ذكريات مع مكتبة ومجلات سينما

بدأ العام الذي لا نزال نعيش أيامه ولياليه الحالكة السواد بداية رديئة، ولا تبشر بأي خير.

فلم يكد ينتصف شهره الأول، حتى جاء الموت “ايفيت فرازلي” صاحبة “الكتاب الفرنسي” ليڨردي فرانس، تلك المكتبة التي يرجع مولدها إلى الربع الثاني من القرن العشرين.

وبعد بضع ساعات من إعلان وفاتها، يوم الثامن عشر من يناير، وبينما أهلها وعمال المكتبة مع نفر من روادها يلقون النظرة الأخيرة على نعشها، مودعين. حدث أمر لم يكن في الحسبان، انقض نفر من الشركة المالكة لعمارة ايموبيليا بشارع قصر النيل حيث المكتبة، منتهزاً فرصة أنها مغلقة حداداً، وإلي حين الانتهاء من طقوس الوداع الأخير، انقض كخساس الطير فاستولى عليها بإحكام إغلاقها بسلاسل من حديد.

الكتاب أم الحذاء

وعن هذا الاستيلاء البربري غير المسبوق، والذي جرى، ويالسخرية الأقدار في تاريخ مواكب لافتتاح معرض الكتاب، تحت اشراف الهيئة العامة للكتاب.

عنه كتب الأستاذ أنيس منصور في عموده اليومي بجريدة الأهرم متنبئاً بتحول المكتبة من منتدى فكري إلى محل لبيع الأحذية، بدلاً من الكتب.

كما كتبت الأستاذة “صافيناز كاظم” في الجريدة نفسها استغاثة إلى كل من يهمه الأمر، بأمل أن تقيد استغاثتها، قبل فوات الأوان، في انقاذ قط من موت أكيد شاء له عبث الأقدار ودون ذنب جناه أن يجد نفسه سجين المكتبة المغلقة.

ورغم ما كتب دفاعاً عن المكتبة والقط السجين لم يحرك أحد في وزارة الثقافة ساكناً.

هذا، ولم يتم إنقاذ القط إلا بفضل مجهود جمعية حقوق الحيوان، الأمر الذي حدا بصاحبة الاستغاثة إلى أن تتساءل ساخرة في مقال ثان. وأين جمعية حماية حقوق الكتاب؟

ولأن كل شيء في مصر ينسى بعد حين أصبح إغلاق مكتبة لها من العمر خمسين سنة، وازدادوا ثلاثا ولها دور كبير في إسعاد أجيال من المثقفين أصبح أمراً منسياً.

ولأمر ما لعله إحدى المعجزات، لم تتحقق النبوءة القائلة بانحدار المكتبة من منتدى في خدمة الأذهان إلى محل في خدمة الأقدام.

يحيا العدل

ففي السابع والعشرين من فبراير أصدر قاض مستنير حكماً برد حيازة ورثة صاحبة المكتبة على العين.

ورغم صفة الاستعجال، عاند تنفيذ الحكم النفر المعتدي ومحرضوه عناد البغال.

فاستمروا في غلوهم متحايلين بشتى الوسائل إلى أن قُضي الأمر الذي كانوا فيه يتنازعون دون وجه حق بعودة الروح إلى المكتبة في الثالث من يونية “حزيران”.

ففي ذلك اليوم السعيد استقبلت زوارها الظائمين.

وهكذا، انتهى كابوس مرت أيامه بطيئه ثقيلة أشهراً بعد أشهر وجدتني خلالها محروماً من مكتبتي المفضلة التي لم انقطع عن التردد عليها على امتداد نصف قرن من عمر الزمان.

ولهذا، فما أن زال سبب الحرمان حتى وجدتني داخلها في اليوم التالي لافتتاحها متصفحاً الكتب التي طال الشوق إليها والحنين.

خارجاً من فردوسها، ومعي من زاد الثقافة طقوس الأرباب وحوارات مع جان بول سارتر “أغسطس سبتمبر 1974” لصاحبته رفيقة عمر سارتر “سيمون دي بفوار”.

ولأنه من مجموعة كتب “فوليو” زهيدة الثمن لم أدفع ثمناً له وبعد التخفيض المريح سوى خمسين جنيها!!

واحة حرية

أما لماذا كانت مكتبتي المفضلة، ولا تزال فذلك لأنني كنت فيها أجالس الأصدقاء اتناقش معهم في موضوعات شتى دون خوف أو وجل من رقيب في جو من الحرية نحسد عليه في أكثر من مكان.

وأطّلع على أحدث الكتب والمجلات وكأنني في الحي اللاتيني، أو على ضفاف السين.

واشتري ما استطيع شراءه من كتب ومعاجم وقواميس عن الفنون لاسيما فن السينما.

والحق أنه لولاها لما كان في وسعي أن أعرف مبكراً بأمر وجود مجلتين كان لهما شأن كبير في تثقيفي سينمائياً.

وهاتان المجلتان هما الآداب الفرنسية وكراسات السينما.

ضحايا العدوان

فبفضل قرأتي بانتظام للآداب الفرنسية التي استمر الشاعر “آراجون” رئيساً لتحريرها حتى إغلاقها، عقب غزو الجيش السوفييتي تحت غطاء حلف وارسو، لتشيكوسلوفاكيا عقاباً للمجلة على موقفها المناهض لعدوان وأد ربيع براغ، على نحو أصبح معه أي أمل في اشتراكية ذات وجه إنساني كأمل ابليس في الجنة.

بفضل ذلك، أصبحت حصيناً من السقوط في هاوية الانجذاب إلى تأييد النظم الديكتاتورية في البلاد المتحررة من رق الاستعمار بدعوى حماية الاستقلال وانجازاته من كيد المعتدين.

وتعلمت من متابعة كتابات كل من “جورج سادول” و”ميشيل كابدنياك” في نقد الأفلام، تعلمت كيف تكتب المقالات بأسلوب سهل خال من التعقيد ومن ذلك النوع المسمى بالسهل الممتنع لأنه يتيح للقارئ العادي غير المتخصص أن يتذوق فن السينما، ويفهم من أمره الشيء الكثير دون جهد كبير.

نكسة ثورة ومجلة

وحتى قيام الثورة الثقافية في الصين الشعبية وتبني مجلة كراسات السينما “للماوية” منهجاً لسينما جديدة، منبتة الصلة بالسينما القديمة المخدرة للشعوب، خدمة للامبريالية والفئات الطفيلية الدائرة في فلكها.

حتى هذا التاريخ الفاصل، كانت كراسات السينما تجيئني بانتظام عن طريق المكتبة.

ومما يعرف عن هذه المجلة التي لاتزال كعهدنا بها تصدر كل شهر، إنها لعبت دوراً كبيراً في النهوض بالسينما الفرنسية، بفضل موجة جديدة اكتسحت بأفلامها الشابة ما كان يطلق عليه من باب السخرية سينما بابا.

ولولاها لما ذاع صيت كوكبة رائعة من صانعي الأطياف أذكر من بينهم على سبيل المثاللا”جاك ريفيت” “فرانسوا تريفو” “كلود شايرول” و”جان لوك جودار”.

ومن بين مزايا المجلة الأخرى أنه وبعد تخلصها من المنهج الماوي، شاء نقادها للسينما ألا تكون لوناً من ألوان الترف الفني وإنما ادأة من أدوات الحياة.

فلم يجنحوا إلى الاعتصام ببروج عاجية وإنما سعوا جاهدين أن يجعلوا من الكراسات منبراً للفن السابع حتى في بلاد لايزال فيها هذا الفن يحبو مثل بعض الدول الأفريقية وسريلانكا وفلسطين.

العدو الأخير

وقد لا أكون بعيداً عن الصواب إذا ما قلت أن عدد الكراسات عن شهر ابريل الماضي خير دليل على هذا النهج السليم فهو عدد استثنائي، عنوانه أطلس السينما ـ عام 2002 بالأرقام، وجهات نظر نقاد من أربعين دولة من بينهم نقاد من مصر وفلسطين.

وأول ما لفت نظري في هذا الأطلس الفريد أن جميع مقالات النقاد الواردة بين دفتيه قد روعي في نشرها أن تكون مكتوبة باللغتين الفرنسية والانجليزية معاً.

وأن أياً من تلك المقالات المزدوجة لغوياً لا تحتل من صفحات الأطلس سوى صفحة واحدة أحياناً تقل بضعة سطور أو تزيد قليلاً.

وأن الغرض من الأطلس معرفة حال السينما عالمياً في مجالات انتاج وتوزيع وعرض الأفلام.

وفضلاً عن ذلك، فمن بين ما لفت نظري استكتاب المشرفين على الأطلس لثلاثة نقاد امريكيين.

وباستثناء صورة من فيلم حديث صاحبه “بول توماس اندرسون” وهو مخرج لم يعرض له أي فيلم في بر مصر، باستثنائها، لم تنشر سوى صورتين من فيلم واحد صاحبه “ستود هيلز” والفيلم اسمه “بعيداً عن النعيم”.

الاستثناء.. لماذا؟

وهذا يعني أن فيلماً واحداً قد حظى بصورتين في حين أن جميع الأفلام الأخرى فيما عدا فيلم اندرسون لم تحظ بأية صورة رغم ورود ذكر لها بشكل أو بأخر في إحدى المقالات الثلاث، ورغم أن بعضها من الإنتاج الضخم، مثل الرجل العنكبوت، عصابات نيويورك وشيكاغو.

والسؤال لماذا انفرد “بعيداً عن النعيم” بصورتين دون غيره من الأفلام وأين؟

في مجال ضيق من أطلس لا يزيد على أربع صفحات بداية هذا الفيلم شاهدته بفضل اسطوانة مدمجة.

الحلال والحرام

وما أن وصلت إلى خاتمته حتى أيقنت أنه لن يكتب أن تصل إلينا منه ولو نسخة واحدة في المستقبل القريب، ربما لانصراف نية أصحابه عن توزيعه عندنا، لعلم أولي الأمر في هوليوود علم اليقين أنه من ذلك النوع الحرام الممتنعة مشاهدته علينا أو ربما لجنوح أصحاب الأمر والنهي في بلاد العم سام إلى حرماننا من مشاهدة طريقة الحياة الأمريكية كما هي على حقيقتها دون تزويق.

أما لماذا هذا اليأس اليائس من عرضه في ديار مصر المحروسة فذلك لأنه فيلم دامغ للعنصرية في الولايات المتحدة من خلال عرض رائع لحياة الشرائح العليا في المجتمع الأمريكي، في منتصف عقد الخمسينيات من القرن الماضي، عندما كانت الولايات المتحدة محكومة بالجمهوريين تحت رئاسة الجنرال “دوايت ايزنهاور” والذي كان يوصف بالضعف والغباء.

فيلم أو جحيم

ففي هذا الزمن الموغل في القدم، كانت تلك الشرائح تعيش حياة لذيذة ترفرف عليها السعادة والهناء بحيث كان يبدو وكأنها تعيش في نعيم مقيم.

في حين أنه في حقيقة الأمر نعيماً زائفاً أقرب إلى الجحيم، ينخر فيه سوس الشذوذ المغلف بالنفاق الاجتماعي والفجاجة والغباء، فضلاً عن عنصرية مقيتة أفسدت على ملايين السود في الولايات المتحدة حياتهم واضطرتهم إلى ألوان من الذل والهوان أقل ما توصف به أنها لا تلائم كرامة الانسان.

وكل ذلك الشذوذ والعنصرية قد عكسهما الفيلم بصدق وعمق، وبأسلوب يقطر بساطة وانسياباً خال من بهلوانيات هذه الأيام.

وأغلب الظن أن كشف العلاقات الشاذة والعنصرية في أرض الأحلام هو الذي حال دون مجئ أية نسخة من “بعيد عن النعيم” حتى الآن، وربما يحول دون عرضه في مستقبل غير بعيد!!