لو لم يجئه الموت ليلة عيد الميلاد المجيد قبل اثنتين وعشرين عاماً أو يزيد، لكان له في منتصف الشهر من العمر مائة عام.
والغريب أن ثمة اختلافاً حول يوم ميلاد هذا المتشرد الصغير الذي يسير في الأفق وحيداً، مرتدياً قبعته الطاسة، وحذاءه المرتخي الكبير، محاكياً مشية البطة أو طيراً من هذا القبيل.
فهذا اليوم حسب الإعلان عن مولده ببيان إلى الناس نشر في مجلة “الماجنت” اللندرية بعددها الصادر في الحادي عشر من مايو لعام 1889 هو الخامس عشر من شهر أبريل.
أما إذا رجعنا إلى مؤلفه الضخم الذي ضمنه سيرته تحت عنوان “قصة حياتي” فسنجده مستهلاً لها على الوجه الآتي.
الأقدار الساخرة
“ولدت في 16 أبريل 1889، الساعة الثامنة مساء”.
والأغرب أن يجئ مولده في نفس السنة، بل وفي نفس الشهر الذي ولد فيه “أدولف هتلر”..،.. وألا يكون ثمة فرق بينهما في السن سوى بضعة أيام، فالأخير”هتلر” يصغر “شارلز سبنسر شابلن” بخمسة أيام فقط لا غير.
والأكثر غرابة، أن تلتقي حياتهما، وهما في سن الخمسين، لا في الواقع، وإنما في الخيال عندما تقمص “شابلن” شخصية “هتلر” في واحد من أكثر أفلامه جرأة “الدكتاتور العظيم”.
وفي وقت كان كلاهما في أوج المجد، الأول أشهر فنان في العالم يأسر بمتشرده الخالد قلوب الملايين والثاني أشهر طاغية يتوعد الإنسانية بحكم استبدادي لو كتب لجيوشه أن تنتصر لدام ألف عام.
وشهرة شابلن العالمية قد اكتسبها– والحق يقال- في تاريخ سابق على اكتساب هتلر لها بأكثر من خمسة عشر عاماً، لا بفضل دسائس ومؤامرات دموية، وإنما بفضل لقاء نادر.. لقاء الحظ بالعبقرية.. كيف؟
اللقاء السعيد
في الثامن والعشرين من فبراير لعام 1914- أي ولشابلن من العمر خمسة وعشرون عاماً- جاء استديو “كيستون” بهوليوود نبأ من “فينيس” في ضواحي “لوس انجلوس” مفاده أن ثمة سباقاً لسيارات الأطفال.
وطبعاً سارع “ماك سينيت” ساحر السينما الضاحكة الصاخبة وصاحب الاستديو إلى استدعاء “شابلن” الممثل الناشئ، طالباً إليه أن يبحث عن ملابس هزلية يتسكع بها- وهو مرتديها– أمام الكاميرا، وهي تصور ذلك السباق.
وهمست الأقدار في أذن “شابلن” أن يتوجه إلى ثلاثة من زملائه في الاستوديو وهم “ارباكيل” المشهور بالسمين و”مارك سوين” و”فورد سترلنج” فيستعير من الأول سرواله الواسع الفضفاض، ومن الثاني شاربه القصير الصغير، ومن الأخير حذاءه المرتخي الكبير.
وما لبثت الاقدار أن أخذت بيده ظهر نفس اليوم إلى مخزن للملابس بالاستوديو حيث اختار قبعة طاسة ومعطفاً ضيقاً وعصا.
وهكذا، وبفضل هذه الملابس، وبفضل هذا الشارب والعصا خرج إلى النور متشرد شابلن الذي سيكتب له الخلود في عالم الاطياف.
مولد متشرد
ونحن لو رأينا “سباق الأطفال في فينيس”– وهو ثاني أفلامه– ولم نكن على علم بأنه لشابلن لتعرفنا عليه فور ظهوره على الشاشة البيضاء ولأحسسنا أن أمامنا بعضاً منه، هذا البعض الفوضوى الذي لا هم له إلا المشاغبة والمداعبة والسخرية من رجال الشرطة والمصورين والأطفال المتسابقين.
ولو أتيحت لنا فرصة مشاهدة فيلمه الرابع “بين الأمطار” لظهر أمامنا المتشرد شابلن بملابسه الرثة الممزقة، وهو يتعارك مع رجل متواجه متأنق من أجل شمسية وقلب حسناء.
فإذا ما فاز بالإثنين معاً، رأيناه يستدير فجأة، يمشي مشية البطة مبتعداً والشمسية بيمينه وظهره إلينا نحن المتفرجين.
ولاستطعنا– بعد هذا المشهد– أن نقول وكلنا ثقة..،.. لقد رأينا مولد شابلن بتكوينه الخارجي، بظاهره الأسطوري الذي يظل متواصلاً دون انقطاع إلى أن تمر الإنسانية بمحنة حربين عالميتين.
صوت الماضي
والحق، أنه ما كان في إمكان “شابلن” أن يكتمل مظهراً وروحاً خلال السنة الأولى من عمره السينمائي.
فهو كان يعمل عند مكتشفه “سينيت”.
وهو كان مطالباً بأن يمثل ويخرج فيلمين من ذلك النوع المضحك الذي عرف تحت اسم “كوميديات كيستون” وفي مدة لا تزيد على سبعة أيام.
وهو كان ملزماً باتباع أسلوب في الإضحاك لا يختلف في كثير أو قليل عن أسلوب الشخصيات الأخرى التي تمثل في أفلام “كيستون”.. وهي أفلام قوامها المطاردات وتبادل الضرب بالعصى وبفطائر الكريم.
أفلام تسخر من كل شيء، تحطم، تدمر، تعربد في إيقاع سريع صاخب، إلى الجنون أقرب.
وعن طيب خاطر قبل “شابلن” المشاركة في لعبة التحطيم والتدمير والعربدة هذه.
ولعله بهذه المشاركة كان مستجيباً لصوت من الماضي يريد أن ينتقم، بطريقة فوضوية، لشقائه في لندن وقت أن كان طفلاً يتيماً، معذباً بالفقر.
أفلام شيطانية
“فشارلز شابلن”- وهو الاسم الدعائي الذي أختير له بداءة- في أفلام سنة أولى سينما– على النقيض تماماً من شابلن الرقيق، الضعيف. إنه ممسوس بالشر والغضب، يضرب بعنف الأزواج ورجال الشرطة والأقوياء.. ولا يهزم أبدا.
وهو كسول، محب للترف، بخيل، سريع الغضب وفوق كل هذا جبان.
ولو جمعنا الأفلام التي مثلها “شابلن” الشاب خلال سنة أولى سينما لكونت كلاً واحداً متجانساً، سواء أكان هو الذي أخرجها أم “سينيت” أم واحد من أعوان الأخير.
بل أنها لو ضمت لبعضها البعض لخرج منها فيلم يدوم عرضه بضع ساعات .
ولأمكن أن يطلق عليه “مغامرات شارلز شابلن البهلوانية” ذلك الاسم الذي اختاره الناقد “جورج سادول” عنواناً لجميع أفلام شابلن في سنته الأولى مع السينما، وهو اسم يعبر بحق عن جوهرها، فهي لا تنهض إلا بفضل حضوره السينمائي ومطارداته وبهلوانياته وحركاته التقليدية الصامتة.
التحرر كيف
أما الواقع الاجتماعي ونقده فليس فيها منه إلا نزر يسير نراه أكثر ما نراه في “حياته الموسيقية” حيث يجر شابلن وهو على منحدر تل، عربة تحمل بيانو وكأنه حمار فقير معبراً بهذا المشهد الأليم عن معاناة الرجل الصغير. غير أن هذا النغم الإنساني خافت يكاد لا يسمع وكان لابد لسماعه سائداً من أن يتحرر شابلن من عالم الإضحاك غير الإنساني، كما تتحرر الفراشة من الشرنقة.
أن يتحرر شابلن من المهرج الساخر من كل شيء المحطم المدمر لكل شيء حتى يولد شابلن الذي نعرفه شابلن الإنسان.
وعلى كُلٍ، فمع فيلم “شارع الهوى” (1916) نستطيع أن نقول أن شابلن قد ولد من جديد.
ولو تتبعنا أفلام “شابلن” اللاحقة لهذا التاريخ لوجدناها تزداد عمقاً وإنسانية على مر الايام.
الحرب والسلام
وفي الحق، فكل واحد منها يستحق منا وقفة طويلة غير أنني سأكتفي- لضيق المجال- بالوقوف وقفة قصيرة عند فيلمين من مجموع إبداعه فيما بين “شارع الهوى” و”الكونتيسة من هونج كونج” (1967).
والفيلمان هما “الدكتاتور العظيم” (1940) و”مسيو فيردو” (1947).
من المعروف أن “شابلن” قد تقمص في الفيلم الأول شخصيتين أحدهما شخصية دكتاتور أسماه “هينكل” قاصداً به “هتلر”.
والأخرى شخصية حلاق من المستضعفين في الأرض ينتهي الفيلم به حالاً محل الدكتاتور، مرتدياً ملابسه العسكرية موجهاً الخطاب من المنصة بوصفه الزعيم إلى شعب “تومانيا” (ألمانيا).
وهو في خطابه هذا لا يعلن الحرب كما كان الزعيم مخططاً وإنما يعلن السلام.
والعجيب أنه وكما اختفى الطاغية فجأة من فيلم “الدكتاتور العظيم”، اختفى المتشرد هو الآخر من جميع ما أخرج شابلن بعد ذلك من أفلام.
القاتل الفاضل
وظهر بدلاً منه بادئ ذي بدء “مسيو فيردو” ذلك الرجل المزدوج الشخصية الذي عبّر به شابلن مجازاً عن محنة الإنسان المعاصر.
فهو رب أسرة فاضل يعول زوجة مشلولة وطفلاً جميلاً. وهو في نفس الوقت زير نساء يتزوج في الخفاء أرامل مسنات واسعات الثراء بغرض الحصول على ثرواتهن بعد التخلص منهن بالقتل حتى يتمكن من توفير وسائل الراحة لأسرته، ويجعلها بمنجاة من الشقاء.
فإذا ما حكم عليه قريباً من نهاية الفيلم بالإعدام رأيناه، وقبل أن يذهبوا به إلى المقصلة، يتوجه إلينا بالخطاب ساخراً.
“جريمة قتل واحدة تصنع شريراً، وملايين الجرائم تصنع بطلاً”.
وقد يبدو أنه ليس ثمة علاقة بين شابلن المتشرد وبين “فيردو” القاتل المحترف.
وفي الحقيقة فالأخير لا يعدو أن يكون استمراراً للأول، ولكن في أزمنة أكثر إجراماً، أزمنة ما بعد كارثة هيروشيما.
بل أنهما وجهان لشخصية واحدة، شخصية مبدعهما الذي أطل على العالم منذ مائة عام.
ولم يتركه إلا وكان قد ترك في الفن السابع أثاراً بعيدة عميقة ليس إلى محوها سبيل.