لعلي لست بعيداً عن الصواب إذا ما خلصت إلى القول بأن موهبة الإخراج من أكثر المواهب الفنية ندرة.
ومن هنا قلة الأعمال السينمائية التي كتب لها البقاء بوصفها غذاء للروح من بين الآلاف المؤلفة من الأفلام التي جرى إنتاجها على امتداد عمر الفن السابع، وهو عمر مديد يكاد يقارب المائة عام.
ومرة أخرى، لعلي لست بعيداً عن الصواب إذا ما ذهبت من فرط حماسي لفيلمين أبدعهما “هاني لاشين” و”منيرراضي” إلى حد القول بأنهما مخرجان يتحليان بموهبة تؤهلهما للإسهام بدور كبير في النهوض بصناعة الأفلام.
والفيلمان هما “الأراجوز” و”أيام الغضب”.
وأول ما يلاحظ على أراجوز “لاشين” هو وقوع اختيار صاحبه على “عمر الشريف” وذلك لأداء دور محرك الأراجوز ابن الشعب.
وليس من شك أنه اختيار جرئ وموفق في آن واحد.
فلقد اعتدنا “عمر الشريف” في أدوار يمثل فيها شخصيات محترمة طابعها المميز حسن القوام والهندام، عهدناه ضابط شرطة في “بداية ونهاية”، شريفاً عربياً في “لورانس”، طبيباً ضائعاً في “الدكتور جيفاجو” وجيهاً متواجهاً في “الرولزس رويس الأصفر”، عاشقاً إحدى ملكات الليل في “فتاة مرحة”، سائراً ثائراً في “شي” وهكذا.. وهكذا، أما أن نراه يطل علينا من الشاشة البيضاء لابساً طوال الفيلم جلباباً مخططاً، محركاً للأراجوز وسط ساحات القرى، بعيداً في بطون الريف.
فهذا مالا يمكن أن يخطر على البال مهما شطح الخيال.
وفي الحق، فأنا لا أعرف كيف اقتنع “عمر الشريف” نجم النجوم العرب بأداء هذا الدور الذي أراه مدهشاً.
كل ما أعرفه أنه قد نجح في تقمص شخصية محرك الأراجوز ابن الريف، فكان أن حمل الفيلم على كتفيه، بفضل فهمه للدور وتمثله لكل صغيرة وكبيرة فيه، حتى استطاع أن يصعد به إلى مستوى فني قل أن يصل إليه عمل سينمائي من أعمال أيامنا هذه، تلك الأعمال الرديئة التي يغلب عليها الاستسهال والابتذال.
وغني عن القول أن الفضل في ذلك إنما يرجع إلى مخرج الفيلم.
فلولاه لما اقتنع “عمر” بأن يخلع أردية العز والأبهة، مستبدلاً بها رداء الفقر والبهدلة، رداء محرك أراجوز من عامة الناس الغلابة المعذبين.
ولما استمتعنا به في مشهد طويل بعض الشيء، يغني لأول مرة بصوت عذب واحدة من أجمل أغاني الفيلم “الارا…أراجوز”.
وفضلاً عن “عمر” ودوره الذي يعتبر أعجوبة بين جميع الأدوار التي أداها إبان ثلاثة عقود من عمر الزمان، فإن فيلم الأراجوز في مجمله يعتبر هو الآخر أعجوبة بين الأفلام المصرية.
فهو فيلم موسيقي ممتع تقطر كل لقطة من لقطاته حباً لمصر الغلابة، أولئك الذين حاربوا وضحوا من أجل الأرض والعرض، حتى نجحوا في الخروج بالوطن المثخن بالجراح منتصراً، ليجدوه، وقد أصبح في غمضة عين نهباً لخساس الناس.
وهو مزيج غريب من الشعر والحوار في أرقى صور البساطة والسلاسة، قوامه سيناريو للدكتور عصام الشماع محكم البناء مستلهم من الأساطير الشعبية.
وهو متعة للحواس بفضل شعشعة الألوان وتناغم الأشياء في تشكيل مهندسة الديكور “رشوى حامد” ورفاهة كاميرا مدير التصوير “محسن أحمد”، تلتقط بعينها اليقظة كل ما يتحرك أمامها لتتمثله، فتخرجه آيات تسر الناظرين.
وألحان”عمار الشريعي” لأغنيتي “الأرا.. أراجوز” و”أراجوز المدارس”، وكلتيهما من أحلى الأغاني لحناً وكلاماً من إبداع الشاعر “سيد حجاب”.
والآن يبقى أن أقف قليلاً عند باقي نجوم الفيلم لأقول أن “ميرفت أمين” و”سلوى خطاب” قد تألقتا، الأولى في دور فلاحة حرة رافعة الرأس في كبرياء، والأخرى في دور بندرية بنت أكابر مصاصي دماء.
ولأشهد بأن كلاً من “هشام سليم” و”عبد العظيم عبد الحق” و”أحمد خليل” قد أجادوا جميعاً الأدوار المسندة إليهم، على وجه أعاد إلينا الثقة فيما عندهم من ملكات هبة السماء.
أيام الغضب
فإذا ما انتقلنا بالحديث إلى الفيلم الثاني “أيام الغضب”، فسنجد أنفسنا أمام عمل فني وصلت فيه حرفة السينما إلى ذروة عالية من البراعة والإتقان.
ومما يثير الدهشة أنه أول فيلم روائي طويل لمبدعه المخرج الشاب “منير راضي”.
ولو كنا على غير علم بأسرار السينما وكنا لا نعرف أنه لم يسبق له الوقوف وراء الكاميرا، لأنصرف بنا الظن إلى أن “أيام الغضب” قد أبدعه مخرج ذو ماض جليل بفضل سجل من روائع الأفلام طويل.
وفي الحق، فلا غرابة في هذا الظن، فالفيلم محكم البناء، يقوم على سيناريو متقن يترتب لاحقه على سابقه بحيث تنساب أحداثه في يسر وانسجام.
وأول ما يلفت النظر فيه أنه فيلم يروّع بفنه ذي المستوى الرفيع.
وروعته هذه أنما ترجع إلى عدة أسباب، لعل أهمها موهبة مخرجه التي نراها متجلية في اختيار موفق لا يخيب للذين ساهموا معه في الإبداع.
فالدكتور مصطفى ناجي هو مؤلف الموسيقى التصويرية التي أدت دورها ببراعة لا مزيد عليها.
وآية ذلك أنها جاءت مقتصرة، خفيفة الصوت بلا ضجيج، عرفت كيف تعبرعن محنة بطل الفيلم التي أسبغت لونها القاتم على مجمل أيام الغضب.
وأستطيع أن أقول واثقاً أنها من الأمثلة النادرة عندنا التي تثبت فيها الموسيقى التصويرية أنها عنصر جوهري في الفيلم لا غناء عنه بأي حال من الأحوال.
ولا يفوتني هنا أن أقف قليلاً عند سحر تصوير “ماهر راضي” ودقة توليف “أحمد متولي” وأغنية سيد حجاب التي أنشدتها جوقة المجانين في واحد من أرق مشاهد الفيلم وأكثرها بهجة وفرحاً.
أقف عندها لأذكر أن أيام الغضب قد أرتفع بفضلها إلى مستوى من الخصب والامتياز والجمال يصعب أن تصل إليه أفلام هذه الأيام.
كما نلحظ موهبة “منير” المتفجرة في اختياره للممثلين الكبير منهم والصغير على حد سواء، وتحريكه لهم على وجه بلغ به كل الغايات.
فمثلاً “نور الشريف” الذي لا نراه مقنعاً في كثير من الأفلام، نراه في “أيام الغضب” نجماً في قمة الأداء والعطاء. وكذلك الحال بالنسبة لكل من إلهام شاهين في دور الفلاحة المغتصبة على الدوام و”يسرا” في دورالإخصائية الاجتماعية المنقذة للمعذبين في مستشفى المجانين و”سعيد عبد الغني” في دور الممرض السادي المتحكم في مصير هؤلاء المعذبين.
يبقى أخيراً أن أقف قليلاً عند بعض الأدوار الثانوية وبالتحديد عند أولاً “أمل ابراهيم” وأدائها المذهل لدور زوجة ذلك الممرض البغيض والمسئولة عن عنبر النساء المختلات عقلاً. وثانياً “نجاح الموجي” لتمثيله الموزون لشخصية عاقل مدعي الجنون. وثالثاً “علاء ولي الدين” لتقمصه شخصية شاب بدين مجنون من أعالي الصعيد.
أنه، والحق يقال، كشف مفاجئ لموهبة مخبوءة، أرجو لها توالي اللمعان.
والآن بعد ذلك كله إلى قصة “أيام الغضب” أنها تدور حول فكرة عودة الغائب من سفر في بلد عربي نفطي، ليجد نفسه، وقد سلب أعز ما يملك، تلك الفكرة التي نراها سائدة في أغلب ما ألف كاتب السيناريو “بشير الديك” والغائب في “أيام الغضب” هو “إبراهيم محمود القمحاوي” “نور الشريف” العائد إلى القاهرة بعد خمسة أعوام قضاها بعيداً في الخليج من أجل إدخار المال اللازم لشراء شقة يعيش فيها مع ابنة عمه التي عقد قرانه عليها قبل سفره بقليل.
أنه يطل على المدينة البدينة من نافذة الطائرة قبل هبوطها ويقول سعيداً “مصر حلوة قوي من فوق”.
غير أنه ما أن يلتقي بزوجته على باب الشقة الفاخرة المشتراه “بتحويشة العمر” حتى يفاجأ بها حاملاً من رجل آخر تزوجته بعد أن استصدرت حكماً غيابياً بالطلاق منه، وهو في بلاد الغربة يشقى.
وطبعاً يثور لشرفه المهان، فيحاول قتل ذلك الزوج الدخيل الذي اختلس زوجته وشقته بسكين حاد.
فإذا ما حيل بينه وبين ذلك أرسل مقبوضاً عليه إلى قسم الشرطة، ومنه إلى النيابة العامة التي قامت بتحويله إلى مستشفى المجاذيب حيث يبدأ حياة بائسة معلقة بين اليأس والرجاء حتى يدركه الجنون.
ولم أعرض شيئاً من تفاصيل مأساته داخل مستشفى المجانين، وإنما عرضت خلاصتها في كثير من الإيجاز. ولو قد عرضت تفصيلها لتنقلت من شيء فاجع إلى شيء فاجع.
ومهما يكن من أمره في تلك المستشفى فمأساته تتشابك مع مآسي نزلائها من المجانين.
وبفضل هذا التشابك المتعدد والخيوط وبفضل حبكة الفيلم التي تميل إلى التلقائية، بفضل ذلك كله أخرج لنا “منير راضي” فيلماً فيه المتاع كل المتاع.
التصنيف: دار الهلال
اليوم السادس بين شديد وشاهين
الكوليرا، أم حسن، والحفيد الصغير حسن، هذا هو الثالوث الذي تدور من حوله قصة “اليوم السادس” لصاحبتها الأديبة العربية المستغربة “اندريه شديد”.
أما ما عداه من أحداث وشخصيات أخرى، فلا تعدو أن تكون تنويعات وتفريعات على لحن “اليوم السادس” الأساسي.. البعث.
فالقصة من أول صفحة، ولا حديث فيها إلا عن الوباء الذي نلقاه في حوار يجري بين “أم حسن”، وهي جدة تقدمت بها السن، وبين سائق العربة الكارو التي تحملها إلى “بروات” قريتها الممتحنة بالكوليرا، ذلك الوباء الذي اشتد فتكه وأصبح أمره شنيعاً.
وما أن تبدأ السطور الأولى من الصفحة الثانية (طبعة فلامريون 1984) إلا ويجيء ذكر الحفيد الصغير بفضل الشوق والحنين.
فهذه هي المرة الأولى التي تفترق فيها “أم حسن” عن ابن ابنتها المتوفاة، عن ابن روحها وها هي على العربة تتذكر كيف شرحت له قبيل الرحيل لماذا هي في أشد الحاجة لرؤية أهلها للاطمئنان عليهم.
لماذا كان من اللازم عليها– منذ أمد بعيد – أن تسافر إليهم.
ولماذا لم تستطع القيام بهذا الواجب حتى الآن.
وتتذكر كيف خففت من وقع الفراق ومرارته على الحفيد بوعدها له أنها لن تغيب طويلاً، لن تمكث في قريتها لأكثر من يوم واحد.
كوليرا وأشياء أخرى
وعلى كُلٍ، فما أن ألقت نظرة طائرة على قريتها البائسة المعذبة بالوباء، وتبين لها ما ألم بها وبأهلها من أهوال، حتى برّت بوعدها، أسرعت بالعودة إلى القاهرة حيث زوجها العليل وصغيرها الوحيد.
ثم لا تلبث أن تدلهم من حولها الخطوب، فالصغير يصاب هو الآخر بالشر العام، وهي لا تستسلم لليأس، تحاول أن تتجاوز محنتها بالتصدي للكوليرا إنقاذاً للصغير.
وهكذا، طوال جريان أحداث القصة، ونحن مشغولون بهذا الوباء، وبهذه الجدة البائسة وبهذا الصغير المصاب بالمرض الخطير.
والسؤال الآن، هل الكوليرا، الجدة، الحفيد، محل تركيز في رؤية “يوسف شاهين” السينمائية لليوم السادس، بحيث تثير اهتمامنا بهذا الثالوث، تجعلنا مشغولين به وحده لا شريك له، كما كنا في القصة أم لا؟
تبدأ رؤية “شاهين” لقصة “شديد” أول ما تبدأ بوجه “أم حسن” (داليدا) في لقطة مبكرة سابقة على العناوين، حينما نراها في سيارة نقل عائدة من قريتها حيث لا شيء سوى الموت بالوباء يحصد بغير حساب ما يشاء من الأقرباء.
وما تكاد تنتهي العناوين، حتى يبين لنا أن مصر موبوءة بالكوليرا، وأن هذا الوباء فيها، كما الحديث عنه، شائع مستفيض.
وما تكاد تنتهي المشاهد الأولى حتى نكون قد تعرفنا على شخصيات ثلاث رئيسية”أم حسن” والحفيد الصغير والمهرج والراقص والقرداتي المسمى بأوكازيون أو “أوكا” أو”عكا” (محسن محي الدين) ومعه قردته “روز”، التي هي له كظله، ثم شخصيات أخرى ثانوية صاحب سينما ركس الفلسطيني “رفحي” (يلعب الدور يوسف شاهين)، ومدرس الحفيد، وزوج أم حسن المريض بالشلل (حمدي أحمد) وصاحبة المقهى الشهوانية (سناء يونس) وممثلة السينما الفاجرة، صاحبة البنسيون (شويكار).
ويلفت النظر في الشخصيات أنها -وباستثناء المدرس والزوج- مختلقة، ليس لها وجود في قصة شديد.
الغناء تحت المطر
ثم ما يكاد ينتهي “القرداتي” من نمرته في حوش تطل عليه شواهد القبور حيث رقص وغنى أمام حشد من الصغار والكبار “ماسمعتش يا غايب حدوتة حتتنا”، حتى يتكشف لنا أننا بإزاء عمل سينمائي جانح إلى أن يكون فيلماً غنائياً راقصاً، لاسيما أن صاحبه قد أهداه بداءة إلى نجم الرقص الأمريكي إبان الأربعينيات “جين كيللي” الذي “ملأ أيام شبابنا بهجة”.
وما نكاد نفيق من هذه المفاجأة المذهلة، حتى يتضح لنا من سير الأحداث في الربع الأول من الفيلم، أن صاحبه قد انتقل بمحور القصة من العجوز “أم حسن” إلى القرداتي الشاب.
فهو أحياناً ينفرد في الفيلم بمشاهد بأكملها، وفي حالة عدم انفراده بالمشهد، ومشاركة “أم حسن” له فيه باستحياء شديد، فهو لا يستطيع على ذلك صبراً.
وسرعان ما ينفرد بأغلب اللقطات، كما في المشهد الفريد الذي رقص فيه أمام “أم حسن” وغنى “نركب سفينة من ميناء إلى ميناء، تحت المطرة حركة خطرة”.
ظاهرٌ إذاً أن ثمة فروقاً بين قصة شديد، وبين رؤية “شاهين” لها في فيلمه الروائي الأخير والتاسع والعشرين.. فما هي ؟
هي وهو
“أم حسن” عند “شديد” كما الأم الشجاعة في مسرحية “برتولد برخت” امرأة لها هدف وحيد كرست له حياتها، وهو في “اليوم السادس” إنقاذ الحفيد المريض، بالابقاء عليه حياً إلى هذا اليوم، ذلك أنها سمعت من الأستاذ معلم حفيدها قبل أن يحمل من المدرسة إلى المنزل مصاباً بالوباء، أن من لا يموت به حتى اليوم السادس من ابتداء القيء، تكتب له النجاة، ويبعث حياً.
وهي “أم حسن” لا تحيد، كما “أنتيجون” و”ميديا” في مسرحيتي “سوفوكليس” و”اوريبيديس” عن هدفها الأوحد.
إنها تحيا من أجله، تكرس كل وجودها سعياً إلى تحقيقه.
ولو شاءت لها الأقدار أن تفشل في مسعاها هذا، لفقدت إرادة الحياة، ولما بقيت على قيدها يوماً واحداً.
سر البسالة
ومصدر هذا الوجد الذي يملك على “أم حسن” كل شيء، ويصرفها عن كل شيء آخر سوى إنقاذ الصغير، مصدره كما الحال مع “أنتيجون” و”ميديا” وغيرهما من النساء الباسلات، إرادة قوية صامدة لا تنحني أمام النكبات والملمات.
ومنبع هذه الإرادة بالنسبة لأم حسن بالذات، أنها لم تذق للراحة طعماً، لم تستمتع بها يوماً، فهي امرأة تعمل بساعديها، بالتحديد غسالة، نازحة إلى المدينة البدينة، فراراً من الريف الحزين، وفقره الفقير، تعي حالها وظروف البؤس التي تحيط بها، مما يدفعها إلى القول في حوار مع النفس: “أنا لم أخلق للراحة” أي لليوم السابع (ص 143 من نفس الطبعة).
وبحكم حالها هذا، فهي لا تيأس أبداً من إنقاذ حفيدها، وذلك رغم أن الموت يغلبه قليلاً.. قليلاً.
مذبحة الأبرياء
إنه يقيم في عقلها وقلبها، تودعه خير ما فيها، فهي إذن في قلبه، هي إذن تقاسمه حياتها، ولذلك لن يموت.
ومن هنا هروبها به من دارها، في محاولة منها لإخفائه عن أعين البصاصين، حماية له من الوباء وسوء المصير.
ومن هنا سيرتها الملحمية، وهي تحمله على عربة تجرها في الحواري والشوارع، وهي تحتضنه صاعدة درجات أدوار ستة إلى حجرة الغسيل فوق سطح إحدى العمارات، وهي في ظلمة الليل تستقل معة عربة “حنطور” تذهب بهما إلى الفلك حيث تخفيه بين البالات.
فإذا ما رحل الفلك بهما شمالاً إلى حيث بحار الدهشة والحلم تعصم الصغير من الموت حتى اليوم السادس، أتت الرياح بما لا تشتهي السفن، انتزع الموت الصغير انتزاعاً من الحياة قبل اليوم الموعود.
وبموته ماتت العجوز، أو هكذا تصور القرداتي، ولموتها بكى قلبه لأول مرة.
بلا رحمة
وهذا القرداتي “أوكا” له شخصية في القصة على النقيض تماماً من شخصية “أم حسن”.
فهو أسير اللذات، يحب النرجيلة والشاي الأسود والنساء والمال حباً جماً، متقلب، مسرف في التقلب، ينفق حياته ملتمساً لمنفعته الخاصة القريبة الحقيرة.
وليس أدل على شرهه إلى المال، أنه إلتمسه من غير وجهه الصحيح، فهو يبلغ عن المصابين بالوباء ويتقاضى عن غدره هذا أجراً.
وهو يوفر مكاناً “لأم حسن” على ظهر الفلك مقابل وعد منها بإعطائه نصف ما أدخرته من مال اكتسبته بالحلال.
وليس أدل على عدم ميل مبدعة القصة معه، بل قل احتقارها لفلسفته وسلوكه في الحياة، أنها لم تظهره على مسرح الأحداث إلا مع ابتداء الجزء الثاني (ص 75)، وفي مناسبة كريهة، استغل فيها ثقة المعجبين ببهلوانياته استغلالاً منكراً.
فها هو ذا ساعة الغروب، على سلم وزارة الصحة، ممسكاً بورقة جديدة ناعمة خضراء قيمتها عشرة جنيهات، أعطيت له مقابل الكيد لأحد المبتلين بالوباء.
وها هو ذا يخاطب قردته منتشياً: “مانجة ابنتي.. فلتحيا الكوليرا.. خسارة أن الوباء قارب على الانتهاء.. لو كنا عرفنا مبكرين ، لأصبحنا الآن من أصحاب الملايين” (يلاحظ هنا أن القردة اسمها “مانجة” وليس “روز”.
أما في الفيلم “أم حسن” و”أوكا” القرداتي كلاهما له تقدير آخر.
هي امرأة محبطة، مكبوتة، تعيش مع زوج مشلول لا يستطيع أن يعول، خانها من قبل بالزواج من امرأة ثانية وعندما تفقد أملها الأخير بموت الصغير قبل اليوم السادس تحاول الانتحار.
وهو قرداتي فلاتي، ليس في خصاله ما يغري بالمكر والغدر، ويدفع إلى الخيانة والإثم، والتورط في أشياء كثيرة يأباها حسن الآداب.
نذير أم بشير
وليس أدل على هذه الرؤية الجديدة له، من مسلكه على ظهر الفلك قريباً من النهايات.
فهو الذي عقب اكتشافه الصغير ميتاً، ينكر الموت، يتحداه، يضع الجثة في قفة يعلقها بحبل الصاري، ثم يأخذ في شد الحبل حتى ترتفع القفة فيرى الصغير البحر ويتحقق الحلم.
هذا المشهد السينمائي الجميل، والذي فيه شيء غير قليل من شطحات الخيال المستحبة، ما هو المقابل له عند “شديد”؟
يكتشف القرداتي موت الصغير، تطلب إليه “أم حسن” أن يتكلم، يظل صامتاً هامساً لنفسه “غلبانة مجنونة” (ص182).
فإذا ما قفز القرد “مانجة” من بين ذراعي “أم حسن” إلى ذراعي “أوكا” انطلق الإثنان “القرد وصاحبه” في صراخ وعويل، من ذلك النوع الذي يصاحب عادة المجيء المفاجئ للموت، والذي لا يرجى منه نفع.
وفور سماع هذا الصراخ والعويل تسقط العجوز على الأرض، يذهب القرداتي إليها حيث ترقد، يرفع رأسها، يسندها إليه، يتحسس وجهها المتجعد، فيحس أنها ماتت بموت الصغير، بل يذهب إلى أبعد من هذا، لا يتمنى لها حياة (ص183).
البعث
وهنا يتدخل “أبو نواس” (يوسف العاني في الفيلم) “ريس” المركب.
إنه هو، وليس القرداتي الذي ينادي العجوز بأعلى صوته قائلاً “أم حسن.. أنت محقة.. الطفل حي”.
ومع تكرار هذا النداء من “أبي نواس” ومن “دسوقي” النوبي” محمد منير” الممسك بالدفة، ومع هذا الإصرار على أن الصغير حي يرى البحر، يبدأ القرداتي في المشاركة، فينادي هو الآخر العجوز “هل تسمعينني يا أم حسن.. أزف إليك البشرى.. الطفل سيرى البحر” (ص186 أو الصفحة الأخيرة).
فترتسم ابتسامة على شفتي العجوز، إنها تسمع الأصوات، ترى البحار وجنات تجري من تحتها الأنهار ويحملونها برفق دون أن تقاوم، فالطفل في كل مكان بالقرب منها، أمامها، موجود في صوت وفي قلب هؤلاء الرجال، لم يمت، بل لا يستطيع أن يموت.
وإذن، فالمبادأة لم تكن من القرداتي، بل كان هو الأخير من بين رجال الفلك في المشاركة.
والآن إلى من ننحاز؟ إلى رؤية “شديد” الأدبية أم إلى رؤية “شاهين” السينمائية؟ هذا هو السؤال، والإجابة عليه قد تبدو يسيرة ولكنها في حقيقة الأمر جد عسيرة.
أوسكار مع الإمبراطور الأخير وضد صرخات الحرية
تساءل الكثير عن الإمبراطور الأخير من هو، ولماذا توّج الفيلم الذي يدور حول مأساته بتسع جوائز أوسكار، وهو رقم لم يفز به أي فيلم منذ قصة الحي الغربي (1961).
والعجيب أن أحداً لم يتساءل لماذا لم يرشح لأية جائزة من هذه الجوائز المشتهاة فيلم تاريخي آخر يدور حول سيرة ويليم ووكر (1824-1860) ذلك المغامر الأمريكي الذي استولى على نيكاراجوا بنفر من الأشرار لا يزيد عددهم على الخمسين إلا قليلاً.
والعجب العجيب أن أحداً لم يتساءل لماذا لم يجر ترشيح “صرخة الحرية”- وهو الآخر فيلم تاريخي يعرض لسيرة المناضل الأفريقي “بيكو”- إلا لثلاث جوائز ثانوية ليست كبيرة الأهمية، ومع ذلك لم يكتب له أن يفوز بأي منها.
ولنترك “الإمبراطور الأخير” الذي ابتذلته حوادث الدهر، فانتهت به جناينياً في المدينة المحرمة بكين حيث بدأ حياته العامة إمبراطوراً، وهو في الثانية والنصف من سنيه، فلنتركه إلى حين.
الأمريكي القبيح
ولنبدأ بالفيلم الذي أخرجه الإنجليزي “أليكس كوكس” عن الأمريكي “ووكر” الذي استولى على نيكاراجوا بفئة قليلة من المحاربين.
من المعروف تاريخياً أن هذا المغامر قد عاش ومات في العصر الذهبي للاستعمار.
والفيلم الذي يعرض لمغامراته وطموحاته قد أنتج بالتعاون مع الساندينستا حكام نيكاراجوا الممتحنين بتدخل إدارة الرئيس الأمريكي “ريجان” في شئونهم امتحاناً أليماً.
ولا غرابة في هذا التعاون “فووكر” قد غزا نيكاراجوا (1855) حتى بلغ منها ما أراد، فأصبح رئيساً لجمهوريتها ولم يكتف بذلك بل فرض عليها نظام العبيد. وظل ينشر الفساد والاستبداد في ربوع أمريكا الوسطى حتى جاءه الموت ساحقاً ماحقاً برصاصات انطلقت إلى صدره من فوهات بنادق ثلة من جنود هندوراس (1860) وله من العمر 36 عاماً.
والشيء المحقق أن صاحب هذه السيرة غير العطرة التي ملأت الشريط الضيق الفاصل بين الأمريكتين هولاً كان في نظر معاصريه في الولايات المتحدة رجلاً من رجال الأقدار على حين أنه كان في أمريكا اللاتينية ولا يزال معتبراً رمزاً للشيطان.
الماضي والحاضر
ومن هنا سعي صاحب الفيلم إلى تصوير الجانب القبيح من حياة هذا المغامر على وجه يتيح للمشاهد، مع شيء من التفكير اليسير، أن يعقد مقارنة بين ما حدث في نيكاراجوا بعد منتصف القرن الماضي بقليل، وبين ما يحدث فيها الآن ونحن على عتبات القرن الواحد والعشرين.
وهو في سعيه هذا، قد لجأ إلى أسلوب أوبرالي فيه من البرختية والملهاة الشيء الكثير. وآية ذلك مزاوجته الطريفة بين أزمنة “ووكر” وأزمنتنا.
فها هي زجاجات الكوكاكولا تملأ الشاشة رغم أن اختراعها وقت أحداث الفيلم كان لا يزال في علم الغيب، وها هي مجلات أمريكا الشمالية الباحثة عن الإثارة تحمل على أغلفتها صورة “ووكر” وفتوحاته مما يذكرنا “بأوليفر نورث” بطل فضيحة “إيران- كونترا”، وطريقة معالجة الصحافة الأمريكية لها.
وها هي طائرة عمودية تهبط فجأة على أرض المعارك ليندفع منها جنود البحرية الأمريكية شاهرين السلاح.
وعلي كل، فليس يعنينا الآن ما أتيح لفيلم ووكر من الفوز جماهيرياً- وهو فوز عظيم- بقدر ما يعنينا أن نلاحظ أن الجهود التي بذلها مخرجه لكشف تدخل كل رجال الرئيس الأمريكي في شئون بلد صغير كنيكارجوا، ورد ذلك إلى أصوله التاريخية، هذه الجهود التي جعلته وحيد نوعه بين ركام الأفلام، قد انتهت بالمتحمسين له إلى الإخفاق حتى في ترشيحه إلى أية جائزة من جوائز أوسكار.
أبيض وأسود
فإذا ما انتقلنا إلى “صرخة الحرية”، فسنجد أنفسنا أمام واحد من أكثر أفلام العام الماضي نبلاً، وذلك لأنه من تلك الأعمال السينمائية النادرة التي تعرضت بجرأة وصدق لأهوال التمييز العنصري في جنوب أفريقيا.
ولا عجب في هذا، فصاحبه ريتشارد اتينبره سبق له أن أخرج “غاندي” وهو فيلم عرض في مشاهده الأولى لهذا التمييز المقيت.
وقصة فيلمه الجديد كما “غاندي” ما هي إلا ترجمة حقيقية عاشها بطلاً “صرخة الحرية” “ستيف بيكو” و”رونالد وودز”.
وأحداث الفيلم تبدأ بـ”بيكو” مناضلاً أسود في ريعان الشباب، استقر في ضميره أن الشر كل الشر، والنكر كل النكر، هو في إذلال البيض للسود.
وأنه لابد من تغيير الأمور في جنوب أفريقيا بحيث تقام الصلات بين الناس، مهما تختلف ألوانهم على نظام من العدل والمساواة.
وتنشأ بينه وبين “وودز” محرر جريدة “ديلي ديسباتش”- وهو من البيض ذو نزعات إنسانية- صداقة قوية، بفضلها يزداد وعي “وودز” بخطر العنصرية ووحشيتها، فيصمم على مقاومتها، ما وسعته المقاومة، ولا يدخر في سبيل ذلك جهداً. ومع تفاقم الأحداث، يمر أمام أعيننا شريط دام من الفواجع.
فها نحن نرى هجمة الشرطة على مدينة الصفيح السوداء “كروس رودز” خارج مدينة “كيب تاون”، ونرى تحديد إقامة “بيكو” وكيف جعلت من منزله مكاناً أقرب إلى السجن منه إلى أي شيء آخر.
ثم نراه، حين يُلقى القبض عليه، ويُرمى به وراء القضبان، حتى نفاجأ به فاقد الحياة على أيدي شرطة لا ترحم.
مذبحة الأبرياء
وما أن يختفي “بيكو” بالقتل، حتى يبدأ النصف الثاني من “صرخة الحرية” حيث تمكر سلطة القهر بصديقه الأبيض “وودز” مكراً شديداً يكاد يخلو من قطرة إنسانية.
ولا أريد أن ألخص ما في هذا النصف وهو تصوير هروبه متخفياً في ثياب قسيس ومعه مخطوط كتابه عن “بيكو” يحكي فيه ما رأى، ويكشف فيه عن كل ما جرى. ولا أن ألخص محنة زوجته “وندي” وهي تحاول الفرار بأطفالها من الجحيم، حتى يكتب لها النجاة.
ولا أن ألخص محنة مشاهد مذبحة الأطفال السود في “سوويتو” (1976) أو محاكمة “بيكو” حيث استطاع بصدق لهجته من جهة، وبراعته الفنية من جهة أخرى أن يفضح النظام العنصري في جنوب أفريقيا وجرائمه، تلك المشاهد التي قطع بها مخرج الفيلم سياق السرد لرحلة هروب “وودز” إلى الحرية.
أسباب العقاب
وإنما اكتفى بتلخيص النظرية التي يعتمد عليها الفيلم بنصفيه فهو يريد أن يقول أن الصلة القائمة بين حياة البيض والسود قوامها الاستعلاء والاستكبار. البيض يعسفون ويخسفون، والسود يذوقون ألوان الذل والهوان.
فإذا ما حاولوا الخروج من ذلك إلى شيء من العزة والكرامة، ردهم البيض إلى حياتهم البغيضة أعنف الرد.
وأن يقول أيضاً أنه على البيض إذا ما وعوا أبعاد هذه الحياة المسرفة في الإذلال أن يقاوموا.
ومن هنا عقاب الفيلم بحجب جميع جوائز أوسكار عنه. فمثلاً أوسكار أحسن ممثل ثانوي لم يحصل عليها الممثل الملون “دينزل واشنطن” الذي كان مرشحاً لها عن أدائه لدور “بيكو” بجدارة، وحصل عليها “شين كونري” المشهور “بجيمس بوند” عن تقمصه لشخصية شرطي في خدمة الشعب ضد الفساد في آخر أفلام هوليوود عن المجرم “آل كابوني”ً وأوسكار أحسن أغنية لم تفز بها أنشودة “بيكو” بكلماتها التي تدفع إلى الصمود والنضال، وفازت بها أغنية عاطفية تافهة من فيلم لا غناء فيه “الرقص القذر”.
الفيلم الوليمة
والآن، عود إلى الإمبراطور الأخير، ذلك الفيلم الذي فاز بجميع الجوائز ذات الرنين. صاحبه هو “برناردو برتولوتشي”، المخرج الإيطالي الذي سبق له أن أبدع “قبل الثورة” و”المتلائم” و”التانجو الأخير في باريس” و”القرن العشرين”، وهي أربع روائع لها في تاريخ السينما أثر غير قليل.
وأغلب الظن أنه أكثر المخرجين الثلاثة موهبة. (يلاحظ أن أحداً منهم لا يحمل الجنسية الأمريكية). وحتى عام 1978 كان عضواً في الحزب الشيوعي الإيطالي وتركه له لعله يعود إلى خلاف جوهري حول مفهوم المتعة في الفن وأشياء أخرى .. وهو في فيلمه الأخير يحكي بطريقتة مأساة الإمبراطور “بويي” الذي اختارته الإمبراطورة “تزوهو” خلفاً لها (1908) وهو لايزال في المهد صبيا.
عبث الأقدار
وأحداث الفيلم تبدأ به مسجوناً (1950- 1959) بعد أن سلمه الروس إلى الصينيين اثر سقوط حكم الكومنتانج وارتفاع رايات الشيوعية في الصين عالية وكانت التهمة الموجهة إليه هي التعاون مع اليابانيين إبان حقبة احتلالهم للصين. وبلا هوادة سعي سجّانوه إلى تعليمه أو غسل مخه كما يقال في لغة المحللين النفسيين.
أثناء محاولاتهم هذه، ومن خلال بناء سينمائي. يقوم على لقطات تعود بنا إلى الماضي، يتوقف الفيلم عند لحظات من حياة الإمبرطور السجين: الأعمارالثلاثة الأولى (اثنان ونصف، عشرة، خمسة عشر عاماً) من حياته كإمبراطور طفل ومراهق.
منفاه أثناء عقد العشرينيات، محاولاته مع المحتلين اليابانيين إعادة بناء إمبراطورية في منشوريا مسقط رأسه ثم الفشل النهائي. وفي الحق، فهذا الفشل قدر مكتوب عليه منذ البداية. فهو يتوج إمبراطوراً وله من العمر ثلاثون شهراً وهو- بعد ثلاثة أعوام من اعتلاء العرش- لا يملك من أمر الصين شيئاً لأن ثورة قامت وأعلنتها جمهورية. وهو رهين المدينة المحرمة لا يتركها إلا طريداً في بداية العشرينيات بعد تجريده نهائياً من اللقب الإمبراطوري. هو باختصار سجين طوال الفيلم دائماً أمامه سد لا يستطيع أن يتجاوزه. وسد التاريخ المنيع. وحيثما يستأنف السير في أي طريق فإنه لا ينتهي منه إلى غاية.
الحنين لم يعد كما كان
ولا يزال كذلك حتى يجد في سجنه الأخير عالماً جديداً غريباً يستطيع أن يعيش فيه متلائماً مع نفسه ومع الناس. أخيراً تنفتح أمامه الأبواب، فيعمل جناينياً في حدائق المدينة المحرمة حيث كان إمبراطوراً مقدساً وأخيراً يحيا ليموت راضياً مرضياً.
بعد هذا كله، فالإمبراطور الأخير فيه من الخصب والشاعرية والجمال ما لابد وأن يترك في السينما آثاراً بعيدة عميقة، ليس إلى محوها من سبيل.
ومع ذلك فسدنة العدالة في هوليوود لم يتوجوه إمبراطوراً على جميع الأفلام إلا لأنه زاخر بالحنين إلى الصين القديمة.. صين الأرض الطيبة ( وهو فيلم حاز على جوائز أوسكار كثيرة خلال منتصف عقد الثلاثينيات) ومن هنا خروجه من حلبة الصراع على جوائز الأوسكار الكبرى. فائزاً لا شريك له.