مذبحة الأبرياء

قبل ثلاثة أيام، وتحديدا يوم الأحد، شيع الشعب البولندي رئيسه الراحل »لينج كاتشينسكي« وشريكة حياته »ماريا«، اللذين لقيا حتفهما، نتيجة تحطم الطائرة الرئاسية، اثناء هبوطها بمطار »سمولنسك«، غربي روسيا، قريبا من مكان، سيقف عنده التاريخ طويلا. وذلك المكان اسمه »كاتين« وهو، والحق يقال، مكان لعين، في نظر البولنديين.. لماذا؟ لأنه قبل سبعين سنة، وبعد غزو الجيش الأحمر السوفييتي أرض بولندا غدرا، يوم السابع عشر من سبتمبر لسنة 1939، وتحديدا فيما بين شهري مارس ومايو سنة 1940، تم إعدام حوالي اثنين وعشرين ألف مواطن بولندي، كانوا قد سجنوا أو اعتقلوا إثر الغزو الغادر. وأغلبهم كان من ضباط الجيش والشرطة، وشخصيات وقيادات حكومية أخري بارزة، فضلا عن مجموعة كبيرة من مثقفي ومفكري بولندا. باختصار شكل ضحايا مذبحة »كاتين« النخبة الثقافية للمجتمع البولندي، في ذلك الزمان، حالك السواد. ولقد جري الاعدام، تنفيذا لقرار صادر في الخامس من مارس لسنة 1940 من اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفييتي، أو بمعني أصح قرار صادر من الطغاة الثلاثة »ستالين«، »بريا« وزير داخليته، و»مولوتوف« وزير خارجيته، والرجل الذي عقد صفقة مع »روبنتروب« وزير خارجية ألمانيا النازية، تعرف تحت اسم اتفاقية »مولوتوف- روبنتروب«. وبموجبها قسمت بولندا بين روسيا البلشفية وألمانيا الهتلرية. وفعلا جري التقسيم أولا بالغزو النازي الوحشي لأرض بولندا في الفاتح من سبتمبر لسنة 1939، وبالغزو السوفييتي الغادر بدءا من السابع عشر من نفس الشهر.
وعن المذبحة ابدع، قبل ثلاثة أعوام، »اندريه فايدا« المخرج البولندي ذائع الصيت، ابدع فيلمه »كاتين«، وهو كان من بين الأفلام الخمسة الأجنبية المرشحة لجائزة أوسكار أفضل فيلم أجنبي »2008«. ولقد اسعدني الحظ بمشاهدته صدفة في المركز الثقافي الفرنسي، حيث كان من المفروض ان يجري عرض الفيلم البولندي »شوبن- رغبة في الحب«، حسب برنامج عروض السينما الأوروبية »بدءا من 6 إلي 20 ابريل«. غير انه بمناسبة يوم الأحد الحزين، ذلك اليوم الذي شيع فيه جثمان الرئيس البولندي الراحل وزوجته الي مثواهما الأخير، استبدل بالفيلم الذي يدور حول الموسيقار البولندي »شوبن« فيلم آخر، »كاتين«. وغني عن البيان ان ذلك الاستبدال قد صادفه التوفيق. فمصرع رئيس بولندا وزوجته، مع نخبة من كبار رجالات الدولة البولندية، ومثقفيها، حدث بمناسبة ذهابهم الي مكان الجريمة، في ذكري مرور سبعين سنة علي وقوعها. وفي اعتقادي، انه ليس ثمة فيلم دافع لتلك الجريمة البشعة، مثل »كاتين« رائعة المخرج »فايدا« صاحب روائع أخري كثيرة، اذكر من بينها، علي سبيل التمثيل »الرماد والماس« (1958)، عن احتلال بولندا اثناء الحرب العالمية الثانية. و»رجل من المرمر« (1976) و»رجل من حديد« (1980)، وكلاهما عن سقوط بولندا في براثن الشيوعية، والحركة العمالية المناهضة للنظام الشمولي الذي ظل جاثما علي صدر الأمة البولندية زهاء أربعة عقود من عمر الزمان. و»فايدا« في فيلمه »كاتين« يحكي المأساة الدموية من خلال أربع أسر انقطعت الصلة بينها وبين رجالها المسجونين، أو المعتقلين، عقب الغزو السوفييتي الغادر. ففيلمه، في حقيقه الأمر، إنما يحكي قصة النساء والأولاد الذين حرموا من أحبائهم أثناء الاحتلال سواء أكان نازيا أم سوفيتيا. أما الرجال الذين سينتهي بهم الأمر مقتولين في مذابح جماعية، فلا يأتي لهم ذكر الا بمناسبة بحث النساء والأولاد عن حقيقة ما جري لهم، وأهم أموات أم احياء. في ظل تعتيم سلطات الاحتلال، ومن بعدها سلطة النظام الشيوعي، المفروض علي البلاد، ومع ذلك، فبمهارة، منقطعة النظير، ينهي »فايدا« الفيلم بلقطات تستمر عشرين دقيقة لمذبحة الأبرياء، لقطات تقشعر لها الأبدان، لقطات يشيب من هولها الولدان!!