ليلة حساب السنين – جريمة أم وليمة؟

كان أول فيلم عربي يبدأ وينتهي بكلمات مأخوذة من تراث قدماء المصريين.. كتاب الموتى “ألفا سنة قبل الميلاد” يبدأ بصور فرعونية يصاحبها صوت يقرأ تلك الكلمات يا من تمضي ستعود.. يا من تنام سوف تنهض يا من تموت سوف تبعث، فالمحبة لك. وينتهي- بعد إختفاء الفلك بمن عليه من فراعين- بتلك الكلمات:

إنهض فلن تفنى.. لقد نوديت باسمك، لقد بعثت.

وكان أول فيلم ناطق بلغة الآباء يعرض لحاضر مصر متصلاً بماضيها على مدى آلاف السنين. يعتز بميراث الأسلاف منذ أول يوم شهدت فيه الأرض مصرياً. يعبر بصدق عن أزمة وعينا بما أقيم من ركائز الحضارة الإنسانية ودعائمها في أزمنة الفراعين.
قدر الأفلام الناجحه

وكان أول فيلم مصري الجنسية، عربي الهوية، يتوج بجائزة عالمية “جورج سادول” (1970)، يعرض في دار باريس بولمان- بلندن (1972)، يعتبر أحد أحسن عشرة أفلام عرضت في إنجلترا خلال سنه1972، يختار فيلم الافتتاح لدار جان كوكتو بقصر مهرجان كان (1974)، يفتتح به نادي سينما طوكيو، يطبع السيناريو الخاص به باللغة اليابانية، تكتب عنه دراسة باللغة الفرنسية في مجموعة “دوسيه السينما” يوضع ضمن أحسن ألفي وواحد فيلم اختارها قاموس لاروس للسينما (1986) من بين جميع الأفلام التي أخرجت للناس منذ اكتشاف الأطياف (1895).

كان “ليلة حساب السنين” لصاحبه “شادي عبد السلام” والذي اشتهر تحت اسم “المومياء” كل هذا وأكثر لأنه الفيلم الذي رد اعتبار سينما الوطن العربي، بأن أثار اهتمام نقاد الغرب بها، دافعاً بهم إلى السعي نحو اكتشاف مجاهلها.

يوم مولد

ولعل خير وصف لموقف النقد الغربي من ذلك وبخاصة السينما المصرية قبل المومياء، هو ماجرى به قلم “ديليز باول” الناقدة الإنجليزية المخضرمة في العدد الأسبوعي لمجلة “الصانداي تايمز” أثر مشاهدتها لفيلم “شادي” وقبل أن يهدأ انفعالها به.

“منذ زمن بعيد، وأثناء مشاركتي في مهرجان كورك أسأت إلى سمعتي، عندما قهقهت ضاحكة في تعالٍ على فيلم مصري أرادوا به أن يكون جاداً.

ولم يعدني إلى الصواب إلا تذكرة من جالس إلى جواري صدمه سوء سلوكي، بأن مخرج الفيلم معنا في قاعة العرض.

وعلى كُلٍ فقد كنت أظن أنه ليس ثمة ما يدعو إلى الاهتمام بما تعرضه الشاشة المصرية.

غير أنني اكتشفت أن لزاماً عليّ أن أهتم.. وأهتم. وعقب هذه الكلمات الطلقات التي استهلت بها الناقدة مقالتها عن “المومياء” عرضت له باعتباره الفيلم الذي غيّر من نظرتها إلى السينما المصرية، وجعلها تهتم وتهتم!!
سكرة فصحوة

وتأكيداً لهذا الطابع المتميز الذي انفرد به المومياء حتى أصبح أشهر فيلم عربي، وواحد من نفائس السينما العالمية، استهل الناقد الفرنسي “كلود ميشيل كلوني” دراسة له مدارها فيلم “شادي” بالكلمات الآتية “طابعه الغريب، بل وأسلوبه يجعلان تصنيفه أمراً محالاً، واستطرد قائلاً: الذي لا يرقي إليه الشك أن هذا العمل يتميز بقدرة على الإبهار، وذلك بفضل أسلوبه البليغ، وجماله الشكلي، وقبس النور الذي بعثه “شادي” من ظلمة الليل البهيم كي نرى في ضيائه مصر الخالدة.. مصر التي تحلم وتتحرك.

وإلى حدٍ بعيد كان من الممكن اعتبار المومياء فيلماً غير مصري لولا أن مصر تقيم في ثناياه بماضيها، بديكورها، بواقعها ، بتمزقاتها، تُعبر داخله عن تفردها.

وشادي “يسافر بنا في فيلمه إلى ماض مرتد آلاف السنين “العصر الفرعوني”.. يوجه بصرنا إلى تلك الهوة السحيقة بين مصر المدينة وبين مصر القرية، ينتقل بنا عبر زمن يبدو ساكناً لا يتحرك.. زمن يجرفنا بشاعريته، يسحرنا ليشهدنا على قطيعة مفاجئة، على مولد عصر جديد كل الجدة، هذا العصر الذي يرغبه “وانيس”، يسعى إليه مدفوعاً بالبصيرة.

والمومياء قصيدة ذلك الصراع، وليس صدفة أن الفيلم ينتهي بصور للنيل يُطل عليه الفجر.

أشعة في غمام

ثم تطرق الناقد الفرنسي إلى إخراج “المومياء” فقال عنه أنه مختلف عن أسلوب الإخراج السائد في السينما العربية حيث تختلط الواقعية بالاستعراضات الغنائية والترفيهية. هذا وبفضل توازن محسوب بين الشعر وبين عنف الموضوعات المطروحة.. ارتقى “شادي” بفيلمه- بعد أن صفّاه من كل شائبة إلى مستوى قريب من العبادة .

أن المومياء بجمال تشكيله، وعطر شعره، فيلم له مقام خاص سواء في السينما العربية أو بين المدارس الغربية. إنه يعبّر دون ريب عن بعض جوانب الروح المصرية ودخائلها بأسلوب يتسم بالابتكار الآخاذ.
الكهوف المظلمة

ورغم كل هذا المديح والإطراء، ظل “المومياء”- بعد عرض يتيم له في نادي سينما القاهرة، ليلة السادس عشر من ديسمبر سنة 1969- ظل حبيس توابيت العلب في مؤسسة السينما، مكتوباً عليه ألا يعرض داخل مصر زهاء خمسة أعوام.

ولعل خير بيان لمحنة “شادي” أولاً مع فيلمه الأول “المومياء” وثانياً مع مشروع فيلمه “اخناتون” هو ما كتبه الناقد الانجليزي “نيجل اندروز” في عدد الربيع 1973 من مجلة السينما الفصلية “سايت آند ساوند” (صورة وصوت) فعنده “أنه ليس ثمة ما يستطيع أن يجسد أوهام النجاح في مجال السينما خيراً من حالة شادي هذا المخرج الذي حيّته الأقلام رأت فيه أملاً للسينما المصرية. ورغم ذلك فلا يزال مشتبكاً في معركة طويلة مريرة من أجل الحصول علي دعم لمشروع فيلمه الجديد “اخناتون”؛ ثم تطرق الناقد إلى ماضي صاحب المومياء، فقال إنه نجح في تمويل فيلمه الأول بفضل حماس “روبرتو روسيلليني” ورعايته له، ذلك أنه ما أن قرأ المخرج الإيطالي مشروع السيناريو الذي كتبه شادي لفيلمه “ليلة حساب السنين” (المومياء)، إلا وكان قد بادر بالتصديق على طلبه فتح اعتماد حكومي ابتغاء إخراجه.

ومع ذلك، ورغم كل النجاحات التي أحرزها في العديد من المهرجانات الدولية، لم يحصل الفيلم على حق العرض في مصر إلا منذ وقت قريب جداً.

ثمن الخوف

وأغلب الظن أن سبب ذلك إنما يرجع إلى أن أولي الأمر في حقل السينما، يسيطر عليهم الخوف من تشجيع صانع فيلم يبدو أن اهتمامه منصب على ماضي مصر، دون حاضرها، ولا تحمل مشاريعه بصمة النجاح التجاري الأكيد.

ومهما يكن من الأمر، فإنه مما يُحزن أن يهمل شأن اخناتون، فلا يكتب لمشروعه أن يرى النور، لاسيما إذا وضع في الاعتبار أن صاحبه قد أعد للفيلم ما استطاع، فكتب السيناريو، وهيأ الديكور، واختار الممثلين للأدوار. لم يبق سوى أن ينتظر موافقة هيئة السينما على تمويل ميزانيته التي تُقدر بمبلغ لا يزيد على مائة ألف جنيه.

وقصة الفيلم تدور أحداثها في عهد إخناتون الذي كان أول فرعون يؤمن بالتوحيد، فيثور على ما كان يعتبر من السنة في أيامه، ويبتدع ديناً جديداً قوامه عبادة الشمس وعادة يوصف اخناتون بأنه أول فرد في التاريخ.

عصيان

ولا عجب في هذا، فهو الملك الذي تمرد على الاهتمامات القديمة لدين لم يكن له من شاغل سوى الموت، وما بعد الحياة وتحول عنه إلى الإيمان بإله واحد خَيّر، وهّاب للحياة.. الشمس.

والفيلم يعرض للصراع بين اخناتون، وهو يزداد عزلة بهرطقته، وبين السنة الباغية متمثلة في الكهان ورجال الجيش، تنتظر في صبر نهاية فرعون ابتغاء إعادة الاستقرار الديني والسياسي إلى البلاد بالارتداد إلى عبادة آمون.

وامكانات القصة الدرامية والمقابلات والدلالات العصرية الكامنة فيها لا تحتاج إلى مزيد من بيان.

ومما يدعو إلى الأسف أن تترك هيئة السينما المصرية شادي منتظراً المنّ في برد العراء، وذلك رغم أنه الوحيد بين صانعي الأفلام في مصر الحاصل على تقدير عالمي، فضلاً عن أن الأيام قد أثبتت أنه على مستوى عالٍ من الاحساس الفني، وصاحب قدرة فائقة على الإبداع من خلال التحكم في الصور المتحركة .
العجب العجاب

وللحق، فأنه لمن سخرية الأقدار أن تكون صناعة السينما في مصر- هذا البلد العريق صاحب الرصيد الحضاري الذي يعتبر من أغنى أرصدة العالم- دوماً فاشلة في السحب من هذا الرصيد.

ومضى الناقد قائلاً يحكي أنه لما سمع العالم الانجليزي “سيريل الدود” المتخصص في دراسة الحضارة المصرية القديمة بمشروع إخناتون صاح متعجباً “فيلم عن مصر القديمة لمخرج مصري . ياللغرابة” !!

ولسوء الحظ كانت دهشة العالم الانجليزي في محلها، فأحد من المحيط إلى الخليج لم يهتم أو يهتز لما كتب عن مشروع اخناتون.

ولم يسهم أحد بكثير أو قليل في مجالات إحياء المشروع والتحول به من حلم إلى فيلم.

ودارت عجلة الزمان مع شادي، واذا اخناتون- بعد سبع عشرة سنة من إخراج فيلمه الأول “المومياء” لايزال في علم الغيب.. لايزال قضية بلا حل.

لماذا؟

والآن يحق لنا، بل يحق علينا، أن نتساءل لماذا بعد كل هذه السنين التي صُرفت في البحث التاريخي والأركيولوجي.. في صنع المجوهرات، الصولجانات، الملابس، الأثاث، عربات الحرب والمراكب الملكية. في إعادة بناء المعابد التي لم يعد لها وجود والمقابر التي اغتصبت منذ أمد بعيد.

لماذا بعد كل هذا الذي بُذل من أجل بعث اخناتون الفرعوني المنتمي إلى الأسرة الثانية عشرة، والذي خرج على دين الآباء والأجداد ليقيم عبادة جديدة جوهرها تقديس قرص الشمس.

لماذا بعد كل هذا الوجد والتفاني والمعاناة، لم يستطع صاحب “المومياء” أن يتغلب علي قوى الظلام ويخرج باخناتون إلى النور؟

بصيص من نور

بادئ ذي بدء قد يُعين على الوصول إلى إجابة عن كل هذه الأسئلة، ذكر ما جرى لصاحب هذه السطور مع المومياء ومبدعها وقت أن كان رقيباً (1967).

في يوم مشحون بالعمل- ودون موعد- جاء إلى مكتبي بالرقابة فنان خمري اللون، ممشوق القوام، يتأبط سيناريو.. رجاني في استحياء شديد أن أقرأه. فلما أغراني حب الاستطلاع على تصفحه، وانتهيت من قراءته، دهشت من سموّ موضوعه، وشموخ بنائه الدرامي، وهو أمر لم أعهده من قبل في أي عمل سينمائي محلي مرّ وأنا رقيب .

تصفيات

والغريب أنه فور انبهاري به، تحدث إليّ هاتفياً رئيس مجلس إدارة شركة الانتاج السينمائي الذي كان يمقت الفن السابع مقتاً شديداً، طلب إليّ عدم الترخيص بعمل فيلم من سيناريو “شادي” انقاذاً لمؤسسة السينما من كارثة إنتاج فيلم غير جماهيري ليس من ورائه سوى الخسارة ووجع القلب.

ترددت محرجاً، ثم رددت قائلاً أن السيناريو لا ينطوي على موانع رقابية تحول دون الترخيص به وأذا به يفجؤني مصححاً: لا، إنه فيلم ضد البلد.. عن أمجاد الفراعنة، مُعاد للقومية العربية!!

ومما قد يعين كذلك في عملية البحث عن إجابة، الغوص في أعماق “المومياء” هذا الفيلم الفريد.

الأكيد أننا لو أوغلنا فيه سعياً إلى المحور الذي يتحرك عليه من بدايته إلى نهايته لوجدنا في أعماقه قوى متعددة تتصارع.

بين عالمين

وقد يساعد على فهم هذه القوى أن أحداث الفيلم تبدأ قبيل الاحتلال البريطاني لمصر بأشهر معدودة.

فإذا ما انتقلنا بها إلى عرضه اليتيم في السادس عشر من ديسمبر سنة 1969- أي قبل وفاة جمال عبد الناصر بتسعة شهور إلا قليلا- لاتضح لنا أن الفيلم إنما كان يتنبأ بقرب انتهاء الحقبة الناصرية، وبداية هجمة أحفاد بلفور والاتباع الدائرين في فلك وعده المشئوم.

ومن العلامات الدالة على ذلك، أولاً وجود الخبراء الأجانب كماسبيرو الذي يبدأ به الفيلم، وغلبة أفكارهم غير الانسانية التي تجعل الأولوية للآثار كمقتنيات للمتاحف بالتضحية بالفلاحين ومصيرهم، ثانياً طبقة أفندية القاهرة ( الفئة المتحضرة المتفرنجة)- علماء التنقيب والتجار والشرطة- تعيش في فلك الأوروبيين متعاونة معهم ضد الشعب الذي تستمد منه الحياة، ثالثاً الأهالي يمارسون حياتهم اليومية مسلمين حنفاء متمسكين بالتقاليد، ومع ذلك فمعيشتهم قوامها السرقة والإهدار للتراث، رابعاً “وانيس” بطل الفيلم يعي الفرق بين الخطأ والصواب ولكنه في حيرة من أمره، كيف يختار.. أيختار أن يعيش ابناً باراً للقبيلة، حافظاً سرها، وخارجاً على القانون؟ أم يكشف السر لسلطات القاهرة الكريهة؟

وهكذا.. وهكذا.. نجد أنفسنا أمام فيلم مليء بالرموز والدلالات. بالاسئلة التي يطرحها حول مشاكل مصر المعاصرة.. حول ماضيها الفرعوني والهوّة السحيقة بينه وبين ثقافتها الإسلامية المُفرغة من مضمونها.. حول اطلالها على الغرب وهويتها العربية ومعاناة التوفيق والاختيار.

البعث

وطبعاً فيلم بمثل هذا المستوى الرفيع من الوعي وطرح الأفكار لا يمكن أن يتكرر في السبعينات.

إنه جريمة لابد ألا تحدث مرة ثانية ولابد ألا تتاح لمرتكبيها فرصة إخرج فيلم آخر لاسيما إذا كان مداره سيرة اخناتون، أي الاستمرار في هرطقة المومياء.

وبعد فإذا كان فيلم شادي في نظر المرتجفين المرتعدة فرائصهم أمام المعرفة جريمة. فإنه في نظر الواقفين في كبرياء أمام علامات التاريخ إبتغاء فك رموزها، قراءتها، تمثلها وليمة لا مثلها، ولا قبلها ولا بعدها وليمة، بها نعرف ننهض لا نفنى، نبعث أحياء .