نابليون وحملة النيل

لست فى حاجة إلى أن أُعَرِّف نابليون بونابرت، ونحن بمناسبة غزوه لمصر، فيما سُمّيَ على لسانه “بحملة النيل”، وذلك قبل مائتي عام، نسترجع على شاشة ذاكرتنا، جرائمه فى وطننا التى جعلت من أرضه، فى أقل من ثلاثة أعوام، خراباً متصلاً.

فهو الوحيد بين المشاهير، الذى حول سيرته، جرى تأليف أكثر من مائتى ألف كتاب.

وهو، كما يُعرف عنه فى تاريخ الحروب والفتوحات، الزعيم الثانى للعسكرية، غير منازع، بعد الاسكندر الأكبر.

وهو أول قائد غربى، يوجه نداء إلى يهود العالم من أرض فلسطين، طالباً إليهم فيه أن يسارعوا، بوصفهم ورثتها الشرعيين، باستعادة حقوقهم فيها التى سلبت منهم لآلاف السنين.

فالعلم بمكانته فى كل هذا، وبالدور الذى لعبه فى حياة الجمهورية الفرنسية، وجهاده فى القضاء عليها، وموته فى هذا الجهاد، أمر معروف لأولى الالباب.

وغنيٌ عن البيان، أن كل هذا من أولويات المعلومات التى يتعين ارشاد الشباب إليها فى المدارس والمعاهد والجامعات والندوات.

صورة مختلفة

ولكننى مع ذاك، سأتحدث عن نابليون، لأعرض منه صورة تنحصر أبعادها فى خمسة عشر شهراً من عمره، وهي شهور بقائه على أرض وطننا غازياً محتلاً.

صورة أقل ما توصف به أنها مخالفة بعض الشيء لما توارثت الأجيال من أمره، منذ قرنين من عمر الزمان.

ولست أنا الذى استكشف هذه الصورة، أو ابتكرها، فلست من هذا كله فى شيء، وإنما الذى استكشفها وعرضها على الملأ عالم أمريكي فى التاريخ الاستاذ “آلان شوم” الحاصل على أرفع الشهادات من جامعتى “بركلى” بكاليفورنيا، و”دورهام” بانجلترا.

وهو يعرضها علينا فى كتاب ضخم “نابليون بونابرت” تنيف صفحاته على تسعمائة صفحة، مقسمة إلى واحد وأربعين فصلاً.

ولقد جرى نشره فى منتصف العام الماضي، فتلقاه النقاد أحسن لقاء، لانه أية من آيات البحث العلمى الرفيع.

ومن بين فصوله، سأكتفي بالوقوف قليلاً عند أربعة لا غير، هى الفصل السابع “أرض الفراعين” والتاسع “فى ظل الهزيمة”، والعاشر “تيڤولي وما بعدها” وأخيراً الحادى عشر “الطريق إلى دمشق”.

الغازي والبيان

والآن إلى أول بيان وجهه نابليون إلى المصريين، أثر دخول قواته مدينة الإسكندرية (2/7/1898).

استهل الغازى بيانه على الوجه الآتى: “جئت كي أسترد لكم حقوقكم، واعاقب المغتصبين!! أكن لله ونبيه محمد احتراماً يفوق بكثير احترام المماليك”.

ومن أجل طمأنة المصريين، واستمالتهم إلى جانبه، ضمن بيانه قيوداً شديدة على تصرفات قواته، وعقوبات قاسية توقع على من تخول له نفسه ارتكاب جرائم فى حق المصريين، من بينها الإعدام رمياً بالرصاص “لأي فرد من الجيش يثبت فى حقه النهب، أو الاغتصاب”.

وعملا بسياسة فرّق تسد، وتأليب المصريين على حكامهم، زف البيان إلى الأهالي بشرى صدور أمر بالقبض على جميع المماليك، ومصادرة ممتلكاتهم سواء أكانت منقولاً أم عقاراً.

ومع ذلك، فقد انطوى البيان على أمر للمصريين بضرورة تسليم أسلحتهم خلال مدة لا تزيد عن أربع وعشرين ساعة، فضلاً عن ارسال وفود رسمية، نيابة عن كل طائفة أو جماعة، تقوم بتقديم فروض الولاء للفرنسيين، وذلك مقابل وعد بصدقاتهم وحمايتهم.

كما انطوى على وعيد وتهديد بالحرق لأية قرية ترفض الاذعان لهذا الأمر، وتضبط متلبسة بحمل السلاح ضد الجيش الفرنسى.

منحة ومحنة

هذا، وكان ثمة استثناء من أملاك المصريين لم يحمه الببيان، ذلك الاستثناء هو النقل بجميع رسائله.

فأينما ذهب الجيش الفرنسى، كان يصادر الخيول، الحمير، الثيران، والجمال.

وفيما عداه، كانت حرمات الشعب المصرى مصونة، على الأقل من الناحية النظرية، وذلك على عكس الحال بالنسبة للطبقة الحاكمة من المماليك.

وفيما عداه، كانت حرمات الشعب المصرى مصونة، على الأقل من الناحية النظرية، وذلك على عكس الحال بالنسبة للطبقة الحاكمة من المماليك.

وبطبيعة الحال، كان على رأس هذه الحرمات الدين والقادة الدينيون.

ولأن الشعب لابد وأن يكون ممتناً لأفعال قوات الاحتلال، وفى مقدمتها تحريره من نير المماليك فقد ختم نابليون بيانه طالباً إلى كل مصرى أن “يشكر الله، وقد تم القضاء على المماليك، ويهتف عالياً المجد للسلطان .. المجد للجيش الفرنسي، اللعنة على المماليك والسعادة لشعب مصر”.

وهكذا بدا واضحاً من الأيام الأولى للاحتلال أن سياسة نابليون تنحصر فى كسب تأييد الشعب المصرى (وليس المماليك)، وإعداد البلاد للخضوع لحكومة يعاد تنظيمها على الطريقة الفرنسية، وغزو سلمي قدر الامكان، وذلك تمهيد لتحويل مصر إلى مستعمرة فرنسية.

ولكن مع أول مواجهة عسكرية مع المماليك فى شبراخيت، سرعان ما تبخرت وعود البيان للمصريين بالأمان. وفي وصف الذعر الناجم عن نهب وسلب كتائب الجنرال “ ڤيال”، يذكر الكولونيل “لوچييه” متوجعاً “دموع رجال القرية، وصرخات نسائهم كادت تحدث ضجة تصم الآذان”.

ووفقا لوصفه كانت نساء القرية تصعد إلى سقف منازلهن المسطحة، المصنوعة من الطين، وهن يولولن منتحبات، وبسعر يحركن شيلانهن إلى الخلف والأمام.

وكل ذلك تحت بصر القائد نابليون الذى أمر الجنرال “دوجوا” وهو فى سورة غضب، أن يبقى مع رجاله فى المكان، حتى يعيد النظام ويوفر التموين للقوات.

وما أن وقع بصره على النيل وواديه بزرعه وخيراته.

ومن بعيد ظهرت أهرمات الجيزة، ومآذن القاهرة، تناطح السماء..

ما أن وقع بصره على كل هذا ، وكان جنده جوعى متمردين، حتى تناسى تعليماته، فأمر بمصادرة ماشية ومحاصيل المصريين.

ولن أقف عند تفاصيل معركة الأهرمات التى انتهت فى الواحد والعشيرين من يولية عام 1898، بمقتل ألفين وخمسمائة من المصريين، وحوالي مائة فرنسى، فهى معروفة لنا، ولن يكون فى ذكرها شيء جديد مفيد.

مغامر وفاجر!

كل ما أريد أن أشير إليه هنا، أنه مع استسلام القاهرة وجه نابليون بياناً إلى سكانها، كان من بين ما ورد فيه أنه ما جاء إليهم إلا منقذاً وذلك بالقضاء على عنصر المماليك، وحماية بقية المصريين وتجارتهم من ذلك العنصر. وأنه لا خوف على عائلاتهم وبيوتهم وممتلكاتهم، ولا خوف على دين النبي الذى يكن له كل تبجيل.

من أوصاف الشيخ محمود شاكر فى نابليون انه ميكياڤيللى، مغامر، مفتون وفاجر.

وميكيايڤليته عبّر عنها بغير لف ودوران بقولته :

“فى هذا العالم على المرء أن يبدو ودوداً، يكثر من الوعود، حتى ولو لم يكن فى وسعه أن يفي بأي منها”

وهذه الميكيايڤلية كشفت عنها الأحداث التى تتابعت سريعا، أثر دخوله القاهرة فاتحاً (22/7).

بداية النهاية

فلم يمض على انتصاره فى معركة أهرمات الجيزة سوى عشرة أيام، حتى كان الاسطول الفرنسى فى قاع خليج أبى قير غارقاً، بعد معركة مع الاسطول البريطانى بقيادة نلسن، لم تدم سوى بضع ساعات. وحتى كان جيشه محاصراً فى مصر وقد انقطعت السبل بينه وبين وطنه فرنسا.

ومن قصر الألفي بك، حيث كان يقيم ويدير شئون ما احتله من أرض مصر عمل نابيلون كل ما فى وسعه من أجل إخفاء خطورة الوضع، وإبعاد الكارثة التى حاقت بحملته، من جراء موقعة أبى قير أو موقعة النيل، حسب تسمية البريطانيين.

وها هو ذا يفكر فيما آلت اليه الحملة، وكيفية إنقاذ ما يمكن انقاذة من جيش فقد سبعة ألاف من رجاله فى أقل من شهرين، وتقلص عدد محاربية الفعليين من ثلاثة وثلاثين ألفاً إلى عشرين ألف محارب. وخزانة خاوية، خاصة وقد نجح القائدان المملوكيان إبراهيم بك ومراد بك فى الهروب بجيشهما من مصيدة الإبادة، الأول إلى شمال شرق مصر والثاني إلى جنوبها، ومعهما ما خف حمله وغلى ثمنه من خزائن بيت المال.

السلب والنهب

ومن هنا، مجموعة الأوامر التى أصدرها نابليون بدءا من 31 يوليه، وبموجبها تم تحصيل ثلاثة ملايين فرنك فرنسى، بصفة عاجلة، من أكثر تجار مصر ثراء. فضلاً عن تحصيل مبالغ أخرى كبيرة، جرى الاستيلاء عليها من ثروات المماليك، أو ابتزازها من أموال كبار تجار القاهرة (محتكري أسواق الصابون والسكر والملابس).

وطبعا لم تدخل فى حساب كل هذا الضرائب العادية التى كان يعد العدة لتحصيلها فى المستقبل القريب.

هدم المساجد

غير أن القشة التى قصمت ظهر البعير، كانت الأنباء التى تناقلتها الألسن ومفادها أن الجنرال بونابرت فى سبيله إلى عقد مجلس من جميع أعيان المقاطعات المصرية الست عشرة، من أجل إعادة تنظيم النظام القضائى، بشقيه المدنى والجنائى، فضلاً عن إعادة تسجيل الأراضي وملكيتها، تسهيلاً لتقدير وتحصيل الضرائب.

وسرعان ما تحول الشعور بالقلق من جراء هذه الإنباء إلى شعور بالضيق والتذمر فى جيمع أحياء القاهرة، عندما وصل إلى الأسماع أنه، ولأول مرة، منذ مجيء الإسلام إلى مصر، خلال القرن السابع ميلادياً، تتجه النية إلى فرض ضرائب على الأراضي المملوكة للمساجد والجماعات الإسلامية والأوقاف.

ومما زاد من التذمر، حتى تحول به إلى غضب وعداء، قيام الفرنسيين، تنفيذاً لأوامر شخصية من نابليون، بازالة عشرات المبانى حول القلعة القديمة، كان من بينها مسجدان على الأقل، وذلك بهدف افساح المجال لنيران المدفعية الفرنسية التى جرى تثبيت قواعدها داخل القلعة.

وهكذا ارتكب نابليون خطأً قاتلاً، بأن عامل مسلمي مصر مثلما عامل من قبل كاثوليك ايطاليا، وذلك بتدمير أو تدنيس بيوت عبادتهم، دون ترو، ومع توقع رضوخهم للأمر الواقع والاستسلام.

الضحايا

وكان رد فعل المشايخ والعلماء مخالفاً لكل ما توقعه، ومفاجئاً له على كل المستويات. فها هم يقرءون فرمانات عثمانية آتية من عاصمة الخلافة تعلن الجهاد ضد الكفار وتبشر المجاهدين بأنهم فى حمى الرسول سيبيدون الهمج الوثنيين.

والبادي من تصرف نابليون إزاء رد الفعل هذا، أنه لم يعره، فى بادئ الأمر إلتفاتاً. ولعل غروره لعب دوراً، إذ هيأ له أنه بحكم إنه صاحب الجيش الوحيد فى القاهرة، فماذا تستطيع أن تفعل جماهير غير مسلحة، وغير مدربة على القتال.

ففي فجر الحادي والعشرين من أكتوبر ولما يكن قد مضى على فتح أبواب القاهرة لنابليون وجنده سوى ثلاثة أشهر، فى فجر ذلك اليوم، وبينما كان يتفقد برفقة الجنرال “كافاريللى” و”دومارتين” المواقع الجديدة للمدفعية ومستودعات السلاح والذخيرة فى مصر القديمة وجزيرة الروضة، بدأت ثورة القاهريين بمصرع العميد “دوبو” قائد حامية القاهرة، برمح أصابه فى مقتل، ومصرع جميع مرافقية.

وما أن وصل إلى نابليون خبر الاضطرابات وكان ذلك فى الساعة العاشرة صباحاً، حتى أسرع عائداً إلى المدينة، حيث أمر بقذف جامع الأزهر بالقنابل.

انتقام السفاح

هذا ولم يبدأ القذف إلا ظهر اليوم التالي، وبعد ساعات من القذف المتواصل اقتحم المشاه الفرنسيون أبواب الأزهر، يتبعهم فرسان ممتطين جيادهم ملوحين بسيوفهم، مدمرين أى شيء فى طريقهم، بما فى ذلك الكتب والمصابيح والمقتنيات الدينية النفيسة.

حتى القرآن لم يسلم من التدمير والدهس عليه بالأقدام، مع جثث المدافعين.

وفى هذه الاثناء أمر نابليون الجنرال “بون” قائد حامية القاهرة الجديد بتدمير الجامع الكبير، حتى يسوى بالأرض. كما أباح لجنده حرية ذبح الرجال والنساء والأطفال.

الرءوس الدامية

وفى تمام الساعة الرابعة مساء وصلت قوات فرنسية إلى ميدان الأزبكية، ومعها حمار يحمل زكائب، ما أن فتحت حتى تدحرجت منها رءوس دامية لقتلى مصريين.

وكل هذا لم يكن سوى بداية لفظائع أخرى، يشيب من هولها الولدان. فبينما سحب الدخان تتصاعد مما تبقى من الجامع الأزهر، أمر نابليون الجنرال”برتييه” بقطع رءوس السجناء الذين وقعوا فى الأسر، ومعهم سلاح، وبإلقاء جثثهم مقطوعة الرءوس فى النهر.

وكان أن ساد سلام القبور فى القاهرة على نحو أتاح لنابليون أن يؤكد للجنرال رينييه، بعد سته أيام (27أكتوبر) أن كل شيء تمام.

والفضل فى ذلك إنما يرجع إلى أننا “نقطع فى كل ليلة رقاب حوالي ثلاثين” من بينهم خمسة عشر من أكثر قادة المدينة الدينيين نفوذاً، ومن بينهم بعض أعضاء الديوان، ذلك الديوان الذي أنشأه نابليون عقب احتلاله القاهرة بأيام (25يوليه) بقصد ايهام المصريين، بأنه وقد خلصهم من نير المماليك، قد صاروا أحرارا متسيدين.

كلمة أخيرة

إذا كان لهذا الحديث عن غزو نابليون لمصر مغزى، يحسن أن نقف عنده، فهو أنه لا يعدو أن يكون غزواً استعمارياً، شأنه فى ذلك شأن غيره من الغزوات الاستعمارية التى ابتليت بها أغلب شعوب الكرة الأرضية، بدءا من اكتشاف العالم الجديد.

والسعي إلى تبرئة الحملة الفرنسية بادعاء أن لها عدداً من الايجابيات، كاكتشاف حجر رشيد، ليس إلا محاولة للجنوح بنا إلى نسيان ماضيها المشين، وما أحدثه من تشوهات فى مجتمعنا، نعاني من آثارها، حتى يومنا هذا.

وهنا أرى من المناسب أن أنهي الحديث بما قاله “شوم” فى خاتمة اضافها إلى كتابه “نابليون بونابرت”، فى مجال المقارنة بينه وبين طاغية آخر فماذا قال؟

“مقارنةً مع نابليون، تبّيّض صفحة جنكيزخان”!!