبحوا في عمومهم أخياراً..

أما البيض، فعلي العكس من ذلك، وباستثناء البطل بطبيعة الحال، فلا نراهم إلا أشراراً..

وعندي أن أهم ما في “الرقص مع الذئاب”، هو ما أراده لنا صاحبه من أن نعمل على اكتشاف الآخر في أنفسنا، ولا نكتفي بذلك، بل نعمل على الاندماج فيه حتى الفناء، وهو أمر أراه أقرب إلى المحال..