نظرة طائرة علي مهرجان السينما بالقاهرة

بدأ مهرجان القاهرة السينمائي الثالث عشر بداية متواضعة كل التواضع، غريبة كل الغرابة.

فلقد استهل عروضه ليلة الافتتاح بدار سينما مترو لا بفيلم من أفلام الافتتاح الضخم مثل (الطريق إلى الهند) و( الأرنب روجرز)، وإنما بفيلم قصير أقرب إلى التسجيلي منه إلى الروائي، لم يمكث عرضه سوى دقائق معدودات وفوق هذا له من العمر خمسة وسبعون عاماً أو يزيد.

فما هو هذا الفيلم القصير، القديم الذي أجنح بمهرجان القاهرة إلى الخروج الأكيد عن التقاليد؟

إنه “سباق عربات الصغار في فينيس”، ذلك الفيلم الذي جرى تصويره في إحدى الضواحي “لوس انجلس”. وهو ثاني فيلم يمثله شارلي شابلن ، وأول فيلم يظهر فيه مرتدياً زي المتشرد الخالد.. السروال المنتفخ، السترة الضيقة، الحذاء الضخم المترهل، القبعة الصغيرة المستديرة، العصا الخيزران الملتوية، فضلاً عن الشارب الأسود القصير الوقور.

وسباق السيارت هذا، إنما كان سباقاً حقيقياً توجه اليه شارلي شابلن مع المصور “هنري لهرمان” استجابة منهما لأمر صادر إليهما من “ماك سينيت” صاحب “ستديو كيستون” باستغلال هذا الحدث وعمل فيلم سريع منه. يتيح للاستديو فرصة تنفيذ التزامه بتسليم دور العرض كل أسبوع ثلاثة أفلام من بكرة واحدة لا تزيد.

ومما يميز فيلم الافتتاح الذي صور السباق المشار إليه عن غيره من الأفلام ، هو أن أشهر شخصية سينمائية ابتدعتها خيال الانسان قد بدأت مشوارها به.

وبدأته واقعيا في سياق حقيقي، وليس في عالم مصنوع قوامه الايهام. فالمتشرد الخالد ذلك الكائن الذي من صنع الخيال، إنما يظهر بلحمه ودمه لأول مرة وسط جماهير حقيقية مقتحماً سباقها، مسجلاً ذلك الاقتحام على فيلم ، لينقل فور ذلك، وإلى الأبد، فيما بعده من أفلام إلى عالم الأطياف القائم على محض الخيال.

ولعلها المرة الأولي والوحيدة في تاريخ السينما التي نشاهد فيها كيف أصبح جمهور نظارة أثناء حدث عام شاهداً ومكتشفاً لميلاد أسطورة.

وغني عن البيان أن اختيار ذلك الفيلم الفريد كي يكون فيلم الافتتاح، إنما يرجع إلى جنوح المهرجان إلى تكريم شارلي شابلن بمناسبة احتفال العالم بميلاده قبل مائه عام. وبالتحديد في الخامس عشر ممن شهر ابريل لعام 1889.

ولم يكتف المهرجان بتكريم شابلن المتشرد الخالد، بل كرّم إلى جانبه ممثلنا ومخرجنا “نجيب الريحاني”، وكذلك كلاً من المخرج البولندي “كافالوروفيتش” صاحب فيلم “فرعون” الذي شارك فيه مخرجنا الراحل “شادي عبد السلام” بالديكور، والمخرجة التشيكوسلوفاكية “فيراشتيلوفا” والمخرج الفرنسي “رينيه كليمان” والمخرج الاسباني “جوزيه لويس بوراي” والمخرج الأمريكي “بوب رافلسن” الذي شارك في المهرجان بثلاثة من أفلامه آخرها “ساعي البريد يقرع الجرس دائماً مرتين” (1981) تمثيل “جاك نيكلسون” و “جيسكا لانج” و “انجيليكا هوستون” ابنة المخرج الراحل “جون هوستون”.

ومن ضمن ما ابتدعه المهرجان تكريم النجمتين الايطاليتين الساحرتين “ستيفانيا ساندرلي” و”كلاوديا كاردينالي”.


فضلاً عن إقامة عرض بانورمي للسينما الأفريقية ، وذلك بمناسبة انتخاب حسني مبارك رئيساً لمنظمة الوحدة الافريقية. وعرض للسينما التونسية منذ البداية وإلى هذه الساعة. وفوق كل هذا عرض للأفلام التي من ابداع نساء مخرجات.

وكما هو الحال في العامين السابقين، كان للسينما الأمريكية نصيب الأسد من الحضور والاقبال والاهتمام.

ولو فكرنا تفكيراً هادئاً في أفلام المهرجان ، لانتهى بنا الأمر إلى القول بأن أهمها إنما يعرض لمحنة المرأة من خلال العلاقات المشوهة المفروضة عليها باعتبارها سلعة تباع وتشترى وهنا، وقبل تناول هذه الظاهرة بالكلام، أرى من المناسب أن أذكر أن السينما العربية، إنما تأخذ بخناقها أزمة ابداع حادة، وآية ذلك أنها لم تستطع أن تتقدم لعروض المهرجان الرسمية بفيلم يرقى إلى المستوى اللائق بحضارة لها من العمر آلاف السنين.

واستثني من هذا الغم فيلماً واحداً إلا وهو “سمع.. هس” رائعة المخرج المصري الواعد “شريف عرفة”.

ومن عجب أنه في الوقت الذي لم تتميز فيه السينما العربية خارج مصر بأي فيلم، تميزت السينما الأفريقية الشابة بفيلمين أحدهما “الاختيار” للمخرج “ادريس اودراجو” الذي أثار ضجة كبرى بفيلمه الأخير “بابا” (1989)، وهو من مواطني بوركينا فاسو.

أما الفيلم الثاني “الضوء” فصاحبه المخرج المالي “سليمان سيس”.

ولعله أول فيلم من أفريقيا السوداء يكتب له أن يفوز بجائزة لجنة تحكيم مهرجان كان (1988). وقصته تدور حول الصراع بين القديم والجديد من خلال عرض يكاد يكون تسجيلياً للطقوس والتقاليد.

سينما الملايين

ومرة أخرى ، وقبل الكلام عن الأفلام التي تعرض لمحنة المرأة على مر العصور، قد يكون من المفيد أن نشير اشارة عابرة إلى خمسة أفلام ضخمة أنفق على انتاجها ملايين الدولارات وهي “فوق السطوح”، و”الأزرق العظيم” و”روزالين والأسود” و”الامريكي العجوز” و”ثورة”.

وأولها “فوق السطوح” للمخرج الامريكي “روبرت وايز” صاحب قصة “الحي الغربي” و”صوت الموسيقى”.

وموضوع الفيلم لا يعدو أن يكون تكراراً لقصة الحي الغربي المستوحاة من مأساة روميو وجولييت مع افتعال نهاية سعيدة.

Original Cinema Quad Poster – Movie Film Posters

ولو رأيت “فوق السطوح” دون أن تكون على علم بأن مبدعه مخرج مخضرم في طريقة إلى الخامسة والسبعين ، لذهب بك الظن إلى أن الفيلم من صنع شاب في مقبل العمر.فهو عمل سينمائي موسيقي صاخب، لاهث الايقاع ، يشع حيوية وانطلاقاً.

أما الفيلم “الأزرق العظيم” فقد تركز عليه كثير من الترقب واللهفة، لكثرة مديح الصحافة الفرنسية له ولافتتاح مهرجان كان (1988) به، وهو من اخراج “لوك بيسون”.

هذا وقد تركز ترقب واهتمام المولعين بالسينما الفرنسية لا على “احذر يمينك” آخر فيلم يبدعه المخرج الرائد المجدد “جا لوك جودار” وإنما على “روزالين والأسود” لصاحبه “جان جاك بينيكس” ذلك المخرج الشاب الذي بهر العالم بجرأة تناولة للموضوعات، وحسه السينمائي العالي المستوى.

ولقد جاء فيلمه الرابع “روزالين” مخيباً لآمال المترقبين المهتمين لخلوه من أية مشاهد جنسية فاتحة للشهية، هذا فضلاً عن أن موضوعه لا يتصف بالجدة والابتكار.

ومع ذلك فهو يعتبر واحداً من أجمل أفلام المهرجان لوصول حرفة السينما فيه إلى ذروة عالية من البراعة وبخاصة في مشاهد “روزالين” (ايزابيل باسكو) وهي داخل القفص تروض الأسود.

رحلة غريبة

فاذا ما انتقلنا إلى “الأمريكي العجوز” فسنجد أنفسنا أمام فيلم طموح مستوحى من قصة الأديب المكسيكي المعاصر “كارلوس فوينتس” التي بنفس الاسم.

والامريكي العجوز هو “افيروز بيرس” الأديب والصحفي المعروف الذي امتطى حصاناً، وسافر به إلى المكسيك أثناء ثورة “بانكوفيلا” (1914) حيث اختفى دون أن يترك أثراً.

و “فوينتس” في روايته لمأساة ذلك الأديب الذي ذهب إلى المكسيك ولم يعد، إنما يعرض لها من خلال تخيل لحالته النفسية، بالقيام برحلة داخل عقله الذي شك في جدوى كل ما كتب وكل ما آمن به، حتى انتهى به الأمر إلى الظن بأنه قد خان رسالته في الحياة.

الأجل المحتوم

 فكان أن سافر وحيداً إلى المكسيك التي كانت وقتذاك تموج بثورة رأى فيها انعكاساً لما كان يعتمل داخله من شد وجذب واضطراب.

وهناك في صحبة عانس امريكية “جين فوندا” وثوري شاب “جيمس سميتس” يسترد الثقة بنفسه، يجد لحياته معنى جديداً، وذلك إلى أن يجيئه الموت برصاصات تنطلق من غدارة هذا الشاب.

ولقد لعب “جريجوري بك” (73سنة) دور هذا الأديب الصفحي المتأزم نفسياً، الباحث عن الذات.

ومن مزايا الفيلم تصويره في أماكن أحداث الثورة، أي على أرض المكسيك، بمجموعات حاشدة، من المكسيكيين المقيمين جنوب نهر الريوجراند، مما أسبغ عليه طابعاً مكسيكياً أصيلاً، نجده مفتقداً في الأفلام الأمريكية الأخرى التي عرضت لثورة المكسيك مثل “يحيا زاباتا”.

يبقي فيلم “ثورة” وهو عن الثورة الامريكية وأحداثها الجسام قبل مائتي عام. ومخرجه هو “هيو هدسون” الذي سبق أن رأينا له “جرى ستوك” أحدث أفلام طرزان و”عربات النار” الفائز بجائزة أوسكار أحسن فيلم (1981).

ولقد اختير لأداء الأدوار الرئيسية فيه نجوم لامعة في مقدمتها “آل باشينو” و”دونالد سوذرلاند” و”ناستسيا كينسكي” و”جوان بلاورايت”، زوجه الفنان الراحل “لورانس أوليفييه”.

كما حشد لمشاهد المظاهرات والمعارك الحربية الزاخر بها مئات الكومبارس، مما أسبغ على تلك المشاهد واقعية ومصداقية آخاذة.

ومع ذلك فهو يعتبر كارثة فنية من البداية وحتى النهاية ولعل ضعف السيناريو هو الذي أدى إلى عدم الارتقاء به إلى المستوى اللائق بمخرجه وممثليه.

والآن إلى أهم الأفلام التي عرضت للعلاقات التي تفسد بين المرأة والمجتمع.. أعود..

هي ثلاثة أفلام “المتهمة” و”العلاقات الخطرة” و”فضيحة”.

امتحان قاس

وأولها يعرض لحادث اغتصاب فتاة عاملة في مكان عام، وعدم أخذ القضاء شهادتها مأخذ الجد.

ومن هنا اضطرار المحققة “كيللي ماكجيليس” إلى اسقاط تهمة الاغتصاب، وبدلاً منها توجيه تهمة تهديد الأرواح والأموال إلى الشبان الثلاثة المغتصبين.

وهذا ما أغضب الفتاة المغتصبة “جودي فوستر”، وذلك لأنها كانت تتوقع أن تنتصف لها العدالة إذا ما حكت مأساتها تفصيلاً أمام المحكمة، وكانت ترى في ذلك خير تعويض لها مما وقع على جسدها من اعتداء آثم مهين.

ولم يكن أمام المحققة، حتى تستطيع اعادة المحاكمة استجابة لرغبة المجني عليها التي بدأت تتعاطف معها، سوى حل وحيد، هو توجيه الاتهام إلى رواد المكان العام (وهو بار) الذين شاهدوا الاغتصاب، وكأنهم متفرجون يستمتعون باستعراض حي مثير.

دغل الجنس 

أما “العلاقات الخطرة” فهو عندي أكثر الأفلام الامريكية جرأة وهو مستوحى من قصة الأديب الفرنسي “كودرلو دي لاكلو” (1782)، تلك القصة التي أحدثت ضجة كبيرة عند نشرها قبل قيام الثورة الفرنسية بقليل.

  ومما يقال في حقها أن الملكة “ماري أنطوانيت” كانت تحتفظ بنسخة منها سراً.

والفيلم الذي أبدعه المخرج الانجليزي “ستيفن فريزر” ليس مأخوذاً مباشرة عن تلك القصة، وإنما من مسرحية مستوحاة منها ألفها الأديب الانجليزي المعاصر “كريستوفر هامبتون”.

وبطولة الفيلم يتقاسمها متآمران “الماركيزة دي ميرتي” (جين كلوز) أما المتآمر الآخر الكونت دي فالمونت (جون مالكوفيتش).

والفيلم يبدأ بهما يتآمران.

فهي تطلب إليه باسم حبهما القديم أن يوقع الصغيرة العذراء (سيسيل دي فولانج) في شباك الحب، لا لسبب سوى أنها في سبيلها إلى الزواج من الشاب الوجيه “المسيو دي باستيد” أحد عشاق الماركيزة المغيظة من أنه على وشك الافلات من قبضتها التي لا تلين. ولكن “فالمون ” أكثر طموحاً.

وسرعان ما يتفق الاثنان – الماركيزة والكونت – على لعبة مزدوجة جوهرها التآمر والخيانة والاغراء.

فضيحة القرن

يبقي فيلم “فضيحة” الذي يعرض لعلاقات الغانية “كريستين كيللر” مع “بروفومو” وزير حربية انجلترا في حكومة المحافظين تحت رئاسة “هارولد ماكميلان” (57/1964) والملحق البحري السوفييتي “ايفانوف” وغيرهما من الرجال.

وكما هو معروف انتهت تلك العلاقات الآثمة باستقالة الوزير، وبسقوط حكومة المحافظين، وبانتحار “ستيفن وارد” (جون هيرت) رسول الغرام بين الغانية والوزير، وبسجن “كيللر” عدة أعوام.

ولو خيرت لاخترت “فضيحة” واحداً من أحسن الأفلام التي تناولت واقعة من واقعات التاريخ المعاصر. فهو آية في الصدق والاتقان، يروع بدقة البحث والاستقصاء.

وعرضه للفضيحة وتصاعد أحداثها، إنما يتصف بالفهم الواعي لمآسي الغانيات، باعتبارهن ضحايا علاقات مشوهة تقوم على استبداد القوي بالضعيف.

«باريس.. عناق بين القديم والجديد»

لباريس “روح” تمتاز بها عن كل مدن العالم، فهي إذا نسبت إلى بعض مدن العالم القديمة مثل القاهرة والقدس ودمشق واسطنبول وروما، كانت طفلة بنت يوم، بل بنت ساعة، غير أنها بين مدن الدول المطلة على المحيط الفاصل بين أوربا والعالم الجديد من أقدمها، وهي تباهي كل المباهاة بقدمها، وبما فيها من آثار تاريخية تعود إلى الثورة الفرنسية وما قبلها وبعدها.

وهي تفاخر بلقبها “مدينة النور”

ففيها من المعاهد العلمية والفنية والمتاحف وبيوت الأزياء ما ليس في سواها.

وقد أنجبت نفراً من خيرة الفلاسفة والعلماء والفنانين التشكيليين والموسيقيين والسينمائيين والأدباء.

وهي صبية بمبانيها، شديدة الحرص على أحجارها القديمة الكريمة حتى أنها تفضل فتح أبوابها للغزاة مستسلمة للعار على أن يصيب حجر من تلك الاحجار أي دمار.

ولكن ثمة مفارقة في هذا الخصوص تلفت الأنظار وتتطلب شيئاً من التأمل والتفكير

فرغم كل هذا الشغف بالأحجار والحرص عليها فإنه لم يبق من مباني باريس ما قبل الثورة إلا أقل القليل.

الفتنة الباقية

فعلى الضفة اليسرى لنهر السين، لم يعصم من الضياع سوى مبنى الانفاليد، حيث مستقر “بونابرت” الأخير، والبانتيون حيث تحفظ رفات العظماء أمثال فولتير وروسو، وقصر اللوكسمبورج الذي شُيّد في عصر لويس الثالث عشر كي تقيم فيه أمه الملكة “ماريا دي ميديش” والحي اللاتيني يحيط بأزقته الضيقة الملتوية أكثر جامعات فرنسا عراقة “السوربون”.

أما “الايل ديلاسيتي” تلك الجزيرة التي انبعثت منها باريس، كما خرجت من أمواج البحر فينوس ربّة الجمال، فليس فيها من مباني العهد القديم سوى كاتدرائية نوتردام التي جرى تشييهدها على امتداد قرنين إلا اثنى عشر عاماً.

وعلى بعد خطوات حيث مبنى وزارة العدل، توجد حبيسة فنائه جوهرة باريس “مصلى السانت شابل” الصغير بنوافذه العالية الثمانية المرصعة بمئات التصاوير المنمنمة المستوحاة من قصص التوراه والأناجيل، والمرسومة بقطع زجاج صغيرة من جميع الألوان تسر الناظرين.

وقلعة “الكونسيير جري” (1298 / 1353) ذلك السجن الرهيب الكئيب الذي كان من بين نزلائه أرملة لويس السادس عشر “ماري انطوانيت” روبسبيير، شارلوت كوردي قاتلة “مارا”، مدام “دي باري” و “دانتون”.

واحد منهم لم يكتب لعنقه نجاة من القطع بالمقصلة التي اشتهرت باسم مخترعها “جيلوتين”.

فاذا ما انتقلنا إلى باريس الضفة اليمنى، لما وجدنا من المباني العتيقة التي يرتد عمرها إلى ما قبل الثورة شيئا، باستثناء ميدان “ڨوج” بمبانيه الأنيقة المشيدة بأمر من هنري الرابع (5/1612)، ومتحف اللوڨر، يقف على بعد خطوات منه تمثال صغير ذهبي اللون لحصان تمتطيه “جان دارك” يزدان به ميدان الأهرمات المجاور لحدائق التويليري بالمواجهة للمتحف الشهير.

الهدم.. لماذا؟

والذي أعمل معول الهدم في مباني تلك الضفة هو “لويس نابليون” الذي انقلب على الجمهورية ونصب نفسه امبراطوراً (1852).

ففي عصره الذي طال إلى ثمانية عشر عاماً، ولم ينته إلا بهزيمة منكرة أدت إلى سقوط باريس في أيدي الغزاة الألمان (1870)، في ذلك العصر الذي غالى الشاعر الفرنسي “ڨيكتور هيجو” في ذمّ امبراطوره المغتصب للسلطة، وهجائه هجاءً لاذعاً لم يسمع له مثيل، تغيرت معالم باريس، اختفى ستون في المائة من مباني ضفتها اليمنى، لتحل محله شوارع فسيحة، ترتفع على جانبيها أشجار باسقات، فروعها تعانق السماء. كل ذلك للحيلولة بين الشعب وبين تقليد ما حدث في أعوام 1789 و1830 و 1848، بالثورة على النظام الحاكم، وحمايتها من قوات الأمن بإقامة المتاريس.

انتصار الجديد

إذن فباريس المعاصرة بأبهة مبانيها ذات الطابع الكلاسيكي (البلدية والأوبرا)، وقصورها الشامخة (شايو) ومتاحفها الغنية بروائع الفن (بومبيدو، اورسي) وشوارعها الخضراء لا يُرى لامتدادها نهاية، وساحاتها المزدانة بالنافورات والأعمدة وأقواس النصر، ورياضها وحدائقها الغناء تنفح بالعطر الهواء، وبرجها الحديدي “ايڨيل” يشق الفضاء، باريس هذه إنما هي بنت الثورة الفرنسية، ليس ليها من القديم السابق على تلك الثورة إلا القليل وفيها من الجديد اللاحق على أحداثها الشيء الكثير.

إنها بحق باريس “هاوسمان” نسبة إلى البارون المهندس “جورج اوجين هاوسمان” الذي عمل على هدمها وإعادة بنائها تنفيذاً منه للأمر الصادر إليه بذلك من الامبراطور المغتصب نابليون الثالث (1853).

ومن المفارقات أن أقدم أثر في باريس ليس فرنسياً، ولا حتى أوربياً، بل مصرياً.

إنه مسلة رمسيس الثاني أحد الفراعين، انتقلت من الأقصر إلى باريس إبان عصر محمد على الكبير، بفضل “شامبليون” ذلك العالم الفرنسي النابغة الذي أعاد الروح إلى لغة قدماء المصريين بفك طلاسم حجر رشيد، حيث انتصبت منذ مائة وخمسين عاماً أو يزيد (1836) في ميدان الكونكورد (الوئام). بديلاً للجيلوتين تنحني له رءوس أعداء وأصدقاء الثورة على حدٍ سواء كي يجري قطعها بالمئات تحت قبة السماء.

Palais du Louvre

هرم الانفاق

والحديث عن مسلة رمسيس التي يتحلى بها الكونكورد، ذلك الميدان الذي يعتبر بحق واحد من أجمل ميادين باريس، بل قل العالم، لابد وأن يسحبنا إلى الوقوف أمام الهرم الزجاجي الذي أقامه المهندس المعماري الأمريكي “بي بي” المنحدر من أصل صيني هو ونفر من المعماريين الأفذاذ، وسط فناء نابليون على بعد عشرات الأمتار من تلك المسلة، وعلي بعد خطوات معدودات من متحف اللوڨر، ذلك أنه لم يجر تشييده أصلاً إلا ليكون مدخلاً لهذا المتحف العتيق الذي وصل عدد مقتنياته إلى أربعمائة ألف من بينها الكاتب المصري ولوحة موناليزا (الجوكندا) التي نهبها بونابرت أثناء حملته الايطالية.

هذا وقد أفتتحه الرئيس فرانسوا ميتران بمناسبة الاحتفال بمرور مائتي عام على ثورة الرابع عشر من يولية.

لو ألقينا نظرة طائرة مهرولة على هذا الهرم الصغير الشفاف الذي يغلب عليه طابع التجريد لاعتبرناه عملاً متطفلاً على الفناء الذي يحيط به مبنى اللوڨر من ثلاث جهات، مقتحماً حرمة مكان له طابع كلاسيكي ذو جلال.

عصر الفضاء

ولكن لوتأنينا في نظرتنا، لبدا لنا وكأنه سفينة فضاء شدت إلى الأرض، ولكنها على وشك الرحيل عائدة من حيث أتت، بعد أن رأى روادها متاع المتحف وقرّوا عينا.

وليس من شك أنه هرم قوامه مزيج من العلم والفن وفقا لأقصى ما بلغاه في الربع الرابع من القرن العشرين.

وهو بوصفه كذلك إنما يتماشى مع ميل الباريسيين إلى التعاصر، وولعهم الشديد بكلمة التعايش، يقصدون بها أن يجاور الجديد القديم في تواصل وانسجام.

سقطة

ولكن كل هذا المديح، لا يعني أنه هرم بلا مشاكل فلقد شاء مبدعوه أن يحيطوه بثلاثة أهرامات زجاجية صغيرة.

وكان هدفهم من ذلك أن يغمر ضوء النهار الطبيعي الممرات التي تحت الأرض، تلك الممرات التي تصل الهرم الرئيسي بأجنحة مباني اللوڨر القديمة حيث يوجد عزيز المقتنيات التي جرى جمعها من جيمع أنحاء العالم على امتداد قرنين من عمر الزمان.

ورغم نبل هذا الهدف، فإنه، والحق يقال، ليس ثمة مبرر لهذه الأهرامات الثلاثة، لا سيما وأن وجودها إنما يضعف ذلك الاحساس الذي أسلفنا ذكره، أثيرية الهرم الرئيسي، وما يتفرع عن ذلك من تخيلنا له أشبه بسفينة فضاء أسطورية حطت على الأرض امام اكثر مااحف فرنسا روعة وجمالا.

فقدان الاتجاه

هذه واحدة، أما الأخرى فهي مشكلة يلزم بموجبها أن نعود إلى الصلة بين طراز هذا الهرم وبين الطراز المعماري الضخم السائد حوله من جميع الجهات.

من المعروف أن اللوڨر يقع عند نهاية طريق النصر من الجهة الشرقية، ذلك الطريق الذي يعتبر في نظر البعض أعظم محور مدائني في العالم، إذ يمتد في خط عمودي من قوس نصر الكاروسيل المشيّد تكريماً لانتصارات بونابرت (6/1808)، مروراً بحدائق التوليري، فميدان الكونكورد حيث مسلة الأقصر ثم شارع الشانزليزيه، فميدان شارل ديجول (اتوال) حيث (قوس النصر)، ومنه إلى وزارة الدفاع.

وكما سبق أن ذكرنا فماني اللوڨر تحيط بفناء نابليون من جهات ثلاث أما جهته الرابعة فمنفتحة على هذا المحور العظيم.

ولكن ذلك الفناء ليس واقعاً على خط عمودي مستقيم مع المحور المذكور، إنه خارجه ببضع درجات.

وهكذا، فعندما يقف المرء في منتصف فناء اللوڨر، فإنه لا يرى المحور العظيم من منتصفه مستقيماً وإنما يراه منكسراً قليلاً.

ومن الغريب أن بناة الهرم قد وضعوه في منتصف فناء نابليون تماماً، بحيث يحيط به جناحا اللوڨر بشكل يتسم بالتناسق الكامل.

وهو ما يعني أن الهرم قائم على محور اللوڨر وليس على محور طريق النصر.

وهنا الخطأ

فلقد كان من الأسلم أن يوضع الهرم على محور ذلك الطريق، بحيث يكون امتداداً مستقيماً لقوس النصر.

طريق الندامة

وهذا مؤداه بحكم اللزوم إلا يكون موضعة في منتصف فناء نابليون على بعد متساو من جناحي اللوڨر.

والمشكلة الآن هي أن الهرم بوضعه الحالي، إنما يرنو بشكل أو بآخر إلى أن يكون انعكاساً مكملًا للنظام الكلاسيكي الذي هو الطابع المميز لمباني اللوڨر الأكثر منه قدماً.

ولكن الهرم لا يشكّل جزءًا من هذا النظام . إنه على العكس يمثل النقيض له، المتمرد عليه.

وهو بوصفه كذلك يعتبر في حقيقة الأمر جزءًا من صرح طريق النصر الأكثر شمولاً وشموخاً، بأقواسه وحدائقه ونافوراته، وتماثيله، ومسلته المصرية تبرز من بين كل هذا الجمال المتداخل المتواصل خطاً واحداً صاعداً دالاً على إرادة الانتصار.

والسؤال المحير بعد ذلك، هو كيف غاب كل هذا عن بال بناة الأهرام أمام المتحف العتيق ؟

صلاح أبوسيف …صعود الي الواقعية

القاهرة عاصمة السينما في الوطن العربي ما في ذلك شك.

وهي ما كان يمكن أن تصبح تلك العاصمة التي تتطلع إلى أفلامها الأبصار من المحيط إلى الخليج، لولا كوكبة من رواد أوائل لمع من بينها اسم “صلاح أبو سيف” الفائز بجائزة الدولة التقديرية.
ولا غرابة في هذا الانفراد بالتألق والتميز.

فحياته منذ البداية تدور حول السينما وجوداً وعدماً.

فهو ما أن اكتشف دنيا الأطياف حتى فُتن بها فإذا به يشاهد الأفلام بانتظام منذ أن كان صبياً.

يؤلّفها منذ أن كان شاباً فتياً.

يخرجها منذ خمسة وأربعين عاماً ويواصل إبداعها، رغم أنه بلغ من الكبر عتياً.

ولقد استطاع الفنان صلاح أبو سيف، بفضل كل هذا الحب والمثابرة، علاوة على موهبة الإبداع السينمائي، أن يرسم بالكاميرا قطاعات حية آخاذة من المجتمع المصري إبان النصف الأول من القرن العشرين، مجتمع الوحش وريا وسكينة والفتوة وغير ذلك من أفلام أمتعت الجماهير ولا تزال.

وأن يترجم قاهرة نجيب محفوظ وأمين يوسف غراب ويوسف السباعي إلى لغة السينما في بداية ونهاية وفضيحة في القاهرة 30 وشباب امراة والسقا مات.

وهو بهذا المحصول السينمائي الوفير يكون قد لعب دوراً كبيراً حاسماً في ولادة السينما المصرية من جديد.

في الانتقال بها من مرحلة الطفولة حيث كانت بدائية تحبو إلى مرحلة أكثر نضجاً واكتمالاً، ترنو فيها إلى واقعية بلا شطآن.

ولد قبل خمسة وسبعين عاماً إلا قليلاً. وبالتحديد في العاشر من مارس لعام 1915.

والعجيب أن مولده لم يكن في بيت أبيه عمدة قرية “الحومة” من أعمال مركز الواسطي، ذلك العمدة الثري المتعدد الزوجات.

وإنما في بيت أمه “البندرية” التي كانت قد غادرت ريف الصعيد ثائرة على حياة حريم قوامها الاستسلام للذل والهوان، مؤثرة العودة إلى حارة “قساوات” ببولاق، ذلك الحي الشعبي الذي لا يفصله عن الزمالك حي أبناء الذوات سوى شريط ضيق من ماء.

وأعجب العجب أن أمه هي التي أسمته “صلاح الدين” وبهذه البشرى أرسلت برقية إلى زوجها العمدة الذي لم يبادر بشدّ الرحال إلى القاهرة مفضلاً ألا يرى كتلة اللحم والدم التي تدعى ابنه حتى اليوم السابع.

مؤجلاً الاستمتاع بسماع وعوعة ابن البندرية وصياحه، تلقفه بين ذراعيه وتقبيل وجنتيه إلى ذلك اليوم، يوم “سبوع ” الصغير.

وليس من شك أنه ما كان له أن يبصر يومئذ الصلة التي بين هذا المولود الجديد، الذي لا يعرف من أسراره سوى أنه صبي، وبين عالم الأطياف.

ففي ذلك الزمن الموغل في القدم لم يكن للسينما من العمر سوى عشرين عاماً.

ولم يكن في مصر صناعة تنتج أفلاماً.

وعلى كُلٍ فلو كان لعمدة “الحومة” أن يرى تلك الكتلة الصغيرة التي تقطر حياة بعد خمسة وسبعين عاماً تفوز بجائزة الدولة التقديرية للدور الذي لعبته في النهوض بالسينما المصرية، لظن أن ما يمر أمام عينيه إن هو إلا أضغاث أحلام.

ولو كان له– وهو في غمرة السعادة بذلك التكريم أن يشاهد أحد الأفلام التي من أجلها منح وليده تلك الجائزة المشتهاة، وليكن “الزوجة الثانية” لهاله سخرية الفيلم اللاذعة بالعمدة ونظام تعدد الزوجات ولأنقلب فرحه إلى غم وتحولت بهجته إلى رعشة وآلام.

وبعد ذلك بعشرة أعوام، أثناء تسكع الصبي “صلاح” في شوارع القاهرة القريبة من حيه بولاق هرباً من دراسة إضافية أجبر عليها في المساء استرعت انتباهه صور معلقة على واجهة مبنى بشارع إبراهيم باشا (الجمهورية الآن) وكان أن سمع صوتاً يغريه بالدخول في تجربة تدفع به إلى المجهول.

وها هو ذا يشتري تذكرة بقرش صاغ من حر مصروف يده الذي لم يكن يتجاوز خمسة مليمات في اليوم الواحد.

وها هو ذا جالس في الصف الأول من قاعة سينما ايديال، وعلى شاشة بيضاء أمامه يتحرك رجل صغير مرتدياً قبعة طاسة وحذاءً كبيراً مرتخياً وسروالاً منفوخاً بالياً محاكياً في سيره مشية البطة.

وهكذا التقى “صلاح” لأول مرة بالسينما في شخص “شارلي شابلن” المتشرد الخالد.
وبفضل هذا اللقاء السعيد بدأ مشوار “صلاح أبو سيف” مع الفن السابع، ذلك المشوار الذي كُتب له أن يستمر قرابة أربعة وستين عاماً من عمر الزمان.

واقعية متميزة

وفي الحق فإن طريقه إلى الاحتراف السينمائي صعوداً إلى الإخراج والتميّز فيه بالواقعية لم يكن من تلك الطرق الملكية المفروشة بالزهور والرياحين.

كان على “صلاح” أن يخوض معارك كثيرة قبل أن ينجح في الإنفراد بإخراج أول فيلم روائي طويل “دائماً في قلبي” (1946).

وكان عليه أن يصبر ويثابر قرابة خمسة أعوام بعد التاريخ الأخير حتى يستطيع أن ينطلق بإبداعه من كهوف السينما التقليدية المظلمة إلى رحاب الواقعية بفيلم لك يوم ياظالم (1951).

مرة أخرى لن تكون المرة الأخيرة يذهب به قدره إلى لقاء آخر سعيد… وأين؟

في المحلة الكبرى بعيداً عن القاهرة التي كانت تتخلق عاصمة للسينما العربية وذلك بدءاً من منتصف العشرينات.

وهو في هذه المرة لا يلتقي بطيف من نور داخل قاعة مغلقة بالظلام وإنما يلتقي بشخص المخرج “نيازي مصطفى” الذي كان قد جاء إلى قلعة الصناعة المصرية في المحلة ابتغاء تصوير فيلم يسجل أمجاد شركات بنك مصر.

ومهما يكن من أمر، فما أن التقيا هو و”نيازي” وتبادلا أطراف الحديث، حتى اكتشف الأخير أنه إنما يواجه شاباً مولعاً بالسينما وقارئاً ممتازاً لكل ما كتب عنها في لغة الضاد.

نهاية مرحلة الهواية

وما أن عاد نيازي– ذلك المخرج الذي رحل عن دنيانا مقتولاً قبل ثلاثة أعوام– إلى القاهرة حتى أطلق في ردهات شركة مصر للتمثيل والسينما نبأ وجود شاب يعمل في شركة الغزل بالمحلة وله بالسينما شغف شديد ورغبة في أن يبدأ حياته من جديد صانعاً للأفلام وكما في الأساطير والأحلام نجح “نيازي” في اقناع المسئولين بتلك الشركة بنقل الشاب المحلاوي المولع بالسينما إلى الاستوديو بالقاهرة حيث استهل حياته السينمائية بالعمل مساعداً بقسم التوليف “المونتاج” (1936).

وتعتبر هذه البداية نهاية مرحلة الهواية في حياة “صلاح”.

فبدءًا من ذلك التاريخ، أي منذ خمسين عاماً أو يزيد و”صلاح” يحترف السينما لا يعيش إلا بها ولها حتى يومنا هذا .

والآن إلى لقائه السعيد الثالث على عكس لقاءيه مع “شابلن” و”نيازي” كان لقاؤه مع “كمال سليم” وليد تفكير وتدبير… كيف؟

لأمر في نفس الأقدار سمع “صلاح” اسم “كمال” يتردد كثيراً في أروقة استديو مصر بوصفه شخصاً عنيداً ينشد الكمال في كل شيء، لا يرتضي به بديلاً.

واذا به يجد نفسه مشوقاً أشد الشوق إلى الالتقاء به ولا يستطيع على ذلك صبراً.

ولما كان “كمال” قد ترك الأستديو في لحظة غضب مستقيلاً، وكان معروفاً عنه أنه يسهر في مقهى رجينا بشارع عماد الدين “محمد فريد الآن” ملتقى الفنانين الشبان فقد توجه صلاح إلى ذلك المقهى في إحدى الأمسيات مبيتاً النية على التعرف بكمال وما أن التقى الإثنان حتى نشأت بينهما صداقة زادت قوة وتوثقاً على مر الأيام.

وكان من بين ثمارها أن اتصلت الأسباب الوثيقة بين “صلاح” وبين جماعة من المثقفين شغفت بالأدب والفن وأتخذت من الماركسية هادياً ومرشداً.

كان من بين نجوم تلك الجماعة الفريدة الرسام “رمسيس يونان” والأديب “ألبير قوصيري” والسينمائي “كمال سليم” بطبيعة الحال.

ولم يقف الأمر بين الرجلين كمال وصلاح عند هذه الصداقة وهذا الانتماء وإنما نشأت بينهما صلات عمل في مجال السينما ذلك المجال المحبب لقلب صلاح والذي هو عنده غاية الغايات.

وغني عن البيان أن خير ما أثمرته هذه الصلات هو فيلم العزيمة الذي أخرجه كمال وشارك صلاح فيه بالتوليف.

وأخص ما يمتاز به العزيمة هو جنوحه إلى الواقعية.

خطوة في طريق الواقعية

فلأول مرة تذهب الكاميرا إلى حارة ولأول مرة تلعب الحارة دوراً هاماً ذا دلالة في رسم شخصيات الفيلم وفهمها.

وهذا الانتقال من جانب صانعي العزيمة إلى الحارة على وجه يخدم المعالجة السينمائية لم يكن بالأمر السهل اليسير.

فالرقابة بشقيها الرسمي وغير الرسمي كانت تحمل العداء الشديد لأية انطلاقة من الصالونات والبارات والكاباريهات وما إلى ذلك من أماكن الحياة اللذيذة إلى أزقة وحواري الأحياء الشعبية حيث تقيم الغالبية الغالبة المعذبة بالفقر والشقاء.

ومع ذلك فالعزيمة لا يعدو أن يكون خطوة متواضعة إلى أمام في طريق الواقعية.. لماذا؟

لأن مبدعيه لم يذهبوا إلى الحياة المصرية ليعرضوها كما هي دون تزويق وتجميل.

وإنما اكتفوا بحارة مشيدة داخل استديو حسب تصور كمال سليم لها وهو تصور منبت الصلة بالواقع وآية ذلك أنه لم يجد حلاً لمشكلة البطل المتبطل في الفيلم حسين صدقي إلا في تبني أحد الباشاوات أولاد الأكابر لقضيته، وانتهاء ذلك التبني الزائف إلى تسكين البطل في وظيفة محترمة أعادت إليه الثقة والاعتبار.

ومهما يكن من شيء فلقد استفاد صلاح من تلك الخطوة التي بفضلها انكشف له من أسرار الفن السابع الكثير.

غير أنه كان لابد له من نوافذ أخرى يطل منها على هذا الفن الوليد الشديد التعقيد.

وها هو ذا في مدينة النور لأول مرة قبل نشوب الحرب العالمية الثانية بقليل.

إنه بين مصدق ومكذب، هل هو في حلم أم هو في علم؟

وما أن يفيق من هول الصدمة الثقافية حتى يقبل بقلب مفتوح على الدراسة وعلى مشاهدة الأفلام.

ويتأثر كثيراً بتيار الواقعية الناقدة الذي كان متسيداً السينما الفرنسية في تلك الأيام الكئيبة العصيبة وهو تيار يغلب عليه اليأس اليائس.

وبالنظر إلى اندلاع نيران الحرب فقد أسرع “صلاح” بمغادرة باريس عائداً إلى استديو مصر حيث لم تتح له فرصة العمل كمخرج إلا بعد ستة أعوام.

ومن عبث الأقدار أن يكون أول فيلم يخرجه صلاح وهو “دايماً في قلبي” مقتبساً من قصة فيلم هوليوودي “جسر ووترلو” بطولة ففيان لي نجمة “ذهب مع الريح”.

ولو استمر صلاح في طريق صنع أفلام مقتبسة على هذا الوجه القبيح لما بقى في ذاكرتنا حياً ولكان الآن نسياً منسياً وهنا ولأمر ما في علم الغيب التقى صلاح بنجيب محفوظ في منتصف الأربعينات وإذا به يشجع أديبنا على العمل معه في السينما يوهمه بأن كتابة السيناريو لا تختلف عن كتابة القصة في كثير أو قليل.
وتبدأ بينهما علاقة عمل سينمائية تستمر خمسة عشر عاماً تثمر أفلاماً متصلة بعصرها مثل “ريا وسكينة” “الوحش” و”الفتوة” أفلاماً أكثر وعياً ونضجاً من العزيمة، وما أنتج بعده من أعمال سينمائية معظمها خليق ألا يحفل به ولا يلتفت إليه وهكذا، وبفضل لقاء آخر سعيد ربح الفن السابع موهبتين.

نجيب محفوظ كاتباً للسيناريو وللقصة السينمائية وصلاح أبو سيف مخرجاً رائداً ثابت الأقدام.