نظرة علي العرب في السينما الامريكية

كل سينما في العالم تقوم على بعض مسلمات لا تحيد عنها في أغلب ما تنتج من أفلام، ومن مسلمات السينما الامريكية رسم صورة العربي بشكل قبيح، كريه يثير الاشمئزاز في النفوس، ومصداقاً لذلك الأفلام الامريكية التي أتيحت لنا فرصة مشاهدتها على مر الزمان.

فلو أفلحنا في استرجاع عدد منها على شاشة الذاكرة، لاستبان لنا أن صورة العربي في معظمها قد رسمت على وجه مشوه، بحيث نكاد لا نرى أي عربي فيها  إلا مرتكباً لآثام جسام لابد وان تنتهي به معاقباً عنها أشد عقاب وهنا يحق لنا أن نتساءل لماذا كل هذا الاصرار؟

الماضي المجهول

معروف عن السينما، وبالذات في الولايات المتحدة، أنها أداة ثقافية ذات تأثير كبير، بموجبها يتشكل وعي الشباب الامريكي بالعالم.

ولو تأملنا جمهورها المولع بها، المقبل على مشاهدتها سواء على الشاشات الكبيرة أو الصغيرة، لوجدناه في عمومه من جيل الشباب القابل للتأثر، وذلك بحكم أنه لا يزال غضاً في مقتبل العمر.

وفي الحق، فجيل الشباب هذا لا يلتقي بالعربي إلا من خلال صورته التي يراها فيما يعرض على تلك الشاشات، وليس من شك أن كل هذا لابد وأن يسفر عن بذر بذور الاحتقار الممتزجة بالخوف من كل ما هو عربي في قلوب الشباب.

ومن هنا خطورة ظاهرة تصوير العربي مشوهاً على الوجه سالف البيان، وخطورة عدم الوعي بها، وعدم مواجهتها بما تستاهل من بحث ودراسة وتأصيل.

والغريب أنها ظاهرة قديمة قدم السينما، فعندما أنشأ توماس أديسون أول استديو للفيلم في الولايات المتحدة (1883) كان فيلم”رقصة الأقنعة السبعة” واحداً من أوائل الأفلام التي انتجها ذلك الاستديو.

وخلال عقد العشرينات انتجت السينما الامريكية التي كانت قد احتلت مكان الصدارة عالمياً، ما لا يقل عن سبعة وثمانين فيلماً تدور موضوعاتها بشكل أو بآخر حول العرب.

ولقد كان بعضها من النوع الفكاهي الذي يصورنا نحن العرب مهرجين أخياراً وأشراراً فاسدين تارة أخرى. وكان البعض الآخر- وهو أكثر شعبية – من نوع المغامرات الميلودرامية التي تجري أحداثها في الصحراء.

البحث عن اللذات

ولعل أشهر أفلام النوع الأخير هما “الشيخ” (1921) و”ابن الشيخ” (1926) اللذان قام بأداء دور البطولة فيهما “رودلف فالنتينو”، ذلك الممثل الذي أصبح نجماً معبوداً بفضل هذين الفيلمين، ولا يكتمل أي مجلد دعائي عن السينما الامريكية، إلا بصورة له مرتدياً عباءة عربية، ومختطفاً امرأة أوروبية.
وإجمالاً – فصورة العربي التي تبقى مترسبة في ذهن كل متفرج على تلك الأفلام الأولى، هي صورة كائن همجي يروع بالعنف والشهوات.

والغالب على حبكة تلك الأفلام، لاسيما ما كان منها موضوعه يدور حول الفرقة الأجنبية، هو ثنائية التضاد الذي يجعل من العرب والأوروبيين أعداء على الدوام وربما خير مثل على ذلك فيلم “بوجست” حيث نرى الأوروبيين محاصرين داخل قلعة تائهة وسط الصحراء يتهددهم الموت في صورة موجات متتالية من عرب قتلة مقنعين، ممتطين الجياد، شاهرين السيوف.

وغالباً ما تنحدر تلك الأفلام بأرض العرب إلى مجرد صحراء جرداء، وآية ذلك فيلم “أغنية الصحراء” (1929) حيث تتحول جبال الريف في المغرب العربي بسحر ساحر إلى أرض خراب عارية تماماً إلا من كثبان الرمال.

لص بغداد

ومع ذلك، فعرب تلك الأفلام الموغلة في القدم، ليسوا أشراراً إلى آخر مدى. “فدوجلاس فيربانكس” في لص بغداد، وان كان كسولاً إلا أنه بهلون خفيف الدم.

وفالنتينو، وإن كان شيخاً يفور بالشهوات، إلا أنه شريف يرعى الحرمات.

وهكذا يمكن القول بأن عربي تلك الأفلام  قد اجتمعت فيه خرافة الانسان الطبيعي الذي لم تفسده الحضارة بوجهيها القائل بهما “جان جاك روسو” ونقيضه “جون هوبز” الأول بزعمه أن الانسان في حالته الطبيعية كائن متوحش نبيل، الثاني بذهابه إلى حد اعتبار الانسان في حالته تلك سفاحاً ومتعطشاً للدماء.

القناع

وأغرب ما نعجب له أمر العربي الخيّر في تلك الأفلام أنه لا يستمر عربياً حتى الختام !!

فما أن تقترب الأحداث من النهاية حتى يفصح عن هوية البطل، فإذا بها غير عربية، وأنما أوروبية.

وهكذا تتجنب حبكة تلك الأفلام حرج اختلاط الأجناس الناجم عن وقوع الحسناء الأوروبية البيضاء في حب عربي، ذلك أنه ولئن كان خيّراً فإنه من جنس أكثر انحطاطاً.

فمثل هذا الحرج لابد وأن يزول إذا ما اتضح للمتفرج أن المحبوب الذي كان يظنه عربياً، هو الآخر من نفس جنس المحبوبة الحسناء، أوروبي زكي الدماء.

وعند تلك النهاية السعيدة المفتعلة لفليم “الشيخ” كتب محرر جريدة النيويورك تايمز يطمئن قراءه قائلاً “ولن يتأذى شعورك بزواج فتاة بيضاء من عربي لا لشيء سوى أن “الشيخ في حقيقة الأمر ليس من أبناء الصحراء”.

مومياء هوليوود

وما أن تكلمت السينما الامريكية ثم تلونت، حتى تغيرت على وجه يمكن القول معه أنها قد تحولت من حال إلى حال.

ورغم ذلك، فالموضوعات المتصلة بالعرب ظلت بنفس وصفتها القديمة لا تتغير، حتى أن فيلم “قسمة” (1920) قد أُعيد إنتاجه بعد ذلك ثلاث مرات (1955،1944،1930).

وكذلك الحال بالنسبة لكل من “لص بغداد” ( 1924) الذي أُعيد انتاجه هو الآخر ثلاث مرات (1978،1960،1940)  و”بوجست” (1926) الذي أُعيد انتاجه مرتين ( 1966،1939).

ومن الأفلام العلامة في تشويه صورة العربي إبان عقد الثلاثينات فيلم “المومياء” الذي بفضلة أدخل “بوريس كارلوف” على السينما الامريكية نوعاً جديداً كُتِب له طول البقاء.

فبموجب تنويعات على نفس الاسم “قبر المومياء” ( 1942)، و”شبح المومياء” (1944) و”لعنة المومياء” (1945)، ثم مرة أخرى”المومياء” (1955) تكرر هذا النوع المرعب من الإعلام .

والأحداث فيها جميعاً تدور في شرق عربي متآكل يستبد به الموت والشيخوخة والاضمحلال، يتحكم فيه الظلم والجور والفساد، تسيطر عليه الخرافات والخزعبلات.

وعلي العكس من ذلك تماماً علماء الآثار القادمون إلى هذا الشرق المريض من الغرب.

إنهم يمثلون العلم والديمقراطية، الشاب والحيوية، وهم بوصفهم كذلك ينجحون في اختراق كل شيء، حتى الأماكن المحرمة كبيوت العبادة والحريم والمقابر.

الموجة الجديدة

ولعلي لست مغالياً إذا ما قلت أن فيلم “الخروج” (1960) قد بدأ به نوع سينمائي جديد، موضوعه الصراع العربي – الاسرائيلي من خلال ميلودراما تاريخية يتصارع فيها الأخيار الاسرائليون مع الأشرار العرب.

والأكيد أن أفلام هذا النوع التي جرى توزيعها في الولايات المتحدة خلال عقد الستينات، هذه الأفلام لا يقل عددها عن عشرة أفلام من بينها “جوديث” (1966) و”ألقى بظله الضخم” (1966) و”النجاة” (1968) و”رحلة إلى أورشليم” (1968).

ومما لوحظ على تلك الأفلام أن الاسرائيليين فيها لا يختلفون عن الأوروبيين في شيء.

أما العرب فقتلة ملثمون، لا ينفرد أي منهم بصفة يتميز بها عن القطيع.

وهم جميعا مثل الجنود العرب في “ألقى بظله الضخم” قساة يقهقهون مهللين مكبرين، وهم يطلقون الرصاص على امرأة حبيسة سيارة في أسفل واد لا تستطيع منه نجاة.

وإذا ما اكتفينا بإلقاء نظرة متسرعة على أفلام هذا العقد، فقد تجنح بنا تلك النظرة إلى اعتبار عدد منها منصفاً بعض الشيء للعرب.

الوهم والحقيقة

فمثلاً “لورنس العرب” (1962) لصاحبه “دافيد لين” يظهر الانجليز وقد تراجعوا عن وعدهم منح العرب الاستقلال فضلاً عن أنه يبدو وكأنه فيلم قد حقق لصورة العربي في السينما الامريكية بعض التقدم، فالعرب فيه ليسوا جميعاً من فئة الاشرار.

وهذا ولا شك خطوة إلى أمام إذا ما قورن “لورنس” “بالخروج” حيث العرب جميعاً ليسوا إلا أشرارا.

غير أنه إذا تعمقنا النظر في عرب “لورنس” لوجدناهم جميعا إما أناساً يمارسون عنفاً لا مكسب من ورائه، أو أناساً غير أكفاء لا يحسنون تصريف الأمور، أو أناسا منقسمين على أنفسهم بحكم انتسابهم إلى قبائل متناحرة على الغنائم والأسلاب.

وفضلاً عن ذلك فدمشق عندما سقطت في أيديهم، لم يستطيعوا الاحتفاظ بها لأكثر من يوم أو يومين، وذلك لعجزهم عن إدارة مرفق المياه والمستشفيات ثم إذا بهم ينسحبون منها فجاة، ليتركوها نهباً للانجليز.

وغني عن البيان أن كل ما جاء في “لورنس” عن دخول العرب دمشق ثم خروجهم منها بعد يومين، وذلك لفشلهم في إدارة مرافقها، كل ذلك لا يعدو أن يكون هراء وتحريفاً صارخاً للتاريخ، فالعرب حكموا دمشق مدة عامين إلا يومين، ولم يخرجوا راضين بل مكرهين تحت ضغط الجيش الفرنسي الذي كان يسعى إلى احتلالها استكمالاً لخطة تقسيم المشرق العربي بين الاستعمارين البريطاني والفرنسي.

وهذا الذي قيل عن تحريف التاريخ في “لورنس” يمكن ان يقال كذلك في حق فيلم “الخرطوم” (1966)، ففيه تاريخ الثورة المهدية قد جرى تحريفه تبريراً للغزو الاستعماري للسودان.

وفيه لا يظهر أنصار تلك الثورة إلا بمظهر القتلة المتعصبين ضد رسل التقدم والرخاء.

الاصرار.. لماذا؟

ومما يثير الدهشة أنه كلما مرت الأيام، ازدادت صورة العربي في السينما الأمريكية سوءًا.

فخلال النصف الثاني من عقد السبعينات، والنصف الأول من عقد الثمانينات، بلغ التشوية لصورة العربي في تلك السينما ذروة، ما أظن أن لها مثيلاً في السينما على مر العصور.

فالإرهابي في فيلم “الأحد الأسود” (1977) عربي يتآمر من أجل قتل المتفرجين، بما فيهم رئيس الولايات المتحدة بواسطة تفجير قنبلة شديدة التدمير في مدرج رياضي وتاجر العبيد “بيتر استينوف” في فيلم “اشافتي” (1979) عربي يختطف زوجة “مايكيل كين” الانجليزي من أجل بيعها لزبونه الثري العربي “عمر الشريف”، وتاجر عبيد آخر في فيلم “الجنة” – وهو بدوره عربي – يطارد فتاة انجليزية في الصحراء، ولا ينقذها من بارثنه سوى صبي شجاع – اسمه بالمناسبة “دافيد” – بأن يصوب إليه سهماً، فيرديه قتيلاً، وملك وقائد ثوري، وكلاهما عربي، يسعيان في فيلم “الخطأ الصحيح” (1987) إلى تفجير قنابل ذرية في كل من نيويورك واسرائيل.

وتمضي السينما الامريكية قدماً في طريق تشويه صورة العربي حتى في أفلام موضوعاتها منبتة الصلة بشرقنا العربي، أفلام مثل “شبكة التليفزيون” (1977) و”المهر الأسود” (1979) و”غزاة صندوق العهد المفقود” (1981) و”الحياة والموت في لوس انجليس” (1985) و”شرلوك هولمز الصغير” (1985) و”العودة إلى المستقبل” (1985) نراها وقد حشرت فيها جميعاً شخصيات عربية كريهة لا لشيء سوى تشوية صورة العربي بحيث ينتهي الأمر بالمتفرج إلى الاستسلام إلى الدعاية التي تقول له تلميحاً وتصريحاً أن من الواجب عليه أن يرى الشر كل الشر، والنكر كل النكر في كل ما يصدر عن العرب من أفعال.

لحظة الحقيقة

والآن ماذا بعد مأساة غزو العراق للكويت؟

أغلب الظن أن السينما الامريكية ستعود إلى”قسمة” “لص بغداد” و”بوجست” و”المومياء” بدل المرة مرات.

وأغلب الظن أنها ستستوحي من احتجاز الرعايا الأجانب في الكويت والعراق كرهائن ودروع بشرية ضد الغارات، ومن تعذيب الطيارين أسرى الحرب وإهانتهم أمام أعين الكاميرات، ومن تلويث البيئة بالسرطان الأسود يلقى به في مياه الخليج دون اكتراث، ومن تدمير جميع حقول بترول الكويت تقريباً باشعال الحرائق فيها قبل الهروب الكبير، ومن التهديد باستعمال الغازات السامة وما شابهها من أسلحة الدمار والفناء.

ومن طريق العار تفترشه دبابات وعربات “أم المعارك” المحملة بالمسروقات وقد تحولت إلى حطام، من كل ذلك ستستوحي أفلام لا تعد بالعشرات، وإنما بالمئات.

وأغلب الظن أنها ستجد في وصف نجيب محفوظ صاحب جائزة نوبل لطاغية بغداد بأنه جعجاع، قليل الأدب، سيئ الرأي والسلوك، لص، غادر، ستجد فيها معيناً لا ينضب لمسلسل لا ينتهي من الأفلام ترسم صورة العربي وفق ما تهوى وتشاء.

نظرة علي الحرب في السينما الأمريكية

الحرب ما هي إلا استمرار للسياسة ولكن بوسائل أخرى هكذا قال الجنرال والمؤرخ العسكري كارل فون كلاوزڨيتس.

وقد يبدو غريباً أن يكون أصحاب مصنع الأحلام في هوليوود هم أكثر الناس فهما لتلك المقولة الحكيمة التي جاءت على لسان هذا الجنرال الألماني قبل قرن ونصف من عمر الزمان، والتزموا بها فيما ينتجون من أفلام.

إذ لوحظ على امتداد ما يقرب من ثمانين عاماً، أنه ما أن تجنح الدوائر الحاكمة في الولايات المتحدة إلى تبني سياسة مؤداها الانجراف بالبلاد إلى الحرب، حتى تبادر هوليوود إلى دعم تلك السياسة بالدعاية لها عن طريق السينما.

فإذا ما هبت العاصفة المميتة واندلعت نيران الحرب، كانت عاصمة السينما المرصعة سماؤها دائماً وأبداً بأحلى وأشهر النجوم، في مقدمة صفوف الذين يدقون طبولها باعتبارها أعدل وأجمل، وربما آخر الحروب.

وفي الحق، فلا غرابة في كل هذا، فالسينما كما هو معروف للقاصي والداني، لغة العصر، وهي باعتبارها كذلك أداة دعاية لا تعلو عليها أية أداة أخرى، مهما كان علو شأنها في سالف الزمان.

ولعله من المناسب هنا أن أحكي رواية، قد تبدو لأول وهلة، ولمن لا يستطيع صبراً، أنها منبتة الصلة بالحديث عن الحرب وهوليوود.

السحر الخفي

قبل ستين عاماً وبالتحديد يوم التاسع عشر من شهر يناير لعام 1932 سافر الدكتور جوبلز- وهو واحد من أهم أفراد العصابة النازية التي تحكمت في مصير الشعب الألماني بالحديد والنار لفترة سوداء دامت ثلاثة عشر عاماً، وليس ألف عام كما كان مدبراً لها – سافر في رفقة زعيمه “أدولف هتلر” إلى مدينة ميونيخ حيث تدارسا احتمالات قيام الزعيم بترشيح نفسه لرئاسة الجمهورية.

ولمدة شهر أو يزيد، ظل الزعيم المهيب متردداً بين الإقدام على الترشيح وبين الإحجام.

وعن ذلك كتب الدكتور في اليوم الأخير من يناير مسجلاً في مذكراته “الزعيم سيتخذ قراره يوم الأربعاء.. وهذا لم يعد محل شك”.

وفي الثاني من شهر فبراير ظن الدكتور أن الزعيم الملهم قد اتخذ القرار المناسب، فكتب متفائلاً:

“لقد قرر أن يرشح نفسه”، غير أنه سرعان ما استدرك قائلاً أن قرار الزعيم لن يعلن على الملأ ترقباً لما سيفعله الاشتراكيون الديمقراطيون.

وفي اليوم التالي اجتمع قادة العصابة في عاصمة بافاريا متوقعين من الزعيم أن يزف إليهم البشرى.. ولكن خاب ما توقعوه.

وعن هذه الواقعة كتب الدكتور غاضباً “لقد انتظروا دون جدوى.. وكانت أعصاب الجميع مشدودة متوترة..”.

وبحثاً عن راحة النفس تسلل الدكتور الصغير إلى حيث شاهد “جريتا جاربو” في واحد من أفلامها.

فكان أن “تأثر واهتز كل ما فيه” لتلك السيدة التي تعتبر “أعظم ممثلة”.

ص 156 من كتاب “صعود وانهيار الرايخ الثالث” لصاحبه “ويليم شيرر” الطبعة الانجليزية الأولى.

ولست أقصد من رواية هذا الجزء من سيرة الديكاتاتورالنازي ورجل دعايته الدكتور الصغير الذي كان له فضل الانتقال بالانسانية إلى زماننا المعاصر، زمن الكذب الكبير – لست اقصد به التذكير بسيرة هتلر وتابعه، فأنا لا أطيق لهما ذكراً.

أن ما أقصده ينحصر في بيان مدى تأثير سينما هوليوود باعتبارها فكراً يخدم سياسة تقف وراءها مصالح أغنى وأقوى دولة في العالم.

فرجل الدعاية الأول في ألمانيا الهتلرية، يهتز كل ما فيه بطيف جاربو، ويسترد راحته النفسية بعد انفراده بنجمة هوليوود الأولى في الظلام، وهي تتحرك على الشاشة البيضاء.

وها هو ذا في تعليقه متأثراً بدعاية شركة “مترو جولدن ماير” (لصاحبها وقتذاك “لويس ماير” وهو يهودي أي من الجنس الملعون عند داعية النازية الأول) يردد أسطورة أنها أعظم ممثلة يرددها كالببغاء.

وإذا كان هذا هو حال “جوبلز” مع السينما الأمريكية ومدى تأثره بها، وهو الوزير المتعصب الكاره لكل فن آت من وراء المحيط باعتباره فناً غير نقي ملوثاً بفكر السود واليهود.. فما بالك بحال المتفرج العادي الذي لا يحمل أي عداء مرضي أو كراهة عنصرية للفن الأمريكي.

هيمنة هوليوود

ويلاحظ هنا أن هذا التأثير الذي حدث للسينما الأمريكية على كل من يقبل على مشاهدتها صديقاً كان أو عدواً، كبيراً كان أو صغيراً، إنما يرتد إلى الحرب العالمية الأولى تلك الحرب التي نقلت السيادة على العالم إلى الدوائر الحاكمة في الولايات المتحدة.

وفي سبيل المحافظة على تلك السيادة العالمية التي تدعمت بالانتصار على دول المحور (المانيا وايطاليا واليابان) في الحرب العالمية الثانية، كان لا مندوحة لتلك الدوائر عن استعمال السينما – وهي أكثر الفنون شعبية – سلاحاً فكرياً للسيطرة على عقول الملايين.

ولا غرابة في هذا الجنوح، ذلك أنه من المسلمات – الآن- الآن أن الفيلم سلعة ذات طابع خاص، يجري انتاجها بغاية أن يتحقق من وراء تسويقها ربح لأصحاب الأموال المستثمرة فيها، فضلاً عن أنها بحكم طبيعتها الخاصة تلك تحمل فكراً، هو في الغالب الأعم، فكر أهل القمة المتحكمين في شئون العباد.

وخلاصة القول إذن هو أن السينما تعود على الدوائر الحاكمة وراء المحيط بفائدتين:

الأولى: الأرباح الناتجة مباشرة عن تسويق الفيلم، وعادة ما تكون أرباحاً ضخمة يسيل لها اللعاب.

والثانية: وهي الفائدة الأهم – ضمان استمرار السيادة للأفكار والقيم التي تدعم بقاء تلك الدوائر مهيمنة.

ولعل في هذا ما يفسر شدة الاهتمام في الولايات المتحدة بالفيلم باعتباره صناعة وتجارة ومخدراً.

فالرئيس الراحل فرانكلين د. روزفلت يفاخر به الأمم قائلاً “حيثما يعرض الفيلم الأمريكي نبيع مزيداً من القبعات والجراموفونات والثلاجات الأمريكية”.

(ص17من كتاب “تقديم لنادي السينما” لصاحبه “فينست بينيل” طبعة فرنسية)

والجنرال ماك ارثر يتوجه بالشكر إلى أفلام هوليوود، ويثني عليها لمساهمتها الرائعة في توجيه الشعب الياباني الوجهة التي تريدها له سلطات الاحتلال.

(ص8 من كتاب “الفيلم في معركة الأفكار لصاحبه جون هوارد لوسون طبعة امريكية)

ووزارة الخارجية الأمريكية في عهد الرئيس “ترومان” تمارس الضغط على الحكومة الفرنسية، حتى تجبرها على توقيع اتفاقية بلوم – بيرنز التي فتحت بموجبها السوق الفرنسية لغزو الفيلم الأمريكي.

الوهم والحقيقة

وأعود إلى الحرب لأقول أنها بدءًا من صيرورة هوليوود عاصمة للسينما العالمية، وهي تستهوي صانعي الأطياف، إلى حد أن حماسهم لها قد حملهم على انتاج أفلام كثيرة عنها، تزيد في عددها على عدد أي أفلام تدور حول أي موضوع آخر.

(ص104من كتاب “الأفلام العظيمة” لصاحبه “ويليم باير” طبعة أمريكية)

ورغم أن هذه الأفلام، وهي تعرض للحرب، كان لابد أن تصور بعضاً من فظائعها وبشاعتها التي لا تقف عند تشويه الأجساد وازهاق الأرواح وتخريب العامر من الأرض، وما شابه ذلك من عذابات وآلام، إلا أنها في عمومها كانت أفلاماً تبرر الحرب تارة باسم الحرية، وتارة باسم العدالة، وتارة باسم الشجاعة، بل كثيراً ما كانت تجنح صراحة إلى تمجيدها باعتبارها مطهر من الآثام.

وأضرب مثلاً على هذا النوع من الأفلام التي تنطوي على تمجيد للحرب بفيلمين، أحدهما صامت، والآخر متكلم متعدد الألوان.

والفيلم الأول واسمه “أجنحة” (1927) لصاحبه المخرج “ويليم  ويلمان” مداره التمجيد لبطولات سلاح الطيران الأمريكي من خلال مأساة شابين أسقط أحدهما طائرة الآخر خطا أثناء إحدى المعارك الجوية في سماء أوروبا أبان الحرب العالمية الأولى.

ومما له دلالة في هذا الخصوص أن يكون “أجنحة” أول فيلم أمريكي يتوج بجائزة أوسكار (1928).

وأن تعود هوليوود بعد حوالي ستين عاماً من التاريخ الأخير إلى انتاج فيلم شبيه به في الموضوع يعظم من شأن سلاح الطيران، اسمته”النسر الأعلى” (1986) وأسندت بطولته إلى “توم كروز” ذلك النجم الشاب الذي جرى ترشيحه فيما بعد لأوسكار أفضل ممثل رئيسي عن دوره في “ولد في الرابع من يولية” أحد الأفلام المعادية لحرب فيتنام.

الرسالة بالألوان

أما الفيلم الأخير”دستة أشرار” (1967) لصاحبه المخرج “روبرت الدريش” فقد صور الحرب وكأنها مغامرة مثيرة تتحول بنفر من السجناء الأشرار إلى أبطال خيرين أبرار.

وكأنها لا تطلق أبشع الغرائز البشرية من عقالها، بل على العكس من ذلك تلجمها بإيقاظ الضمائر الأهلة بالفضيلة الكريمة السمحاء!!

ومما دلالة في هذا الشأن أن يكون “دستة أشرار” أكثر أفلام الحرب نجاحاً، وأن يصبح نموذجاً يحتذى في العديد مما انتج بعده من أفلام.

وبطبيعة الحال لن أعرض بالتفصيل هنا لقصة هوليوود مع الحرب من يوم أصبحت كعبة السينما، وحتى يومنا هذا، وأنما اكتفي بأن أقول بأن الحرب العالمية الأولى التي اشتعلت نيرانها لا لسبب ظاهر سوى أنه في الثامن والعشرين من يونيه لعام 1914 اغتال شاب صربي رجلاً نمساوياً في مدينة صغيرة تدعى “سراييفو”، وهي عاصمة مقاطعة تعرف باسم “بوسنيا” إلا أن قتيل “سراييفو” لم يكن من طينة باقي الناس، إنه ولي عهد امبراطورية النمسا، والارشيدوق المنحدر من سلالة عائلة الهبسبورج ذات الجلال، لذلك فدمه لا يفتدى بدم القاتل وحده، بل بدماء الملايين من الناس في مشارق الأرض ومغاربها، تلك الحرب أو بمعنى أصح المجزرة البشرية، قد مهدت هوليوود لاشتراك الولايات المتحدة فيها إلى جانب الحلفاء قبل نهايتها بقليل بعدد من الأفلام، لعل أهمها “عرائس الحرب” للمخرج “هربرت برنتون” و”االحضارة” للمخرج “توماس انس” و”قلوب العالم” للمخرج الرائد “دافيد جريفيث” (1916).

وفي هذه الأفلام نرى الجنود الألمان أقرب في تصرفاتهم إلى الوحوش الكاسرة، منهم إلى بني الانسان.

وعن “قلوب العالم” قال المخرج الأمريكي المنحدر من أصل الماني “اريك فون شتروهايم” أنه فيلم تسبب في تحويل مئات وألوف الرجال والنساء من التعاطف مع المانيا إلى العداء التام.

الكذبة الكبرى

فإذا ما انتقلنا إلى المجزرة البشرية الثانية لوجدنا الشعب الأمريكي مضللاً، ويحسب نفسه بمنجى عنها، كما سبق له إبان المجزرة الأولى.

وله العذر في ذلك، إذ أن حكومته كانت قد أعلنت حيادها التام بين المعسكرين المتحاربين، معسكر الفاشية، ومعسكر الحلفاء الذي انحسر، بعد سقوط فرنسا، في انجلترا صامدة وحدها لمحور روما – برلين .

ولكن هوليوود لم تقف على الحياد، وإنما انصرفت بكل طاقاتها إلى الدعاية للسياسة غير المعلنة القائمة على معاداة دولتي المحور، تمهيداً للمشاركة في الحرب إلى جانب الحلفاء.

وفي سبيل ذلك انتجت أفلاماً معادية للنازية مثل: “الرفاق الثلاثة” للمخرج “فرانك بورزاخ” (1939) و”هروب” للمخرج “مرفين لوروا” (1940)  و”الديكتاتور العظيم” لصاحبه “شارلي شابلن” ذلك الفيلم الذي تقمص فيه المتشرد الخالد شخصيتين، إحداهما شخصية ديكتاتور رهيب “هينكل” والأخرى شخصية حلاق يهودي مستضعف، يكتب له في نهاية الفيلم التخلص من الديكتاتور انتصاراً للسلام.

النخبة المختارة

ومع ذلك، فهوليوود لم تخل يوماً من نخبة منشقة ولو إلى حين.. نخبة تعي أن الحرب كارثة بأي معيار، وتعمل على كشفها باعتبار أنها عار.

ومن بين أفلام هذه النخبة المختارة “كل شيء هاديء في الميدان الغربي” (1930) للمخرج “لويس مايلستون” و”أجمل أيام حياتنا” (1946) للمخرج “ويليم ويلر” و”المسيو فيردو” (1946) لشارلي شابلن و”نهاية العالم الآن” (1979) للمخرج “فرانسيس فورد كوبولا” و”طريق المجد” (1957) و”الدكتور سترينج لوف أو كيف تعلمت أن أتوقف عن القلق وأحب القنبلة” (1963) و”رصاصات حية” أو “ولد ليقتل” (1987).

والأفلام الثلاثة الأخيرة أبدعها “ستانلي كوبريك”، ذلك المخرج الأمريكي الذي يعيش في المهجر بانجلترا بعيداً عن هوليوود وجوها المشحون بالمؤامرات والضرب تحت الحزام  و”رصاصات حية” فيلمه الأخير، أول عمل يبدعه بعد انقطاع دام حوالي سبعة أعوام.

ولو اكتفينا بالقاء نظرة طائرة سطحية عليه لذهب بنا الظن إلى أنه فيلم عن فيتنام، ولكنه في حقيقة الأمر عن شيء آخر.

إنه عن الحرب.. أي الحرب.

ونصفه الأول مكرس لعملية القضاء نهائياً، وبلا هوادة، على بقايا الانسانية في المجند ابتغاء الانحدار به إلى مجرد آلة صماء، لا تجيد شيئاً سوى القتل.

ومع انتهاء عملية التدريب التي تجعل من المجندين قتلة محترفين، يبدأ النصف الثاني من الفيلم في ميدان القتال حيث لا نرى إلا خراباً متصلاً.

! سوبرماركت والسقوط في بحر من الأفلام الهابطة

لو ألقينا نظرة طائرة على الأفلام المصرية الجديدة المعروضة حاليا بدور السينما، لاستبان لنا أنها جميعاً، فيما عدا “الحكم لله” لصاحبه “حسام الدين مصطفى”، من ابداع صانعي أطياف متخرجين في معهد السينما بالقاهرة، أو في غيره من معاهدها على امتداد العالم الفسيح.

إنها في مجموعها مخيبة لما علق على هؤلاء المخرجين من آمال كبار، لا استثني من ذلك حتى “سوبر ماركت” للمخرج “محمد خان”.

فمن المعروف عن صاحب الفيلم الأخير أنه من المخرجين القلائل عندنا الذين لهم رؤية. ومن ثم يعتبر أي فيلم له حدثاً فنياً مثيراً للجدل، مستوجباً للاهتمام.

وهو في “سوبر ماركت” كما في “عودة مواطن” من قبل، وكلاهما لكاتب سيناريو واحد “عاصم توفيق”، إنما يعرض للمشكلة التي تؤرق باله وبال كل من يهمه أمر مصر، ألا وهي فساد الأوضاع في مجتمع تحرر من كثير جداً من قوانين الخلق والعرف تحت تأثير الإذعان لقيم الانفتاح، وما نشأ عنه من تعقيد بغيض في العلاقات داخل الأسرة الواحدة.

فإذا بها تتمزق، وإذا بالأزواج والأباء والأبناء والأشقاء بعضهم لبعض عدو.

لعنة الأشياء

وإذا بالمجتمع عاجز عن أن يقول في هذا كله شيئاً، أو أن يقاوم هذا كله بشيء..

وما تمزق في “سوبر ماركت” خان، هو ما كان بين الأم “أميرة” (نجلاء فتحي) التي تعمل بائعة في أحد محلات السوبر ماركت وبين ابنتها الوحيدة “ناهد” (مريم مخيون) من علاقات قوامها الحب والعطف والحنان، وذلك عندما عاد الأب مطلق الأم (نبيل الحلفاوي) إلى مصر بعد غياب في الكويت طال عشرة أعوام، مستصحباً زوجة عاقراً، واسعة الثراء، وأموالا تعد بالملايين.

فها هو ذا، يلوح للابنة الصغيرة بأشياء الحياة اللذيذة.. العربة المرسيدس الفارهة، فنادق النجوم الخمسة، السكن الأبهة، السهر في المراقص والملابس الغالية الغريبة..

مستهدفاً من وراء كل هذا الأغراء جذبها من فلك أمها إلى عالمه حيث لا وزن ولا قيمة إلا للأشياء.

وطبعاً لا تصمد الصغيرة طويلاً ومع الفقدان لها نهائياً بسبب تشيئها تسقط الأم هي الأخرى في مستنقع الأغراء.

وهاهي ذي، قريباً من نهاية الفيلم غانية في صحبة طبيب مليونير زير نساء “الدكتور عزمي” (عادل أدهم) اتخذ من مقولته المفضلة “الفلوس إما تسرقها أو تورثها أو تتجوزها” شعاراً له في ممارسة الحياة وفقاً لما يهوى ويشاء.

وأغلب الظن أن فكرة فساد العلاقات بين الأم والأبنة لأسباب تتصل بالثروة والجاه – وهي فكرة الفيلم الرئيسية – مأخوذة عن “ميلدريد بيرس”، ذلك الفيلم الأمريكي الذي أدت فيه النجمة الأسطورة “جوان كروفورد” دور أم مطلقة وهو دور أهّلها للفوز لأول وآخر مرة بأوسكار أفضل ممثلة (1946).

وكما أميرة في “سوبر ماركت” فقد كلفت “ميلدريد بيرس” بابنتها كلفاً شديداً، وعنيت بتربيتها عناية متصلة. غير أنه في آخر الأمر، وحين تتقدم السن بالابنة، تفسد العلاقة بينها وبين الأم شيئاً فشيئاً، لأسباب لعل أهمها أن الأم كانت قبل أن تشق طريقها إلى الثراء امرأة عاملة من عامة الشعب.

البرود.. لماذا ؟

ومهما يكن من الأمر، فعادة يتوقع لفيلم مداره فكرة تدهور العلاقة بين الأم والابنة لما سلف ذكره من أسباب، أن نشاهده بشيء من الحرارة.

ولكن ما حدث بالنسبة لسوبر ماركت خان كان على العكس من ذلك تماماً.

فلقد شاهدناه، والحق يقال، بكثير من البرود.. لماذا ؟

لأن صاحبه آثر تغليب العقل على القلب، والرأي على العاطفة. وعلاوة على هذا، ارتكب خطأين ليس لأحد أن يغتفرهما في أي عمل جاد.

أولهما:  الاسراف في الجنوح إلى التعبير المباشر في عمل يعتمد بحكم بنائه الدرامي لا على الكلام، بل على التفاصيل كملامح الوجه والضوء والظلال.

ولعل خير مثل على هذا الجنوح، ذلك المشهد الذي نفاجأ فيه “برمزي” (ممدوح عبد العليم) الموسيقار المولع بالموسيقى الكلاسيكية، وهو يواجه الطبيب المليونير متمرداً، متحدياً صيانة لكرامته، قائلاً أنه ليس على استعداد أن يعمل لحسابة قواداً.

أما الخطأ الثاني: غير المغتفر فهو اختيار الوجه الجديد “مريم مخيون” لأداء دور الصغيرة.

فالأكيد حسب مسار الفيلم وتداعي أحداثه أن دورها فيه من ذلك النوع المحوري.

والأكيد الأكيد أن وجهها لا تنبعث منه الشرارة المتقدة التي تستولي على المشاعر، وتهز القلب والوجدان.

أخطاء بالجملة

فإذا ما انتقلنا إلى “السقوط” للمخرج “عادل الأعسر” لوجدنا أنفسنا أمام فيلم لا يتصور أن يكون صاحبه قد تعلم ألف باء السينما.

فالأخطاء فيه من ذلك النوع الذي يدخل في باب الإهمال الجسيم.

وأحد الأمثلة على ذلك، وما أكثرها، عدم محاولة مخرجه مع مصوره الحاج “محمد طاهر” التخلص من انعكاسات الضوء على الصورة في مشهد النيل حيث يستقل “حسن” (فاروق الفيشاوي) برفقة “توحيدة” (مديحة كامل) قارباً شراعياً لزوم الغرام.

فقد أخفت تلك الانعكاسات وجهي الحبيبين، حتى أننا طيلة المشهد ، لم نستطع أن نرى من ملامحهما شيئاً..

وثمة مثل ثان على هذا الإهمال في مشهد آخر تجري وقائعه داخل سنترال التيلفون حيث نرى “حسن” يشق بطن بطيخه، فإذا بها حمراء تسر الناظرين. وهو في المشهد لا يكتفي بذلك، بل يتذوقها سعيداً بحلاوتها وطعمها اللذيذ.

وهنا يشاء المخرج “لحسن” أن ينتقل إلى مكان آخر غير بعيد عن البطيخة التي استطعمها، ليعود به في اللقطة التالية إلى حيث توجد، فإذا بها بطيخة سليمة لم تمسسها سكين.

وذلك الغياب للوحدة في تتابع اللقطات، إنما يرجع إلى اهمال تسجيل كل الملاحظات بمحتويات المنظر وتكوين الصورة في كل لقطة، وفي كل موقف، حتى يبدو كل شيء في نهاية الأمر طبيعياً ومنساباً.

أما إذا انتقلنا – بعد هذه المهازل – إلى الموضوع فسنجده، حسب الظاهر،، يدور حول التصنت.

بعد السقوط

فبطلاه “حسن” و”توحيدة” يعملان في أحد السنترالات. وهما بحكم عملهما، يستطيعان التصنت على المكالمات ووفقاً لسيناريو الفيلم الذي كتبه “محمد الباسوس” وهو بدوره متخرج في معهد السينما، نراهما وهما ينحدران رويداً رويداً من اللهو باستعمال امكانيات التصنت المتاحة لهما إلى استغلالها، بفضل ما حصلا عليه من معلومات في الابتزاز.

إذن فنحن أمام موضوع جديد على السينما عندنا أراه متأثراً بفيلم “فرانسيس فورد كوبولا” المعروف تحت اسم “المحادثة”، والذي جرى تتويجه بجائزة مهرجان كان الكبرى لعام 1974.

ولكن سرعان ما يضيع هذا الموضوع الجديد في متاهات حكايات فرعية كأزمة المساكن والسوق السوداء والخيانة الزوجية وفساد القطاع العام، بحيث أصبح “السقوط” في نهاية الأمر فيلما يدور حول معان قديمة، منبتة الصلة بالتصنت بما يحمله في طياته من اعتداء أثيم على الحرمات.

أفلام الكيف

والآن إلى “الأمبراطور” و”شبكة الموت” وكلاهما من تلك الأفلام التي تدور وجوداً وعدماً حول تهريب المخدرات، وبالذات الهيروين.

وكلاهما يطرح الفكرة المستهلكة القائلة بأن السموم البيضاء إنما تتسرب إلى أرض الوطن العزيز لشيء سوى أن ثمة نفراً في قمة السلطة قد تورطوا مع عصابات تهريب دولية لليهود فيها نفوذ كبير.

وما أحب أن أتوقف كثيراً عند “الأمبراطور” أول فيلم “لطارق العريان” المتخرج في أحد معاهد السينما بالولايات المتحدة، لسببين.

أولهما لأنه لم يعرض بعد عرضاً عاماً في دور السينما.

وثانيهما لأنه يشبه الفيلم الأمريكي “الوجه ذو الندبة” لصاحبه المخرج “بريان دي بالما” في كثير من الوجوه.

وقد يكون من اللازم مشاهدة الفيلم الأخير مرة أخرى قبل القفز إلى اتهام “الأمبراطور” بأنه لا يعدو أن يكون صورة مشوهة من فيلم “دي بالما”.

يبقى “شبكة الموت” لصاحبه المخرج “نادر جلال” وفيه تلعب “نادية الجندي” او نجمة الجماهير كما يحلو لها أن تسمي نفسها في ملصقات أفلامها، دور امرأة دبّاحة للرجال، مستعينة في أدائها بكل أسلحتها القديمة، بما في ذلك تعرية كل ما سمحت الرقابة بتعريته في حدود حسن الآداب والنظام العام فضلاً عن هز البطن بكفاءة واقتدار معلمات الرقص الكبار أمام حشد رهيب من أخطر مهربي الهيروين، يلهو ويلعب في إحدى علب الليل بمدينة اثينا.

أقول اثينا لأن أهم أحداث الفيلم إنما تدور في عاصمة الأغريق حيث يقيم مهرب المخدرات “بسيوني” الشهير “بيلي” (فاروق الفيشاوي مرة أخرى).

وحين تذهب إليه “نور” (نادية الجندي) بتكليف من أجهزة الأمن المصرية على أعلى مستوى، التي رأت غرسها وسط عصابة المهرب المذكور كما “رأفت الهجان” وذلك بعد إذ تبين لتلك الأجهزة أنها كانت، وهي فتاة على علاقة حب به، لم تدم طويلاً.

أما لماذا وافقت “نور” على ركوب المخاطر في سبيل مصر، فسيناريو الفيلم – وهو من تأليف بشير الديك – يرجع ذلك إلى سببين متضاربين.

التخليط

الأول: التهديد والوعيد، فهي حين ترفض الإذعان إلى طلب الأجهزة التعاون معها، تُلفق لها تهم من بينها الاتجار في العملات المهربة، ومن ثم، يزجّ بها في السجن مع نساء احترفن كل ألوان الشذوذ والأجرام.

الثاني: الاقناع والترغيب، فهي حيث تعرف أن حبيبها القديم مهرب للسموم البيضاء، تلك السموم التي راحت ضحيتها ابنتها الوحيدة التي في عمر الزهور، تسرع بالموافقة على الانخراط في سلك المجاهدين والمجاهدات في سبيل تخليص الانسانية جمعاء من الأشرار تجار السموم البيضاء.

غير أن السيناريو لم يقل – وما أكثر اللغو الذي قاله- لماذا لم تلجأ تلك الأجهزة بداءة إلى أسلوب الإقناع المتحضر بعرض المهمة القومية الانسانية على نجمة الجماهير طالما أنه كان لديها الاستعداد نفسياً– بسبب ابنتها – للقبول، بدلاً من الابتداء معها بوسائل قهر غير مشروعة، وصلت في القسوة إلى حد الالقاء بها في غيابات السجون مع خساس النساء !!

قصة المدينتين

ومن عجب أن يجئ رسم شخصية المجرم “بيلي” مهلهلاً، مخلخلاً، وذلك رغم أن “بشير الديك” من أبرع كاتبي السيناريو في مصر، وعلى كُلٍ، فذلك التهلهل والتخلخل أمر متوقع بالنسبة لأية شخصية في أي من أفلام  نجمة الجماهير.

ومن هنا عدم الدهشة من أن نرى مجرماً من طراز “بيلي” لا يتورع عن ارتكاب أبشع الجرائم وأضلها سبيلاً، نراه وقد انهار في ثوان أمام جسد نجمة الجماهير، وهو يتثنى ويتلوى أمامه في أحد ملاهي اثينا بعد انقطاع في الحب الذي كان بينهما دام خمسة عشر عاماً أو يزيد.

ثم نراه مرة أخرى، وهو الذي سبق وأن قال أنه لابد أن يظل أسداً في عالم أشبه بالغابة وإلا افترسته الذئاب، نراه وقد تحول إلى حمل وديع يقطر رقة لمجرد سماعه أن الصبية المدمنة المنحرفة التي جرى اجهاضها بدل المرة ثلاث مرات، من لحمة ودمه أنجبتها له نجمة الجماهير..

وإذا به ما أن يصله، إثر علمه بأن له صبية، خبر إصابتها في حادث إصابة جسيمة، وهو خبر كاذب سلل إليه بقصد استدراجه من اثينا إلى كمين منصوب له في القاهرة، حتى يسرع بالسفر إلى مصر كي يكون بجوار فلذة كبده، وهو الذي لم يكن يعلم بوجودها قبل أيام !!

وفي الختام، فلن أعرض لتفاصيل أخرى ساذجة يطفحها “شبكة الموت” ذلك الفيلم الذي أراه عملاً سينمائياً غير مستحب، كل ما فيه لغو وثرثرة، وكل ما فيه أمره غريب على “بشير الديك” صاحب”سواق الأوتوبيس” و”الطوفان”..