حكايتي مع آخر فيلم للعندليب

كان يوم الخامس من شهر يونيه سنة 1967، كما قال عنه بحق المفكر الكبير زكي نجيب محمود، يوم الهول والذهول.

وقتها كنت أشغل مركز مدير الرقابة على المصنفات الفنية، وهو من المراكز المرموقة التي لها على مسار الفن تأثير كبير.

وكانت السينما في مصر المحروسة على وشك النهوض من كبوة، استمرت سنوات طوال.

ومن تباشير النهضة، أنه قبل يوم الهول والذهول، كان يجري الإعداد لانتاج أفلام رفيعة المستوى، مأخوذة عن أعمال لأدباء مصريين كبار.

ومن بين هذه الأفلام “البوسطجي” لصاحبه “حسين كمال” ومما يعرف عن هذا الفيلم أنه ثاني أعمال “كمال” السينمائية، فقد أخرجه بعد “المستحيل”.

وبفضله توّج “كمال” بجائزة الإخراج الأولى وأحيط بهالة من الإعجاب، حتى أن اسمه أصبح حسب قول “يحيى حقي” صاحب “البوسطجي” و”قنديل أم هاشم” من الأسماء التي تعلق عليها أكبر الآمال.

ولأمر ما، وبعد جهد جهيد، جرى عرض هذا الفيلم المتوّج صاحبه بتلك الجائزة، وهي من جوائز وزارة الثقافة، يوم الخامس عشر من شهر أبريل سنه 1968، أي بعد يوم الهول والذهول بسنة إلا قليلاً. وقبل إعفائي من رئاسة الرقابة بتسعة أيام.

في هذه الأثناء، وبفضل الشهرة الخاطفة، والمديح يكيل له بغير حساب، أخذ نجم مخرج البوسطجي في الصعود فبدأ التهافت عليه من قبل المنتجين وكتاب السيناريو ومشاهير المطربات والمطربين، بدءا من “شادية” وانتهاء بالعندليب الأسمر.

وانطلقت شائعات، تقول من بين ما تقول، أن ثمة سيناريو فيه من الابتكار الشيء الكثير، يجري تأليفه من أجل العندليب، بحيث لا تنعقد بطولته إلا له وحده، دون سائر المطربين.

وأن ترجمة ذلك إلى لغة السينما، ستسند حتماً “لحسين كمال” المخرج الصاعد الواعد.

وسرعان ما استبان لي أن كل ما قيل في شأن السيناريو والمخرج والعندليب لم يكن مجرد شائعات وإنما حقائق، ساندها طلب ترخيص رقابي، مرفقاً به سيناريو لفيلم مزمع انتاجه تحت اسم “أبي فوق الشجرة”.

وعلى غير المعتاد، كان السيناريو من تأليف ثلاثة، لا يجمع بينهم لا فكر ولا أسلوب حياة واحد، وهم “إحسان عبد القدوس” و”سعد الدين وهبه” و”يوسف فرنسيس”.

ووقتها كان الأخير المشرف الفني على نشرة نادي السينما الذي كانت قد بدأت عروضه، في مستهل سنة 1968 بقاعة ايوارت التذكارية، بمبنى الجامعة الأمريكية، المطل على ميدان قصر النيل (حالياً التحرير).

وبحكم أنني كنت عضواً في مجلس إدارة ذلك النادي ومشرفاً على إعداد نشرته الأسبوعية، فقد كنت دوماً على اتصال بفرنسيس.

ولأنه واحد من كتاب السيناريو الثلاثة، ولأن بطولة الفيلم المأخوذ عن سيناريو “أبي فوق الشجرة” ستنعقد للعندليب، فيما لو سارت الأمور كما هو مرسوم لها، دون مفاجآت.

فقد أسرع الرقباء بقراءة السيناريو وكالمعتاد جنح بهم الحذر إلى القول بأنه مشوب بمآخذ جسام.

أذكر من بينها على سبيل التمثيل، مأخذين أولهما أن الكثير من أحداثه تدور في ملهى ليلي تباع فيه الأجساد.

وثانيهما أن بطل الفيلم “العندليب” وأباه– لعب دوره في الفيلم “عماد حمدي”– كلاهما وقع في حب نفس بائعة الهوى– لعبت دورها “نادية لطفي”.

ولم أعر هذه المآخذ التفاتاً، وذلك لأن الرقابة، وقتها، كانت تنتهج نهجاً جديداً، جوهره الرخصة عن ثقة، والمنع في أضيق الحدود.

فضلاً عن أنه سبق للرقابة إجازة أفلام تباع فيها الأجساد، وإجازة ثلاثية الأديب الكبير نجيب محفوظ حيث يقع الابن في حب بائعة هوى كان لأبيه علاقة بها أيام اللهو واللعب.

يبقى لي أن أقول أن السيناريو لم يكن به هذا العدد المهول من القبلات التي تبادلها العندليب مع نادية في الفيلم، وكانت أحد أسباب نجاح “أبي فوق الشجرة” نجاحاً منقطع النظير.

ولست أدري هل لو كان قد تضمنها السيناريو كنت سأجنح إلى تخفيض عددها، أم لا؟ لست أدري..