الرقابة والسينما الأخري: شهادة رقيب

ما أن تحركت الصورة قبل مائة عام، حتى بدأ التفكير في تقييد حركتها حماية للنظام العام وحسن الآداب. ولم تكن مصر بمنآى عن خطر ذلك النوع من التفكير المقيد لحرية التعبير. فعند اندلاع نيران الحرب العالمية الأولى، فرضت بريطانيا حمايتها على مصر، وحفاظاً على الأمن العام في مصر، أخضعت سلطات الاحتلال البريطانية أشرطة السينما لرقابة حددت أحكامها لائحة جديدة للمطبوعات والأفلام.(1)

بعد ذلك بحوالي أربعين عاماً، وبالتحديد في 31 من أغسطس سنة 1955 صدر القانون رقم 430 لسنة 1955 لتنظيم الرقابة على الأشرطة السينمائية ومصنفات فنية أخرى وبدءًا من الثالث من سبتمبر سنة 1955، تاريخ نشره في الجريدة الرسمية، عُمِل بأحكامه التي ظلت سارية المفعول دون أي تعديل زهاء سبعة وثلاثين عاماً، وذلك إلى أن تنبه أولو الأمر في مجال الثقافة والإعلام إلى أن تلك الأحكام لا تنصرف إلى أشرطة واسطوانات الفيديو، إذ كانت لا تزال في رحم الغيب، قبل أربعين عاماً إلا قليلا. فكان أن سارعوا إلى إصدار قانون تحت رقم 38 لسنة 1992، عُمِل به اعتبارًا من الرابع من يونيه من تلك السنة، وجاء متضمناً تعديلات تسد ذلك النقص في أحكام الرقابة على الأطياف. وعلى كُلٍ، ففي ظل أحكام القانون 430 لسنة 1955 الراسخة رسوخ الجبال، عُيّنت مديراً للرقابة على المصنفات مرتين: الأولى سنة 1962، ولمدة خمسة شهور وبضعة أيام، والثانية قريباً من نهاية سنة 1966، ولمدة تسعة عشر شهراً إلا قليلاً.

وهنا، قد يكون من المفيد أن نلقي نظرة سريعة على أحكام القانون المذكور في ذلك الوقت بالذات. بداية جاء القانون ناصاً في مادته الأولى على إخضاع جميع الأشرطة السينمائية للرقابة وجوباً، وفي مادته الثانية على حظر تصويرها بغير ترخيص بقصد الاستغلال؛ فضلاً عن حظر عرضها بغير ترخيص في مكان عام. ونصّ في مادته الخامسة على تحديد مدة سريان الترخيص بسنة تبدأ من تارخ صدوره بالنسبة إلى التصوير، زادها إلى عشر سنوات بالنسبة إلى العرض. وفي مادته التاسعة نصّ على تخويل السلطة القائمة على الرقابة في سحب الترخيص في أي وقت، بقرار مسبب، إذا ما طرأت ظروف جديدة تستدعي ذلك. كما جاء ناصاً في المواد من 14 إلى 18 على العقوبات التي توقع على كل من يخالف أحكامه. ومن بين تلك العقوبات الحبس والغرامة وغلق المكان العام ومصادرة الأدوات والأجهزة والآلات التي استعملت في ارتكاب المخالفة.

ومما جاء في المذكرة الإيضاحية للقانون “أن الأغراض المقصودة من الرقابة هي المحافظة على الأمن والنظام العام، وحماية الآداب العامة، ومصالح الدولة العليا، وأن ما قصده الشارع (المشرّع) من مصالح الدولة العليا، فهو ما يتعلق بمصلحتها السياسية في علاقاتها مع غيرها من الدول، وأنه نظراً للتطور السريع للحوادث، ولتغير الظروف التي قد يصدر فيها الترخيص، بحيث يعتبر مخالفاً للآداب العامة والنظام العام، ما لم يكن كذلك من قبل، فقد حددت المادة الخامسة من القانون مدة سريان الترخيص، ونصت المادة التاسعة على جواز سحب الترخيص السابق إصدرة في أي وقت بقرار مسبب. (2)

ويتضح مما تقدم أن جميع الأفلام المصورة بقصد الاستغلال التجاري، إنما تخضع لرقابتين: رقابة أولية سابقة على التصوير، ورقابة نهائية لاحقه له؛ وأنه بدون الترخيص بالفيلم قبل تصويره، ثم الترخيص به بعد الانتهاء من إخراجه، بدون ذلك يتعذر، بل قل يستحيل عرضه عرضاً عاماً. كما يتضح أن الإدارة هي الجهة صاحبة الولاية في ممارسة الرقابة. ولها، وهي تمارس ولايتها هذه مطلق التقدير في أن تمنح الترخيص بالتصوير وبالعرض متى تشاء، وفي أن ترفض منعه متى تشاء وفي أن تسحبه متى تشاء، وسلطتها التقديرية، في هذا الخصوص، لا حدّ لها سوى أن يكون قرارها متسماً باحترام النظام العام، ومراعاة حسن الآداب، وحماية مصالح الدولة العليا، فإذا تجرأ شخص على مخالفة أحكام القانون، بأن صور فيلماً أو أخرجه ثم عرضه قبل الترخيص له بذلك، فإنه يدخل بتصرفه هذا في عداد أعداء المجتمع، ومن ثم يحق عليه العقاب بالحبس أو الغرامة أو بالإثنين معاً، فضلاً عن مصادرة الأدوات التي استعملت في الجريمة. وعلاوة على كل ذلك، فالمكان الذي جرى فيه العرض المخالف للقانون، يعاقب هو الآخر بالغلق، ويخلص من ذلك أن القانون لا يتعامل مع السينما بوصفها فناً لمبدعيه حرية التعبير عنه، أو هو يعاملها بوصفها كذلك، ولكن في كثير من التحفظ والاحتراس، بل قل الخشية.

والحق أنه يكون أمراً غريباً أن يطلب من فنان أن يحصل على ترخيص بأن يمسك القلم كي يكتب قصة تجول في خاطره، أو بأن يمسك الفرشاه كي يرسم لوحة كامنة في خياله. ومع ذلك، فهذا الأمر الغريب هو الذي كان، ولا يزال يلتمس من الفنان إذا كان من صانعي الأفلام، فهو لا يستطيع أن يمسك بالكاميرا، كي يكتب بها ما يريد من أطياف. إلا بعد الترخيص له بذلك. فإذا ما تحدى القانون، وأمسك بها دون ترخيص، عاملته الدولة معاملة المجرم الخارج على القانون. ولم يكن القانون بما انطوت عليه أحكامه من غلوّ رقابي أمراً مفاجئاً لي عند تعيني مديراً، فقد كنت، والحق يُقال، على علم بذلك الغلو، وعلي دراية ما بإمكان تفسير أحكام القانون على وجه لا ينتقص كثيراً من حرية التعبير. ولكن شيئاً هاماً لم يكن في الحسبان أفسد تقديراتي إلى حد كبير- ذلك الشيء ـ ولم أكن على علم به ـ هو تعليمات إدارة الدعاية والإرشاد التابعة لوزارة الشؤون الاجتماعية، والتي كان معمولاً بها منذ خمسة عشرة عاماً، وبالتحديد منذ شهر فبراير لسنة 1947. فما هي تلك التعليمات، ولماذا بقيت جاهلاً بها إلى أن وجدتني شاغلاً منصب مدير الرقابة، ومن ثم صاحب الأمر النهائي فيما يعرض ويمنع من الأفلام ؟

أما لماذا كان أمر تلك التعليمات مجهولاً بالنسبة لي، ومن باب أولى لأغلب المواطنين، فذلك يرجع إلى أنها لم تكن منشورة، لا لسبب سوى رغبة القائمين على شؤون الرقابة في إحاطة عملهم بسياج من الكتمان. وما أن وصل إلى علمي أمر تلك التعليمات حتى طلبت الإطلاع عليها، وحتى أيقنت بعد دراستها أن حرية التعبير السينمائي في ظلها أمر صعب المنال. فهي لم تترك صغيرة أو كبيرة لها اتصال بالدين أو بنظام الحكم القائم أو بالجنس إلا وضعته في باب الممنوعات.

ويكفي في هذا الخصوص أن أقول إنها تنقسم إلى جانبين: أولهما خاص بالناحية الاجتماعية والأخلاقية، وجاء مشتملاً على ثلاثة وثلاثين محظوراً، وثانيهما خاص بناحية الأمن والنظام العام، ويشتمل على واحد وثلاثين محظوراً. والمحظورات المتصلة بالشق الأول تبدأ بالدين وتنتهي بالجنس والعنف. فليس مباحاً أن تمثل قوة الله بأشياء حسية، أو أن تظهر صور الأنبياء، أو أن يُتلى القرآن الكريم على قارعة الطريق، أو في مكان غير لائق أو بواسطة مقرئ، مرتد حذاءه، أو أن يظهر النعش أو النساء وهن يسرن في الجنازات وراء الموتى. وليس مقبولاً أن يساء إلى سمعة مصر والبلاد الشقيقة بإظهار منظر الحارات الظاهرة القذارة، والعربات الكارو، وعربات اليد، والباعة المتجولين ومببيض النحاس، وبيوت الفلاحين ومحتوياتها إذا كانت حالتها سيئة، والتسول والمتسولين. وليس جائزاً أن تصورالحياة الاجتماعية على وجه فه مساس بسمعة الأسرة المصرية، أو التعريض بالألقاب أو الرتب أو النياشين، أو الحطّ من قدر هيئات لها أهمية خاصة في نظام الحياة العامة كالوزراء أو الباشوات ومن في حكمهم ورجال الدين ورجال القانون والأطباء، وليس لائقاً أن تظهر الأجسام العارية سواء بالتصوير أو بالظل أو أجزاء الجسم التي يقضي الحياء بسترها، أو أن تذكر الموضوعات أو الحوادث الخاصة بالأمراض التناسلية والولادة، وغيرها من الشؤون الطبية التي لها صفة السرية، أو أن تصور طرق الانتحار وحوادث التعذيب أو الشنق أو الجلد أو مناظر العنف والقسوة البالغة.

أما المحظورات الخاصة بالشق الثاني، فلها وجوه كثيرة من بينها منع التعرض لموضوعات فيها مساس بشعور المصريين أو النزلاء الأجانب أو لموضوعات ذات صبغة شيوعية، أو تحوي دعاية ضد الملكية أو نظام الحكم القائم، أو العدالة. ومنها عدم إجازة إظهار مناظر الإخلال بالنظام الاجتماعي كالثورات أو المظاهرات أو الإضراب أو التعريض بالمبادئ التي يقوم عليها دستور البلاد، أو بنظام الحياة النيابية في مصر، أو نواب الأمة وشيوخها، أو إظهار رجال الدولة بصفة عامة بشكل غير لائق، وخاصة رجال القضاء والبوليس والجيش، أو التعرض لأنظمة الجيش أو البوليس، أوتناول رجاله بالنقد. ومنها حظرالأحاديث والخطب السياسة المثيرة وتناول المضوعات التي تعرض لقضايا العمال وعلاقاتهم بأصحاب الأعمال دون حيطة وحذر، وإظهار تجمهر العمال أو إضرابهم أو توقفهم عن العمل، وبث روح التمرد بينهم كوسيلة للمطالبة بحقوقهم. ومنها ألا تتعرض للجرائم التي ترتكب بدافع من اختلاف الرأي فيما يتصل بالنظام الاجتماعي أو السياسي، أو للسخرية بالقانون بإظهار مرتكبي الجرائم بمظهر البطولة بما يكسبهم عطف المتفرجين، وأن تمتنع عن إظهار المناظر الخاصة بتعاطي المحظورات.

وفي ضوء هذه المحظورات ــ وهي قليل من كثير ــ فلا عجب إذا ما انصرفت السينما المصرية في أغلب أفلامها عن تناول أي موضوع اجتماعي أو سياسي يعرض للقضايا الملحة على وجه جاد. والتعليمات المنطوية على هذه المحظورات ظلت هي الأخرى راسخة رسوخ الجبال، معمولاً بها زهاء ثلاثين عاماً، وذلك إلى أن جرى نسخها بموجب قرار وزير الإعلام والثقافة رقم 22 لسنة  1976 بشأن القواعد الأساسية للرقابة على المصنفات الفنية والصادر في 28 من أبريل لسنة 1976.(3)  وأهم ما يُلاحظ على ذلك القرار الوزاري أنه اقتصر على دمج المحظورات الوارد ذكرها في تعليمات وزارة الشؤون الاجتماعية، بحيث أوصل عددها إلى عشرين محظوراً.

وفضلاً عن ذلك لم يتح بصراحة لأي ممنوع سابق أن يكون مشروعاً، وذلك فيما عدا ممنوع إظهار المناظر الخاصة بتعاطي المخدرات. فقبله كان إظهار تلك المناظر أمراً ممنوعاً منعاً باتاً، أما بعده فقد أصبح إظهارها أمراً مشروعاً، لا قيد عليه، ولا شرط سوى ألا يوحي ظهورها على الشاشة بأن تعاطيها شيء مألوف.

وبطبيعة الحال لم تكن مدة شغلي منصب مدير الرقابة في المرة الأولى كافية لامتصاص آثار الاصطدام بتلك التعليمات الباقية من عصر عفا عليه الزمان. ولمحاولة تجاوزها بنجاح ولولا عودتي إلى شغل ذلك المنصب بعد أربعة أعوام، وهو أمر نادراً ما يحدث لولاها لما مررت بتجربة الصراع مع تلك التعليمات من أجل إتاحة حرية التعبير لسينما أخرى. فمع تلك العودة، تصادف أن ثمة أربعة أفلام خارج التيار السائد للسينما المصرية يجري إبداعها. وهي “البوسطجي” و”المتمردون” و”ينابيع الشمس” و”المومياء” أو”ليلة حساب السنين” والأفلام الأربعة من إنتاج مؤسسة السينما التابعة لوزارة الثقافة بمعنى أنها من إنتاج للقطاع العام.

ولعل قصتي مع صانعي “البوسطجي” وبالذات مع الأديب صبري موسي كاتب سيناريو الفيلم، تصلح لبيان ما لتلك التعليمات من تاثير عميق يفسد الإبداع في نهاية المطاف: ففيلم “البوسطجي” كما هو معروف مأخوذ عن قصة بنفس الاسم للأديب الراحل يحيى حقي. ومما يلاحظ على تلك القصة أن وقائعها قد اختزلت على وجه أضفى عليها ميزة التركيز الشديد، وأن أيقاعها له جرس موسيقي، وذلك بفضل اقتصاد مذهل في الألفاظ. وأهم ما في القصة، إنما يدور في أرواح الشخصيات، وبالذات جميلة “الخاطئة وخليل “الحبيب” وعباس “البوسطجي” وعلي هذا ـ فكما يقول علي الراعي في كتابه دراسات في الرواية المصرية ـ لم يجد صاحب القصة أن ثمة إلزاماً عليه برسم شخصياته من الخارج ومن ثم قصر اهتمامه على محاولة التعمق في أرواحها وعقولها. (4)

وليس من شك أن الدين من جوانب الحياة الروحية لهذه الشخصيات، بل لعله أهمها ، ومن هنا الوظيفة الفنية لإبراز الانتماءات الدينية والطائفية المختلفة فجميلة أرثوذكسية يزهو أبوها بزيارت القسيس له، ويأخذ أسرته كلها للكنيسة حيث يجلس هو تحت، بينما تجلس امرأته وابنته الصغيرة جميلة في الشرفة المحجبة بالشيش.(5) وخليل بروتستنتي في مدارس الأمريكان من تلك الأقلية القليلة التي توصل بفضلها المبشر البروتستنتي الغريب الأمريكي إلى الاختلاط ببقية الأقباط، وفي يده أمنية يلوح بها ويغري “في أسيوط مدرسة للعيال وللبنات مجانية”.(6) وعباس مسلم من أسرة أفرادها موظفون صغار، كلهم يؤكدون أنهم من سلالة عربية، وبعضهم يضيف أنهم من السادات، ورغم أن سلسة النسب الغريب التي يحفظونها تنتهي عند جدهم الثالث.(7)

وهذا الجانب الهام من الحياة الروحية للأبطال الثلاثة لم تجر الإشارة إليه في نسيج القصة عبثاً. فبسبب المبشر البروستنتي ومدرسته بفكرها المستورد التقت جميلة بأول شاب تراه عن قرب (خليل) الذي تعمد الانفراد بها، وأمسك بيدها، ثم لمس ثديها وقبلها، ونسيا نفسيهما في إحدى هذه الفورات، واجتبى منهما الشباب جزيته.(8) وبسبب اختلاف ملّة الحبيبين كان القسيس بمثابة ماء بارد، يصب بلا رحمة على نار عجلة العروسين. فقد وضع لزواجهما شروطاً شكلية تستلزم وقتاً مما أدي إلى تأجيل، بل قل، التعطيل نهائياً لعقد القرآن.

وهكذا ونتيجة حيلة شكلية غير متوقعة، وجدت جميلة “نفسها أمام مشكلة ليست في الحياة مثلها، هي عقدة كلها اصطدام ونزاع، وخيوطها من ديانة وتقاليد ووهم”.(9) وأخذ الجنين في بطنها “ينمو يوماً بعد يوم كعقرب الساعة لا ترى العين حركته” ومع نموه بدأ الاحتضار الطويل: آنات تسمع في رسائل الاستنجاد إلى الحبيب.(10) من بعدها تسمع صوت الموت في صوت جرس الكنيسة الصغيرة يدق إشعاراً به. يكاد ينطق، فقد يعبر النحاس في بعض الأحيان عن منتهى حزن الإنسان وألمه.(11)

والمؤلم أن الفيلم لم يحترم غلالة الشفافية هذه التي أحاطت بالخاتمة، واصطنع خاتمة أخرى مباشرة غليظة، فجميلة في الفيلم كما صنعها السيناريو المنشور تهبط هاربة من نافذة غرفتها، وينتبه أبوها إلى صوت ارتطام جسمها بالأرض. وتجري كالمجنونة في شوارع قرية كوم النحل وهي تنادي “خليل.. الحقني”. وفجأة يظهر المعلم، يستوقف ابنته هاجماً عليها، فتصرخ صرخة مروعة، بينما يغمد سكينة في قلبها. يحيط الفلاحون بالمعلم وابنته القتيلة على صدره. يحمل المعلم جميلة، والفلاحون من حوله يتجمهرون، يتبعها لقطة للقتيلة مع صوت الأم الصارخ في لوعة “جميلة.. ضناي”.(12) وهذه الخاتمة الغليظة أزعجت يحيى حقي إلى حدّ أنه التمس من مخرج الفيلم حسن كمال في مقاله الأسبوعي “مع الناس” أن يغيرها إن استطاع إلى ذلك سبيلاً.(13) وليس ثمة من شك إنها ترجع إلى تجريد الشخصيات في الفيلم من أحد جوانبها الروحية الهامة، ألا وهو الدين. فالمتفرج لا يعرف أن جميلة أرثوذكسية، وأن خليل من القلة القليلة البروتستنتية. وكذلك الحال بالنسبة للشخصيات التي على صلة بهما، فهي جميعا وبلا استثناء، مجهولة الدين بلا أسماء. ومن ثم، فاختتام الفيلم بصوت جرس الكنيسة الصغيرة يدق إشعاراً بالموت أصبح، والحالة هذه من قبيل المحال. بل إنه حتى بفرض أن المستحيل تحقق، فحلّت خاتمة القصة محل خاتمة الفيلم استجابة لرغبة مبدع قصة “البوسطجي”، لما تلّقى المتفرج المتعجب من دقات الجرس الرسالة. إن جميلة ماتت مقتولة، ولظل في حيرة ما بعدها حيرة، لا يجد معها لتلك الدقات تفسيراً. ولقد حاولت مراراً وتكراراً، وسيناريو ذلك افيلم في مرحلة التكوين، اقناع كاتبه بضرورة بيان ما بين أبطال القصة الثلاثة من تباين في الأديان ولكن جميع محاولاتي باءت بالفشل الذريع، لا لسبب سوى الخوف من رسم شخصيات الأبطال الثلاثة رسماً صادقاً، ووضع هويتهم الدينية في الاعتبار. ونتيجة لذلك الخوف جاء الفيلم مشوهاً لشخصيات قصة يحيى حقي، منتهياً بمشهد أخير أغضبه إلى حد التماس تغييره.

أما الأفلام الثلاثة الأخرى، فقصتي معها تبدأ بفيلم “ينابيع الشمس”، وهو فيلم تسجيلي ألفه وأخرجه جون فيني القادم الينا من نصف الكرة الأرضية الجنوبي، وبالتحديد نيوزيلاندا، وفيه يحكي ملحمة جريان نهر النيل بدءًا من وسط أفريقيا والحبشة حتى مصبه في البحر الأبيض المتوسط، وكيف كانت منابعه سراً مثيراً للحيرة وكثرة السؤال، بدءًا من  فجرالتاريخ، وحتى اكتشافها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. فإلى عهد قريب، كان يظن البعض أن مياهه تأتي من سحابة معلقة فوق أرض إثيوبيا، والبعض يظن إنها تنحدر من جبال القمر، والبعض الآخر يتصور إنها تتفجر من ينابيع الشمس. ومن خلال تجوال الكاميرا مع النيل في رواندا وأوغندا والسودان والحبشة ومصر، نراه في المهد قطرات، تتحول إلى نهيرات  فبحيرات، فشلالات، فمستنقعات تنحصر بعد مئات الكيلومترات في نهر كبير، تحاصره الصحراء، حتى يزدهر في حضارة سبعة آلاف عام. تمتد من عصر الفراعنة.(14) ولأمر ما تعثر توليف “ينابيع الشمس” فجاء صاحبه جون فيني إلى الرقابة شاكياً، ملتمساً عرض نتاج فيلمه اليومي Rushes.

ولقد اتضح، بعد عرض ذلك النتائج أكثر من مرة على نفر من المفكرين والصحفيين والنقاد، أن شركة الأنتاج السينمائي التابعة لمؤسسة السينما تناصب الفيلم العداء، ولا تريد لصاحبه أن يستكمله بأي حال من الأحوال. وفي عدائها تذرعت أولاً بخلو الفيلم من مشاهد تشيد بأمجاد البناء والتعمير على ضفاف النيل في مصر إثر ثورة الضباط الأحرار وثانياً بوجود بعض لقطات تصور صعيد مصر متخلفاً، فلاحوه يرفعون ميا النيل بالشادوف، ومع حركته، وهو يغترفها، يُسمع صوت امرأة تردد “أيتها الحبال من لوف النخيل، والأزرع المثقلة بالمياه لآلاف السنين كان على الإنسان أن يعمل بالشادوف ليرفع الماء الذي لا يسقط من السماء” وما أن يسكت صوتها، حتى يسمع صوت صرير خشب يعطي الإحساس بالأنين مع دوران إحدى السواقي، وفي هذه الأثناء يقول الراوي “لأربعة آلاف عام، ظل النيل يستمع إلى سواقي مصر المنتحبة في رقة. وظلت القدور ترفع روح النهر الواهبة للحياة، وتصبها في رفق على جسد الأرض”. فكل ذلك التركيز على الشادوف والساقية مع تجاهل آلات الري الحديثة المنتشرة بطول وعرض البلاد تجاهلاً تاماً، اتخذت منه الشركة دليلاً على قصد مخرجه الأجنبي، ألا وهو تشوية صورة مصر الحديثة، بإنكار قفزاتها الرائعة نحو الأمام. وعلى كُلٍ، فبفضل عروض الرقابة لنتاج الفيلم اليومي، وما صاحبها من حملات صحفية على صفحات الجرائد والمجلات، دفاعاً عن الفيلم ومخرجه، استطاع الأخير توليفه على الواجه المرسوم في مخيلته. ولكن مع تنازل واحد، اضطره إليه وزير الثقافة وقتذاك، ذلك التنازل انحصر في إضافة عدد من اللقطات للقاهرة ليلاً، من بينها لقطة لفرقة باليه ترقص على خشبة مسرح دار الأوبرا، تلك الدار التي أتى عليها حريق، فيما بعد، أثناء سنوات حكم السادات.

ولم يكن “المتمردون” للمخرج توفيق صالح أقل حظاً معي من “ينابيع الشمس” فرغم أن نفراً من الرقباء، اعترض على عرضه ، ونفراً آخر اقترح في حالة الترخيص بعرضه، حذف لقطات كثيرة حماية للنظام العام، ومصالح الدولة العليا، فقد رخصت بعرضه على الكافة دون أي حذف. والفيلم مأخوذ عن قصة للأديب والصحفي الراحل صلاح حافظ، بطلها طبيب شاب متخصص في علاج المرضي بداء السّل. يصاب به فيدخل إحدى المصحات، وسرعان ما يكتشف نقائص خطيرة في إدارة تلك المصحة وبعد محاولات منه لاصلاح إدارتها، باءت جميعها بالفشل، وجد نفسه متزعماً لتمرد عنيف قام به مرضى المصحة ضد الاستبداد. وفي البداية بدا وأن التمرد قد توّج بالنجاح، فرئيس المصحة المستبد طريد، وإدارتها في أيدي المرضى المتمردين! غير أنه سرعان ما يتحول النصر إلى هزيمة، عندما تسحق قوات الأمن العصيان، وتعود الإدارة أكثر استبداداً. وقد فسر كل ذلك من قبل الكثير، بما فيهم وزير الثقافة، بما معناه أن المصحه إنما ترمز إلى معسكر اعتقال ــ وما أكثر المعتقلات في عصر ثورة الضباط الأحرارــ وأن الطبيب الشاب الذي قاد التمرد، إنما يرمز إلى عبد الناصر. فمقاطع كثيرة من حواره لا تعدو أن تكون ترديداً لشعارات وعبارات منقولة حرفياً من خطب ألقاها عبد الناصر. وفي لحظة حاسمة من لحظات التمرد نرى الطبيب يتوجه إلى المرضى بحديث يشرح فيه ببساطة وحرارة ضرورة النضال حتى الموت من أجل الكرامة، تلك الكلمة التي كان عبد الناصر دائم الترديد لها، كلما توجه إلى الشعب بالخطاب. ونتيجة لذلك التفسير الذي يشير ضمنيا إلى فشل الثو ة، تدخل وزير الثقافة في الفيلم بالحذف والتشوية على وجه أساء إليه كثيراً.(15) وكان ذلك بعد إلغاء انتدابي إلى الرقابة في 24 أبريل 1968.

ولعلي لست بعيداً عن الصواب إذا ما قلت إنه فيلم فريد وملعون في آن معاً. وهاتان الصفتان لا يضارعهما سوى فيلم آخر ألا وهو “المومياء” للمخرج شادي عبد السلام، وقصة المومياء، تبدأ مع مجيء “روبرتو روسيلليني” رائد الواقعية الجديدة إلى مصر بدعوة من وزير الثقافة، وذلك للإشراف على إنشاء مركز سينمائي من بين أهم أهدافه صنع أفلام تتناول تاريخ مصر قديماً، وبالذات عصر الفراعنة. ولولا حماسه الشديد لملخص القصة القائم عليها سيناريو فيلم “المومياء”، لما استطاع شادي عبد السلام أن يواصل المشورا، فهو، أي روسيلليني، الذي وقف وراءه مؤيداً ومسانداً. ولكن هذا التأييد والمساندة أصبحا مهددين لأن بقاء روسيلليني في مصر أصبح على كف الرحمن. فالصرح الثقافي الذي تم تشييده على مر السنين اللاحقة للثالث والعشرين من يوليه سنة 1952، ذلك الصرح زلزلته هزيمة الخامس من يونيه في ساعات وها هو ذا روسيلليني بين الأطلال متهم من قبل رئيس مجلس إدارة شركة الانتاج السينمائي ــ دون وجه حق ــ بالنصب والاحتيال.

ولم يكن أمام شادي عبدالسلام إزاء هذه الأهوال سوى العمل من أجل استصدار قرار على وجه السرعة من قبل الرقابة، يرخص له بالتصوير، وسط هذه الظلمة القاتمة والسواد المخيف، ومن هنا كان مجيؤه إلى مكتبي في الرقابة، ومعه سيناريو “المومياء”، ملتمساً إجازته في أسرع وقت ممكن. وليس في كل هذا شيء غريب، ولكن الغريب هو أن يكلمني هاتفياً فور هذه الزيارة رئيس مجلس إدارة تلك الشركة، كي يطلب مني طلباً عجيباً، خلاصته ألا أوافق على سيناريو “المومياء” لأنه سيناريو متحذلق، والفيلم المبني عليه، فيما لو رأى النور، سيكبد الشركة خسائر فادحة، هي في غنى عنها، خاصة إنها تعاني من ضائقة مالية لن يكتب لها النجاة منها، إلا بفضل أفلام تحقق نجاحاً في الشباك. والشيء الذي ليس فيه شك أن “المومياء” لا يدخل في عداد تلك الأفلام، وقد يكون من الخير أن يمنع من المنبع أي من مرحلة الرقابة، حتى تجنب الشركة خطر الإذعان لأمر وزير الثقافة الواقع تحت تأثير نفر ( يقصد روسيلليني ومن جاءوا به إلى مصر) لا يعنيه مصلحة الشركة في كثير أو قليل. عندئذ ذكرت له أن احتمال فشل الفيلم تجارياً ليس من الموانع الرقابية التي تحول دون إجازة السيناريو. فالمنع بحم القانون محدود بأحد أمرين لا ثالث لهما، مخالفة المصنف الفني للنظام العام، أو لحسن الآداب. والأكيد أن احتمال فشل الفيلم تجارياً، لا يشكل مخالفة لكليهما لا من قريب ولا من بعيد. وانتهى الحيث ودياً، أو هكذا بحسن نية ظننت. وكم كنت واهماً فما هي إلا أيام، حتى كان قد بدأ الحديث الهاتفي مرة أخرى لأسمع صوت رئيس مجلس الإدارة يكرر المطالبة بعدم الموافقة على السيناريو، ويقيم طلبه على سبب متصل بالنظام العام، لا بالشباك، هو اكتشاف أن الفيلم معاد للقومية العربية، ولأني وجدت أنه لا جدوى من التحاور معه في ذلك الاتهام الواضح الافتعال، فقد وعدته خيراً. وكان خير ما فعلته أن أسرعت بالموافقة على سيناريو “المومياء” أو “ليله حساب السنين”.

هذا وقد تبين لي من تجربتي في حقل الرقابة، أن القوانين والتعليمات المجحفة بحق المبدعين وحريتهم ليست إلا جزءًا من العوائق التي تقف حجر عثرة أمام الموهبة السينمائية. فجو التشنج الفكري واعتبارات العلاقات العامة وتدخل أصحاب النفوذ تضيف إلى تعسف هذه القوانين وتزيد من تضييقها على حرية التعبير السينمائي سواء بطريقة تفسيرها للقونون أو عن طريق الضغوط الإضافية التي تثقل بها كاهل الرقيب.

هوامش

1-      اعتدال ممتاز مذكرات رقيبة سينما ــ 30 عاماً ( القاهرة:ا لهيئة المصرية العامة للكتاب، 1980) ص 31.

2-      المجموعة المتضمنة لقانون رقم 430 لسنة 1955، طبعة رابعة (القاهرة: الهيئة العامة لشؤن المطابع الاميرية، 1992) ص 71.

3-      المرجع السابق، ص 113

4-      علي الراعي دراسات في الرواية المصرية (القاهرة: المؤسسة المصرية العامة للتاليف والترجمة. 1964) ص 184 .

5-      يحيي حقي “البوسطجي” من مجموعة دماء وطين ( القاهرة: المؤسسة المصرية العامة للكتاب، 1979) ص 48 .

6-      المرجع السابق،  ص 48 .

7-      المرجع السابق، ص 27 .

8-      المرجع السابق، ص 51

9-      المرجع السابق، ص 61

10ـ المرجع السابق، ص 60

11ـ المرجع السابق، ص 75

12ـ صبري موسى سيناريو فيلم “البوسطجي” (القاهرة: دار روزاليوسف [الكتاب الذهبي] د.ت)

      ص 135ــ 136

13ـ يحيي حقي “مع الناس” جريدة المساء ( 6/5/1968).

14ـ محمد شفيق، “ينابيع الشمس، مشكلة الفيلم التسجيلي”، مجلة السينما” ( أكتوبرـ نوفمبر 1970)

     ص 32 وما بعدها

15ـ راجع :

Raymond  William  Baker. “Egypt in Shadows: Films and the Political Order.” American Behavioral Scientist XVII:3 ( Jan/Feb.1974). pp. 393-423