تحية لسينما جمعت بين الجرأة والجمال

توقعت وانا في طريقي الي المعهد الثقافي الايطالي لمشاهدة »قصة جريمة« اول افلام اسبوع السينما الايطالية، ان اري حشودا من هواة السينما المولعين بالواقعية الجديدة ومن احباب الثقافة الايطالية قراء »دانتي« و»بوكاشيو« و»بازوليني« و»امبرتو ايكو«. وتخوفت من ان يؤدي تزاحم هذه الحشود مع الجالية الايطالية الي الحيلولة بيني وبين مشاهدة الفيلم او في افضل الفروض مشاهدته واقفا. ولكن شيئا لم يحدث مما توقعته، وكنت منه متخوفا.. وجدتني، وسط الحضور، ليلة الافتتاح، وكلهم من الجالية الايطالية المصري الوحيد.
واستمر الحال علي هذا المنوال، اثناء عروض الليالي التالية، باستثناء ليلة عرض فيلم »النمر والثلوج« حيث كان بين الحضور نفر قليل من ابناء وبنات مصر المحروسة ممن يدرسون اللغة الايطالية بالمعهد او بمدرسة الالسن.
ولعل ذلك يرجع الي ان الفيلم يعرض لمأساة احتلال قوات التحالف للعراق، قبل ثلاث سنوات، في شهر مارس بالتحديد، واول ما يلاحظ علي الاسبوع وعدد ما عرض فيه سبعة افلام روائية طويلة، وستة افلام روائية قصيرة ان رقابتنا الرشيدة لم تعمل علي غير المعتاد مقصها في مناظر العري والفراش.
ولعل ذلك مرده الي ضيق الوقت والاعتذار بأن العروض لحفلة يتيمة ولجمهور فريد، او الي ان الافلام المسجلة علي اسطوانات مدمجة يستحيل فيها الحذف واللصق مثلما كان يحدث قبل الثورة الرقمية مع اشرطة الافلام.
حقا، كانت مناظر العري والفراش قليلة ولكن رقابتنا الرشيدة ـ كما هو معروف عنها ـ لاتسمح بأمثالها ولا بأقل منها للغالبية الغلبانة من المصريين، ولا يفوتني هنا ان اذكر ان هذه المناظر مرت اثناء العروض دون ان تثير صرخة استنكار او دبدبة من اقدام.
وكعهدنا بالسينما الايطالية كانت الافلام ذات موضوعات متنوعة متصلة بالحياة جريئة مثيرة للجدل، فضلا عن ان ما فيها من تجديد كان كثيراً.
La bestia nel cuore ومن بين اللافت للنظر ان فيلمين روائيين طويلين من ابداع مخرجتين، احدهما »الوحش في القلب« لصاحبته »كريستينا كومينشيني« والآخر »العمل يعجبني« لصاحبته »فرانشسكا كومينشيني« وقد كان الفيلم الاول من بين الافلام الخمسة المرشحة لجائزة اوسكار افضل فيلم اجنبي »2006«، وهذا يعني انه كان متنافسا من اجل الفوز بتلك الجائزة مع الرائعة الفلسطينية »الجنة الآن«.
ولست مغاليا اذا ما جنحت الي القول بانه اي »الوحش في القلب« اكثر الافلام التي شاهدتها خلال الشهور الماضية جرأة، واثارة للجدل البناء، ولقد تركز كثير من الترقب واللهفة عليه، لكثرة مديح الصحافة الاجنبية له فضلا عن ترشيحه لجائزة اوسكار.
والحق ان كل افلام الاسبوع الاخري تهون وتشحب بجانبه فهو يروي قصة اغتصاب اب يشغل وظيفة مدرس ـ اي مرب فاضل ـ لابنه وابنته وهما صغار وكيف تغلبا بعد طوال معاناة علي آثار هذا العدوان.
وفيه، وكذلك في غيره من افلام الاسبوع وصلت حرفة السينما الي ذروة عالية من البراعة فشهدنا امثلة مذهلة علي براعة التصوير والتوليف »مونتاج« في فيلم »الوحش في القلب« وفي فيلمي »قصة جريمة« و»حيثما تكون« وكلاهما للمخرج »ميكيلي بلاشيدو«.
كا تركز اغلب الترقب والاهتمام علي »النمر والثلوج« آخر فيلم »لروبرتو بينيني« نجم الملهاة الايطالية والفائزة قبل سبعة اعوام باوسكار افضل ممثل رئيسي عن ادائه في »الحياة جميلة« الفائز هو الآخر، بأوسكار افضل فيلم اجنبي.
ومما يعرف عن »بينيني« انه ادي دورا محوريا في »صوت القمر« »1990« آخر فيلم للمخرج الاشهر »فيديريكو فيلليني« وانه يجمع الآن بين مهنتي الاخراج والتمثيل وفيلمه الاخير يتمحور حول شاعر ومحاضر »اتيليو دي جيوفاني«، ويؤدي دوره »بينيني« وحياته تدور حول باحثة في الشعر، منهمكة في تأليف كتاب عن سيرة شاعر عراقي »فؤاد« يعيش في المنفي »باريس« هربا من سجون ومعتقلات »صدام« وبطبيعة الحال، فما ان يسقط نظام صدام حتي يسرع »فؤاد« بالعودة الي بغداد.
واستكمالا لمؤلفها عن سيرته تسافر الباحثة واسمها »فيتوريا« هي الاخري الي العراق وعندما يتصل »فؤاد« بـ »اتيليو« هاتفيا ليبلغه خبر اصابة حبيبته »فيتوريا« في احدي الغارات يسرع هو الآخر بالسفر الي بغداد حيث يحاول انقاذها من موت اكيد وسط فوضي عارمة قل ان يكون لها مثيل، وتلك الاحداث تدور في جو اقرب الي جو »صوت القمر« فيلم فيلليني الاخير اي جو مشبع بالشاعرية والاحلام.
وليس محض صدفة ان تكون اكثر لقطات الفيلم سحرا هما لقطتا ظهور نمر هارب من سيرك وسط ضباب الصباح وسقوط الثلج خفيفا شفافا ناصع البياض وبهما يرمز صاحب الفيلم الي القوة والنقاء وكلاهما يذكرنا بلقطتين شبيهتين في »اني اتذكر« فيلم »فيلليني« الفائز باوسكار افضل فيلم اجنبي قبل ثلاثة وثلاثين عاما، وكأن »بينيني« بالنمر والثلوج انما يريد ان يقول ان الصراع الدائر حاليا في مشارق الارض ومغاربها، ان هو في حقيقة الامر الا صراع بين جحيم القوة ونعيم النقاء!! تحية لسينما جمعت بين الجرأة والجمال