داء العنصرية في بلد الحرية والمساواة والإخاء

كنت في حيرة من أمر الكتابة عن ثلاثة أفلام «المنبوذون» و«طرق بحث خطرة» و«العار».. عن أي منها، أكتب بشيء من التفاصيل.. وأخيراً، وبعد ساعات طوال من أعمال الفكر وجدتني وقد زالت الحيرة، جانحاً إلي إثيار فيلم «المنبوذون» بالكتابة عنه.. أما لماذا آثرته علي الفيلمين الآخرين، فذلك لأنه مختلف عنهما في أنه طاهر الذيل، أي غير مشوب بأي عيب رقابي يقف حائلاً بينه وبين الترخيص له بالعرض العام في ربوع مصر.

ومن ثم فثمة أمل ولو ضئيلاً، في أن نراه علي شاشة كبيرة عندنا في المستقبل القريب ومن هنا يكون التنبيه إلي أهميته، بالكتابة عنه أمراً مفيداً ولو قليلاً.

في حين أن الكتابة عن الفيلمين الآخرين لا جدوي منها، متي كان عرضهما يكاد يكون أمراً مستحيلاً، إلا إذا كان العرض لهما بالكتابة، الغرض منه أن أذكر بوجود رقابة معادية لحرية التعبير.
intouchables

وأنتقل إلي الفيلم الذي وقع عليه الاختيار وهو «المنبوذون» لأقول إنه فيلم فرنسي، من نوع الملهاة.. وهو ليس عن منبوذي الهند، وإنما عن منبوذين من نوع آخر، أكثرهم قادم إلي فرنسا من أفريقيا السوداء وشمالها الغربي، تونس والجزائر والمغرب.. وبمرور الأعوام استقر معظمهم في بلد الحرية والمساواة والإخاء، حيث اكتسبوا الجنسية الفرنسية ومع ذلك ظلوا في نظر قطاع من الفرنسيين الأصليين لا يستهان به، غرباء، ليس لهم حق المساواة، مع أهل البلد الأصليين.

وبوصفهم غرباء بقوا مهمشين، شبه منبوذين وأحداث الفيلم تدور حول شخصين رئيسيين «فيليب» و«إدريس» ويؤدي دورهما الممثلان «فرانسوا كلوزيه» و«عمرسي»، وكلاهما فرنسي إلا أن الأول أبيض أصوله فرنسية، أما الثاني فأسود البشرة، ترجع أصوله إلي السنغال، غربي أفريقيا السوداء.

والفيلم كما سبق القول ذو طابع أقرب إلي الملهاة فضلاً عن أن مخرجيه ليس لهما رصيد من أفلام ذات قيمة كبيرة.. ورغم ذلك حقق الفيلم أعلي الإيرادات، داخل فرنسا وفوق هذا جري ترشيحه لتسع جوائز سيزار، المعادل الفرنسي لجوائز أوسكار.. وخرج من مضمار التنافس عليها فائزاً بجائزة أفضل ممثل رئيسي، وكانت من حظ «عمرسي» الذي لعب بجدارة دور «إدريس» وكما يقال دور العمر.. وهو كما رسمت شخصيته في سيناريو الفيلم شاب فارع القوام، يعيش يوماً بيوم، هامش، عاطل، خارج لتوه من السجن، يقيم بمسكن شعبي بأحد الأحياء الفقيرة بضواحي باريس، غير آبه بالمطالب العائلية.. ومع ذلك فهو متعال، دائماً مرفوع الرأس.. والفيلم يبدأ به في مشهد مذهل، بكل المعايير، سابق علي ظهور العناوين، حيث نراه سائقاً عربة ملاكي بسرعة جنونية والشرطة تطارده لمخالفته قواعد المرور، وما إن يقف تحت تهديد الشرطة، حتي يبدأ في اتهام مطارديه بمنعه عن مواصلة السير وأنهم قد حالوا بينه وبين الوصول بالمريض إلي المستشفي، لإنقاذه من أزمة خطيرة، الأمر الذي قد يكون سبباً في فقدانه الحياة.

وسرعان ما يتبين لنا، إثر انتهاء العنوان أن ذلك المريض هو «فيليب»، وحسب رسم شخصيته فهو رجل ارستقراطي واسع الثراء يعاني من شلل رباعي، وفي أشد الحاجة إلي مدرب يسهر علي رعايته.

أما كيف وقع اختياره علي «إدريس» لأداء تلك المهمة وكيف قامت بين الاثنين صداقة، انعكس أثرها علي كليهما، فالثري المشلول أقبل علي الحياة، وأصبح أكثر تسامحاً وتواضعاً.. «إدريس» أصبح أكثر التزاماً.. كلاهما اكتسب أحسن ما عند الآخر من مزايا، فذلك ما يحكيه فيلم رائع أضحكنا كثيراً، ومن حين لآخر أبكانا ونخرج منه أكثر فهماً لمعني الحياة، وتقبلاً لها بكل ما فيها من أفراح وأحزان!!