يحيي حقي محباً ناقداً للسينما

نشأت في أسرة تعشق السينما رجالاً وصبياناً، لا يخرج حديث مائدة العشاء عن ذكر الأفلام القديمة والحديثة والقادمة وعن ترديد أسماء الممثلين في إيطاليا وألمانيا وأمريكا والمقارنة بينهم. لا أشترك في الحديث– لصغر سني- بل تلتقط أذناي منهم كل كلمة تقال.
هكذا حكى صاحب قنديل أم هاشم الذي لا يجئ ذكر لاسمه إلا وتذكر هذه النفيسة التي يزداد ما تقطره من زاد على مر الأيام عطراً وسحراً.
قصة حب
هكذا حكى يحيى حقي لنفسه ولنا في فاتحة المجلد العاشر من الكتابات النقدية في السينما كيف وقع في غرام السينما قبل خمسة وسبعين عاماً أو يزيد، أي وهو يتحسس طريقه صبياً لا يزال.
وعلى كُلٍ، فهذه الفاتحة الصغيرة الكبيرة القيمة قد كشفت لنا عن جانب مضيء في صاحب القنديل انفرد به دون أدبائنا الكبار جميعاً، وهو شغفه بالسينما، واتقاد شرارة هذا الشغف، في قلبه على وجه انعكس في شدة اهتمامه بالفن السابع وحسن تلقيه لما كان يشاهد من أفلام، وسرعة تصديه بالكتابة فيما ارتآه منها حدثاً سينمائياً هو في الغالب كذلك بفضل رؤية عميقة تستند إلى ذكاء وعلم وسع الكثير من لغة العصر.
وأول ما يلاحظ على هذه الكتابات أنها رفيعة المستوى في الأسلوب لا تجنح إلى استعمال غريب الألفاظ بل على العكس تميل إلى ما كان منها سهلاً ممتنعاً يسيل سيل نبع وديع لا يعكر صفوه لفظ واحد خارج ثقيل.
ولا غرابة في هذا، وقد عاش في بيت وصفه في حديث أجراه معه الأديب فؤاد دوارة صاحب الفضل في خروج هذه الكتابات إلى النور منذ خمسة وعشرين عاماً إلا قليلاً، وصفه بأنه كان يغلب على جوه أولاً: شيء من الإعجاب برشاقة اللفظ والابتهاج بالتوفيق في العثور عليه. وثانياً: نوع من الحياء بحيث ينتبه إلى زلة اللسان مهما كانت طفيفة.
قوى الظلام
وكم هو مثير للحزن، أن معظم هذه الكتابات قد شاءت لها الأقدار الظالمة أن تنشر في صحف قليلة التوزيع والتأثير كما المساء والتعاون.
وأن تحجب بذلك عن قراء صحف ذات جلال في كل العهود مثل الأهرام والأخبار. فلو لم يحدث هذا العزل غير العادل لكان للنشر أثر كبير. ولما انحدر النقد إلى مستواه المتدني حالياً. ولن أتوقف ولو قليلاً عند وليمة الكلمات في كتابات وأسلوب أديبنا الموهوب فهي وليمة دسمة غنية عن أي بيان.
وإنما أتوقف عند ظاهرة صفاء ونقاء هذه الكتابات وخلوها من شوائب العبارات العوراء التي تمتهن النقد بالكراهية والقبح والبذاءات. خذ مثلاً ما كتبه في نقد فيلم “البوسطجي” المأخوذ عن رائعته التي بنفس الاسم.
القاعدة والاستثناء
إنه قلق إزاء إخراج حسين كمال لهذا الفيلم غير مرتاح له ارتياحاً تاماً. فماذا كتب؟ بداءة كتب أنه قبل أن يرى الفيلم لأول مرة في الأسبوع الثاني من عرضه قد استمع لآراء عديدة عنه تتراوح بين الثناء الشديد والذم الشديد.
(هذه ذريعه لبيان أن– وهو صاحب القصة– لم يشاهد الفيلم قبل عرضه على الجمهور، بل أن مشاهدته له قد تأخرت إلى ما بعد انتهاء الأسبوع الأول).
وما أن انتهى من هذه المقدمة التي كشفت عن قلة ذوق صانعي الفيلم حتى انتقل إلى تباين الآراء فيه متخذاً منها برهاناً على أنه قد شذ عن بقية أفلامنا العديدة التي لا ترتفع لمستوى النقد. وهذا نجاح من العدل والإنصاف أن نقر له به مهما اختلف حكمنا عليه.
أنه جعلنا نترك مقالب الزبالة أو مقابر الأموات لنخالط الأحياء في العمار، أصحاء كانوا أم معلولين فالمطلب الأول في العمل الفني هو دبيب الحياة فيه.
الفلك المستقل
وبعد الكلام عن القصة والخيطين اللذين انعقدا فيها وأراد لهما القدر أن يتشابكا. الخيط الأول مفتول بصدقه فتلاً فوتوغرافياً عن الواقع، وهو مصرع جميلة الخاطئة على يد أبيها.
والخيط الثاني من محض الخيال. مأساة البوسطجي، هذا الشاب القاهري الذي يفترسه الملل في الصعيد المحايد الذي لا عليه ولا له يقلب كما أبله دوستيافسكي كل مجتمع يخالطه.
استطرد في محاولة منه لتبرئة الفيلم من تهمة إهدار صاحبه روح القصة، قائلاً: دعوا القصة جانباً، الفيلم عمل فني مستقل بذاته، أننا نحاسب من داخله لا من خارجه، والمخرج هو صانع الفيلم لا كاتب القصة، وكل نجاح أو فشل للفيلم ينبغي أن ينسب كله للمخرج.
غربة ورجاء
ولكنه ها هو ذا قريباً من نهاية المقال يستسمح الأستاذ حسين كمال في أن يقول له ناصحاً بأن لا يرسل الفيلم لمهرجان كما هو، فإن حساسية الذوق في أوروبا تأبى أن يرى المشاهد بعينه منظر السكين في يد الأب وهو يطعن بها ابنته كأنها شاة أو دجاجة.
والقصة تركت جميلة ولا شيء يدل على قتلها إلا دق أجراس الكنيسة. متمنياً عليه وعلى شركة القاهرة للإنتاج السينمائي لو كان في استطاعتهما إعداد خاتمة أخرى غير هذه الخاتمة. وطبعاً لم تسمع لا الشركة ولا المخرج لقول الأديب الأريب. وبقيت الخاتمة كما هي دون أي تعديل.
مثل آخر لهذا النقد الفريد الأقرب إلى التلميح منه إلى التصريح ما كتبه اولا في حق فيلم “الحياة، الحب، الموت”. لصاحبه المخرج الفرنسي كلود لولوش المعروف بغلوه في الانتصار للصهيونية. في هذا الفيلم عالج لولوش قضية الحكم بالإعدام وهل يجوز للمجتمع أن يقتل القاتل فيماثله بل لقد يفوقه قسوة.
مصائب قوم
والبطل الذي وقع عليه اختياره للفيلم فتى أسمر منحدر من أصل جزائري، عنين مصاب بمرض نفسي دفع به إلى خندق عدد غير قليل من المومسات. وزاد المخرج من تعدد وتشابك الخيوط التي تصور هذا البطل رجلاً ممزقاً بين العقل والجنون، بين الاستقامة والشذوذ بأن جعله أيضاً لصاً يسرق وفي يده مسدس يهدد به ضحاياه.
ومع كل ذلك فالمخرج يقول أن قتل مثل هذا الرجل المريض الضعيف جزاء على جرائمه، إنما هو نوع من السادية. ولذلك أطال في تصوير عذابه في السجن انتظاراً ليوم إعدامه. بل صوره لنا وهو يقاوم جلاديه ساعة أن سحبوه للمقصلة، فإذا بهم يجرونه بعنف جراً.
وثانيا ماافرده لكل واحد من المخرجين صاحبي الفلاح والينابيع في أكثر من مقال.
تمنيات وأحلام
وكم كان أديبنا بعيد النظر عندما دعا الله في ثالث وآخر مقال له عن الفلاح الفصيح أن يحرس نجم شادي في ضلوعه، وأن ينجيه من المخاطر، مخاطر الاغترار بالنفس تأتيه من داخله، ومخاطر العقبات الجسام التي تلقيها في طريقه تحكمات الروتين الحكومي أو بعض الذين يعدون كل نصر لغيرهم هزيمة لهم. أو الذين يمنحهم فقرهم الغني ثراء فاحشاً في الهجوم والتجريح. ولا عجب في كل هذا الحماس للسينما التسجيلية في فنان ولهان بحب شعب مصر يحلم بفيلم عن النخلة، تلك الشجرة العجيبة ذات الخط الواحد أم الخير والبركة.
ويحلم بفيلم آخر عن الغراب، هذا الطائر العجيب الذي يعيش بيننا ولا نتنبه له كثيراً. وبفيلم ثالث عن نيلنا العظيم من منبعه إلى مصبه. يعرض علينا حياته وشطآنه وصخوره ومختلف شعوبه وحيوانه ونباته.
وفي الحق، فلم يتحقق من هذه الأحلام سوى فيلم واحد، ينابيع الشمس الذي استغرق إعداده خمسة أعوام كاملة (من 1962 إلى 1967). كما استغرق تصويره ستة شهور، واقتضى السفر إلى أوغندا والحبشة والسودان والصعود إلى أعالي جبال القمر، هذا الفيلم التحفة معروض الآن في القاهرة (أبريل1970).
سأواري وجهي من الخجل إذا لم يشتد الإقبال عليه، أتمنى أن أرى على باب السينما زحاماً لا يقل عن الذي تحظى به أفلام الجنس والجريمة أو رعاة البقر الأمريكان.
ولابد أنه أخفى وجهه خجلاً عندما علم أن الفيلم قد فشل، فلم يستمر عرضه في دار السينما سوى أسبوع بالكاد كان هو الأول والأخير.
الصيحة والصدى
وكم كان متفائلاً أديبنا عندما كتب منادياً هيا بنا نعرضه سريعاً في المدارس والقرى، وفي التليفزيون بعد وقت غير طويل والمسامح كريم يا مؤسسة السينما. ثم نبذل كل جهدنا– وهذا هو الأهم في الترويج لهذا الفيلم في الأسواق الخارجية للعرض السينمائي والتليفزيوني.
يكفي أن اسم مصر سيتردد على الألسن، ويعود مقامها الجليل في الحضارة إلى الأذهان. كم كان متفائلاً فشيء من هذا لم يحدث، لم يعرض ينابيع الشمس لا على الشاشات الكبيرة أو الصغيرة في الخارج حتى هذه الساعة. كما لم يعرض على شاشات تليفزيون بلدنا إلا في العام الماضي بمناسبة إعادة الاحتفال بوفاء النيل.
ولست أشك أنه لو وصل إلى علم أديبنا صاحب دمعة وابتسامة ما واجه ينابيع الشمس من أهوال تفوق كل خيال لاستمر هادئاً متفائلاً لا تفارقه ابتسامته الويعة المشبعة بروح العطف. فهو من تلك الفئة القليلة التي لا ترى ما يدور حولها بمنظار قاتم. هو من القلائل أصحاب القلوب الكبيرة التي تحمل لنقائص الإنسان ونقائضه عطفاً كثيراً ورثاءً غير قليل.