(يحيا زاباتا (وكيف يشوه تاريخ الأبطال

قبل ستين عاما بالتمام، بهرت استوديوهات فوكس بهوليوود العالم بفيلم عن سيرة الثائر المكسيكي «ايمليانو زاباتا»، أخرجه «ايليا كازان» عن سيناريو للأديب الأمريكي «جون شتاينبك» الحاصل علي جائزة نوبل للآداب، تحت اسم «يحيا زاباتا» (1952).
Viva_Zapata!

ولقد تصادف عرضه عندنا في مصر، ولما لم يكن قد مضي علي ما سمي بثورة الضباط الأحرار، سوي بضعة شهور.

هذا، ولم يواكب عرضه أي استهجان، بالعكس قوبل بالإشادة والاستحسان.

ومما ساعد علي ذلك شهرة الأسماء المشاركة في إبداعه، لا سيما النجم «مارلون براندو» والأديب «شتاينبك» والمخرج «الياكازان» فوقتها كان كل واحد من ذلك الثلاثي. نجما في مجاله يجري اسمه علي كل لسان.

غير أن أقوي الدوافع التي جعلت كل من شاهد الفيلم مستحسنا له، لا مستهجنا.

الاعتقاد بأنه فيلم متعاطف مع الثورة المكسيكية بقيادة «زاباتا».

ولكن تحليل الفيلم، بعمق، يكشف عن فساد هذا الاعتقاد.

ومرد ذلك إلي اختلال في الموازين سببه الجهل بتاريخ الثورة المكسيكية والأخطر الجهل بما كان يجري في أروقة الكونجرس من نشاطات معادية للحريات، أرهبت أسماء لامعة في هوليوود.

فأخذت تتهاوي، ملطخة بأوحال التنظير الزائف، والتبرير المتهافت لما اقترفت من خيانات، في حق من وثقوا بها أيام النضال ضد الفاشية، وذلك قبل اندلاع نيران الحرب العالمية الثانية، واثنائها، خاصة بعد عدوان اليابان.

وكان علي رأس قائمة تلك الأسماء المتهاوية اسم «الياكازان».

ومن هنا، قيامه بتحريف تاريخ الثورة المكسيكية بقيادة زاباتا، مع سبق الإصرار وبداية آثار تحريفه لها غضب الشعب المكسيكي.

فكان أن ضغط علي حكومته، حتي اضطرها إلي إصدار قرار بمنع عرض الفيلم.

ولكنها سرعان ما تراجعت عن قرارها، تحت ضغط وزارة خارجية جارها الشمالي القوي بالسلاح والمال.

والآن إلي تحريف «كازان».

جوهر حياة «زاباتا» فيما كتبه فرانك تانينباوم الباحث المتخصص في الثورة المكسيكية.

ومن المؤكد أن مؤلفاته كانت تحت نظر كل من «كازان» و«شتانبيك»، وهما يعدان المادة العلمية للفيلم.

فماذا كتب «فرانك» عن ذلك الثائر المكسيكي كان من بين ما كتبه أنه من يوم أن ثار، وحتي يوم ان لقي مصرعه، أبدا لم يستسلم، أبدا لم يهزم، أبدا لم يتوقف، ولو لحظة عن القتال.

غير ان «زاباتا» في فيلم «كازان» إنسان آخر.

رجل مستسلم، في لحظة النصر نراه إنسانا زاهدا في السلطة.

يغادر العاصمة، عائدا إلي قريته، حيث يلقي مصرعه بأيدي أعداء الثورة.

ولقد أكد «كازان» ذلك في رسالته إلي مجلة «ساتيرداي ريڤيو» المؤرخة 5 من إبريل 1952، حيث ضمنها تجربته مع «شتاينبك» و«داريل – ف. زانوك» رئيس فوكس للقرن العشرين، أثناء الإعداد للفيلم، مشيرا فيها إلي التوترات السياسية التي صاحبتها، وكيفية التغلب عليها علي الوجه الآتي «فعل درامي واحدمن سيرة زاباتا» هو الذي بهرنا، ذلك الفعل هو عدم خضوعه لإغراء السلطة، لحظة النصر.

كان في وسعه، وهو في العاصمة مع قواته الرثة، ان ينصب نفسه في تلك اللحظة، رئيسا ديكتاتورا، زعيما، إلا أنه آثر فجأة ودون تفسير، ان يمتطي جواده، ليعود به إلي قريته.

وهنا شعرنا ان ذلك النكران للذات، هو نقطة الذروة في حكايتنا، والمفتاح لفهم شخصيته «زاباتا».

والحق، أن القول بنكران «زاباتا» للذات وزهده في السلطة، لا يعدون ان يكون مجرد اختلاق فإسراعه بمغادرة العاصمة، لا هو بالسر المستعصي علي الفهم والتفسير، ولا هو بالأمر المتصل بنكران الذات، حسب زعم «كازان».

فالثابت، وهو ما أكده المؤرخ «كارلتون بيلز» في رسالة إلي المجلة المذكورة، فند فيها تحريف «كازان» للتاريخ، ان «زاباتا» غادر العاصمة بسبب قوة الحشود العسكرية الزاحفة عليها، يؤازرها جبروت الولايات المتحدة التي هددت «زاباتا» بالتدخل عسكريا.

ومما جاء في تلك الرسالة ان «زاباتا» لم يخن اتباعه الثوار، فهو لم يغادر العاصمة إلا لأنها كانت علي وشك ان تصبح مصيدة، تحاصرها جيوش قوية، متفوقة بنسبة عشرة إلي واحد علي قوات الثوار.

وعند مغادرته القصر الوطني لآخر مرة، كانت أصوات الرشاشات والمدفعية، تهز مدينة المكسيك.

وهنا يثور سؤال، ما الذي حدا بكازان ومعه «شتاينبك» و«زانوك» إلي تحريف تاريخ «زاباتا» بالتشويه علي الوجه سالف البيان.

لعل خير جواب يكمن فيما جاء علي لسان كازان، وهو في مجال التبرير لذلك التحريف وينحصر فيما يلي:

في لحظة حسم، لابد ان ذلك القائد الصامت، غير المتعلم، قد شعر في قرارة نفسه بتأثير قوة القانون القديم.. السلطة مفسدة ومن هنا عزوفه عنها».

وكأن «كازان» يريد بذلك ان يقول ان أي قائد نزيه عليه ان يفرض عباءة السلطة، لأنه ان قبلها، فلا نجاة له من الفساد.

ولما كان أي صراع من أجل حقوق الإنسان، يطرح ضمنا، وبالضرورة، شكل السلطة، فالقول بوجوب اعتزال السلطة، مخافة الفساد، وتجنبا له، مؤداه ألا يتحقق أبدا أعز أماني الشعوب بالثورات، لانه يعني الاستبعاد نهائيا لأية قدرة علي أي توظيف عقلاني للسلطة، من أجل تحقيق أهداف الثورة، بوسائل ديموقراطية تحمي المواطنين من الطغيان.