ظننا إلى عهد قريب أننا على علم بالدور الذي لعبته الصهيونية ابتغاء السيطرة على السينما، وبالذات عاصمتها هوليوود، بل وإننا نعرف عن هذا الدور الكثير.
وما دار في خلدنا أننا، في حقيقة الأمر، لم نكن نعرف عن هذا الدور وأبعاده إلا القليل، بل قل أقل القليل ولعل لذلك سببا.
فلأمر ما ظل هذا الدور محوطاً بالكتمان، لا يكاد أحد من كتاب ونقاد الغرب يجتهد في إظهار ما خفي منه وما غمض، أو يحفل باستكشاف ما لا يهتدي إليه من جوانبه إلا بعد تفكير عسير وعناء شديد.
الصهيونية أسرار
وعلي كل، فالآن والآن فقط، بدأ نفر من الباحثين يدرس دور اليهود في السينما، ولا أقول دور الصهاينة، ذلك أن النفوس في الغرب لم تهيأ بعد للاقتراب من كلمة “صهيونية” ولو من بعيد.
فهي لا تزال من المحظورات، لم يكتب لها أن تظفر إلا بما ندر من أدوات البحث والاستقصاء والتعمق.
وقد تكون الباحثة الأمريكية “باتريشيا ارينز” بمؤلفها الموسوعي “اليهودي في السينما الأمريكية” رائدة في هذا المجال المحفوف بالمخاطر.
ومن هنا استكتاب القائمين على تحرير مجلة “سينما أكسيون” الفرنسية لها، وهم في سبيل الإعداد لملف خاص يعرض لموضوع واحد “السينما واليهودية” على امتداد العالم بدءاً من هوليوود مروراً بنيويورك ثم أوروبا فمصر وإسرائيل وانتهاء باليابان.
ولو اطلعنا على الملف ومجمل ما ينطوي عليه من مقالات تبلغ الثلاثة والثلاثين عدّاً، لتبين لنا أن ما كتبته “ارينز” ينفرد بأنه جديد ومفيد، لأنه يكشف الجانب الآخر من مصنع الأحلام في هوليوود، ذلك الجانب الغائص في ليل من الأسرار مخيف.
فالمعلومات التي ضمنتها مقالها “1947- 1967 الموشن بكتشر بروجيكت في هوليوود”، كلها مستمدة من أرشيفات لم يسبق نشرها لإحدى تلك الهيئات المنتشرة في ربوع الولايات المتحدة بحجة مقاومة التشهير باليهود، والتي يقف وراءها مسانداً كل من “اتحاد بناي بريث” واللجنة الأمريكية اليهودية.
رقابة أهلية
وبادئ ذي بدء ما هي هيئة “الموشن بكتشر برجكت” هذه التي يدور المقال حولها وجوداً وعدماً، وما هي المهام المنوطة بها والتي أنشئت من أجلها؟
هي عبارة عن لجنة دائمة بدأت نشاطها قريباً من نهاية الأربعينيات (1947)، تفرغ لإدارتها والإشراف على توجيهها بما يحقق أغراضها يهودي اسمه “جون ستون”، سبق له أن عمل مدرساً ثم منتجاً.
ومن بين مهامها المعلنة إحكام الرقابة على مضمون الأفلام التي تجنح إلى المساس سواء من قريب أو من بعيد بأحد من طائفة اليهود، وذلك حتى في المرحلة السابقة على الانتاج، أي وهي على الورق مجرد مشروعات، لم تر النور.
وعن أعضائها تقول صاحبة المقال أنهم كانوا منذ البداية متنبهين لأهمية السينما، يرون فيها أداة تعليمية قوية، قادرة على التأثير في الجماهير، وتوجيه الرأي العام.
وآية ذلك ما جاء على لسان أحد مؤسسي تلك اللجنة في حديث له عن “الطريق المفروش بالنجوم” (ماكاري 1944) – وهو فيلم دعاية للكاثوليكية وفضائلها، ومتوج بجائزة الأوسكار.
فقد قال عن الفيلم أنه “أفاد الكاثوليكية بأكثر من حملة دفاعية بحتة تستمر عاماً كاملاً”.
وعقب تشكيلها، مضت اللجنة في طريقها من أجل تحقيق ثلاثة أهداف .
أولها: تعديل أنماط الشخصيات السلبية، لاسيما ما كان منها متصلاً بالأنماط اليهودية التقليدية المضحكة، فضلاً عن الشخصيات الفاسدة والإجرامية.
ثانيا: استبعاد كل ما قد يشجع على معاداة السامية، وبالذات في كل ما يعرض لحياة السيد المسيح.
وثالثها: تشجيع المعالجة الإيجابية لصورة اليهودي، ولكل ما يتصل بها من موضوعات.
القياس الفاسد
وفي رأي صاحبة المقال أن تاريخ نشاط تلك اللجنة، وما تحقق بفضله من تجميل لصورة اليهودي في نظر المجتمع الأمريكي، إنما ينهض دليلاً على نجاحها فيما سعت إليه، وبالتالي فإن الوسائل التي اتبعتها في ممارسة هذا النشاط الناجح، إنما تصلح مثلاً يحتذى لكل أقلية تريد صلاح أمورها.
والغريب في هذه النصيحة أن صاحبتها لم تضع في الاعتبار،وهي تلقي بها جزافاً، أن جميع شركات الانتاج السينمائي الكبري في هوليوود، فيما عدا فوكس للقرن العشرين كانت محكومة وقتذاك برؤساء مجالس إدارات، كلهم من اليهود، فضلاً عن أن الأقلية اليهودية تعتبر أقوى وأغنى أقلية في العالم، وفوق كل هذا فهي الحليف الرئيسي لأقوى وأغنى أقلية في الولايات المتحدة، تلك الأقلية البيضاء التي تنحدر من أصول أنجلوسكسونية، تعتنق مذهب البروتستانتية، ويرأس أبناؤها الدولة منذ إعلان الاستقلال وحتى يومنا هذا، وذلك باستثناء كيندي الكاثوليكي الذي انتهت ولايته فجأة بكارثة الاغتيال.
الصبر والصمت
ومهما يكن من شيء، فقد بدأت اللجنة مسيرتها التي كانت تستهدف بها احكام الرقابة على السينما والسيطرة على مصائرها لصالح الأقلية اليهودية.. بدأتها سياسة الخطوة.. خطوة باللجوء بداءة إلى أسلوب الاقناع.
فها هو ذا “جون ستون” يلتقي برؤساء الاستديوهات يحاول دون جدوى أن يوضح لهم ما لديه من مآخذ على رسم الشخصيات الرئيسية اليهودية في المسلسل الإذاعي “آل جولد برج” الذي اتجهت النيه إلى التحول به إلى فيلم.
فإذا ما قوبل “آل جولدبرج” مقابلة سيئة من النقاد، ومقابلة أسوأ من الجمهور، سارعت شركة بارامونت صاحبة الفيلم إلى تغيير اسمه إلى “مولي” بأمل استرجاع الجمهور بفضل الإخفاء تماماً للاسم القديم وما شابهه من أسماء قد تكشف الانتماءات الدينية الحقيقية للشخصيات.
وطبعاً، تعلمت هوليوود الدرس من هذا الفشل، فكان أن امتنعت عن إعادة الإحياء للقوالب اليهودية السابقة على نشوب الحرب العالمية الثانية.
ولم تلبث أن ثارت المشكلة غير مرة فيما يتصل بإظهار الشخصيات الثانوية في هذه القوالب.
إلا أنها سرعان ما حسمت لصالح اليهود، بفضل يقظة أعضاء اللجنة، وممانعتهم لأية انتكاسة من هذا النوع أشد ممانعة.
وداعاً للحرية
بعد ذلك خطت اللجنة خطوة أخرى أكثر جسارة.. شنت حملة ضد إظهار أية شخصية يهودية مشوهة الروح، بلا قيم أو أخلاق، حتى ولو كان ظهورها في أفلام مأخوذة عن روايات معاصرة ناجحة مثل “أستطيع أن أحصل عليها لك بسعر الجملة” لجيروم ودمان أو عن أعمال أدبية شهيرة مثل “ايفانهو” للسير والتر سكوت.
وعن نجاح “جون ستون” في التخفيف من حدة رسم صاحب القصة الأولى لشخصية الترزي اليهودي الطموح الذي لا يتورع عن شيء في سبيل الوصول، عن نجاحه هذا كتب إثر مشاهدته الفيلم المستوحى من تلك القصة قائلاً “الفيلم بإجماع الأعضاء الذين شاهدوه خلو من أي مظهر من المظاهر المتنازع عليها في القصة، والتي كانت مثار قلق بعض الجماعات داخل الطائفة اليهودية.
فهو باستثناء الاسم وأوساط صناعة الملابس، منبت الصلة بالكتاب.
والشخصيات التي يمكن التعرف عليها بوصفها يهودية، بما في ذلك الشخصية الرئيسية “سام كوبر” إنما تشع حرارة وصفوا.
وأغرب من هذا كله التعديلات التي أدخلت على “ايفانهو” بفضل نصائح اللجنة.
إرادة التخريب
من المعروف أن “والتر سكوت” قد رسم شخصيتي “ريبيكا” وأباها “اسحاق” على وجه يتسم بالتعاطف الشديد.
ولكن أن يكون “اسحاق” مرابياً في منتصف القرن العشرين، فهذا أمر كان لابد أن يتسبب في مشاكل لمنتج الفيلم “دور شاري”.
وللحظات جنح به التفكير إلى تغيير نهاية القصة، تلك النهاية التي لم يكن يحبها الأديب الإنجليزي “زاكيراي”، وبسببها اتهم “سكوت” بمعاداة السامية.
وأن يكون تغييره لها بحيث ينتهي الفيلم بزواج “ايفانهو” من “ريبيكا”، غير أنه سرعان ما عاد إليه الرشد، تخوفاً من إيذاء شعور المتفرجين الذين قرأوا واستمتعوا بالقصة، ويعلمون نهايتها غير المحرفة علم اليقين.
ومع ذلك فالمتفرج على الفيلم في صورته النهائية التي خرج بها إلى الناس، هذا المتفرج إذا ما ذهب به الظن إلى أن “اسحاق” هو الذي أنقذ إنجلترا، وليس ريتشارد قلب الأسد، فله العذر كل العذر.
الخطوة الأخيرة
وإلى العام العاشر من حياتها (1957)، اقتصر تدخل اللجنة على التقدم بالاقترحات والمشاهدة.
أما التصور العام للأفلام، فلم يكن لها عليه أي نفوذ.
ومع ذلك فلم تنقض سوى أيام على عرض فيلم “كنت شيوعياً في خدمة مكتب المباحث الاتحادية” لشركة أخوان وارنر، وعلى ردود الفعل الغاضبة التي أثارها في بعض الأوساط اليهودية حتى بدأت الخطوة الثالثة.
فإذا بوارنر والاستديوهات الأخرى تستطلع رأي اللجنة في مشروعات الأفلام، مستجدية موافقتها.
ومجمل تقارير “جون ستون” نصف الشهرية المكتوبة عقب هذا التحول الخطير، إنما تلقي الضوء على التغييرت التي نجح في إحداثها لصالح اللجنة.
فمثلاً جاء فيها عن فيلم “العرايا والموتى” (راؤول والش 1958) “ثمة تعديلات هامة يتعين إدخالها، واستبعاد الكثير من التعبيرات التي تحمل الازدراء لليهود.
ومع ذلك، فمن الأمور التي لها مغزى شخصية اليهودي . فهو الوحيد الذي ظل محتفظاً بمثل أعلى، ولم تمزقه تجربة الحرب التي مرّ بها”.
وجاء عن فيلم “بن هور” (ويليم ويلر 1959) “جميع ملاحظاتي، وكما أوضحت في تقرير سابق كانت محل اعتبار تتبقى العشرون صفحة الأخيرة، وهي وفق آخر الأخبار، جار مراجعتها”
العهد الجديد
وعلي حد تعبير صاحبة المقال، كان للأفلام المستوحاة من التوراة، وبخاصة العهد الجديد، كان لها من المشاكل الشائكة أدقها وأكثرها إثارة للمشاعر.
فعلى مر العصور، كانت تعتبر مسرحيات الصلب كارثة بالنسبة لليهود، يرون فيها الشرّ كل الشرّ.
ولم يتغير الموقف إزاء الصلب السينمائي فهو بدوره يعرضهم لنفس المشاكل، بما يثيره في “نفوس الدهماء من عداء لليهود عن جرائم ارتكبها الأجداد في سالف الزمان”.
ومن هنا معاداة الاتحادات اليهودية لأفلام مثل “تعصب” (جريفيت 1918) و”ملك الملوك” (دي ميل 1927) و”المسيح نجم أعظم” (جوويسون 1973) وبداهة، لم يقف “جون ستون” وصحبه أعضاء اللجنة في مواجهة خطر الصلب بما يثيره من ذكريات كلها أشجان، لم يقفوا مكتوفي الأيدي.
التحريف العظيم
تحركوا سريعاً، حذفوا كلمات الصلب ومذبحة الأطفال من سيناريو “سالومي” (ويليم ديتريل 1953) حرفوا التاريخ في الفيلم بجعل “هيرود” و”هيرودياد” برابرة أغراباً، ليس لهم صلة دم ببني إسرائيل الذين هم منهم براء. ألصقوا تهمة خيانة المسيح بشخص آخر غير المسيح اسمه “كاييف”.. حقروا من شأن مصر الفراعين شعباً وجيشاً في الوصايا العشر (دي ميل 1956).
ولم يكتفوا بكل ذلك، بل عملوا على تحقيق الهدف الثالث والأخير من أهداف لجنتهم، ألا وهو تنظيف صورة اليهودي على الشاشة البيضاء. وكان لهم كل ما أرادوا.
فهاهو ذا اليهودي مجملاً محتلاً الشاشات وهاهو ذا في “اتفاقية الجنتلمان” مضطهداً معذباً وفي “مذكرات آن فرانك” معتقلاً في الطريق إلى الموت الجماعي بالغاز، وفي “الخروج” مناضلاً ثائراً سائراً إلى أرض الميعاد وهكذا.. وهكذا.
وقبل أن يجيء الموت “جون ستون” بقليل (1961) كتب عن “الخروج” 1960 الفيلم الذي أخرجه “اوتو برمنجر” ومثله “بول نيومان” كتب عنه مشيدا “الخروج قد أشهد العالم على بسالة اليهود في نضالهم من أجل الحرية.. وذا هو المهم”.
وفي العام التالي لاختفائه، وتحت رئاسة ألن ريفيكين (1962) غيّر اسم اللجنة بحيث أصبح “اللجنة الاستشارية اليهودية”
فإذا ما مرّت الأعوام، وجرى الإعلان عن حل اللجنة (1967) أفصح رئيسها “ريفيكين” عن سبب ذلك قائلاً “المهمة تمت”!!