الأراجوز و«أيام الغضب» خطوة إلي الأمام

لعلي لست بعيداً عن الصواب إذا ما خلصت إلى القول بأن موهبة الإخراج من أكثر المواهب الفنية ندرة.
ومن هنا قلة الأعمال السينمائية التي كتب لها البقاء بوصفها غذاء للروح من بين الآلاف المؤلفة من الأفلام التي جرى إنتاجها على امتداد عمر الفن السابع، وهو عمر مديد يكاد يقارب المائة عام.
ومرة أخرى، لعلي لست بعيداً عن الصواب إذا ما ذهبت من فرط حماسي لفيلمين أبدعهما “هاني لاشين” و”منيرراضي” إلى حد القول بأنهما مخرجان يتحليان بموهبة تؤهلهما للإسهام بدور كبير في النهوض بصناعة الأفلام.
والفيلمان هما “الأراجوز” و”أيام الغضب”.
وأول ما يلاحظ على أراجوز “لاشين” هو وقوع اختيار صاحبه على “عمر الشريف” وذلك لأداء دور محرك الأراجوز ابن الشعب.
وليس من شك أنه اختيار جرئ وموفق في آن واحد.
فلقد اعتدنا “عمر الشريف” في أدوار يمثل فيها شخصيات محترمة طابعها المميز حسن القوام والهندام، عهدناه ضابط شرطة في “بداية ونهاية”، شريفاً عربياً في “لورانس”، طبيباً ضائعاً في “الدكتور جيفاجو” وجيهاً متواجهاً في “الرولزس رويس الأصفر”، عاشقاً إحدى ملكات الليل في “فتاة مرحة”، سائراً ثائراً في “شي” وهكذا.. وهكذا، أما أن نراه يطل علينا من الشاشة البيضاء لابساً طوال الفيلم جلباباً مخططاً، محركاً للأراجوز وسط ساحات القرى، بعيداً في بطون الريف.
فهذا مالا يمكن أن يخطر على البال مهما شطح الخيال.
وفي الحق، فأنا لا أعرف كيف اقتنع “عمر الشريف” نجم النجوم العرب بأداء هذا الدور الذي أراه مدهشاً.
كل ما أعرفه أنه قد نجح في تقمص شخصية محرك الأراجوز ابن الريف، فكان أن حمل الفيلم على كتفيه، بفضل فهمه للدور وتمثله لكل صغيرة وكبيرة فيه، حتى استطاع أن يصعد به إلى مستوى فني قل أن يصل إليه عمل سينمائي من أعمال أيامنا هذه، تلك الأعمال الرديئة التي يغلب عليها الاستسهال والابتذال.
وغني عن القول أن الفضل في ذلك إنما يرجع إلى مخرج الفيلم.
فلولاه لما اقتنع “عمر” بأن يخلع أردية العز والأبهة، مستبدلاً بها رداء الفقر والبهدلة، رداء محرك أراجوز من عامة الناس الغلابة المعذبين.
ولما استمتعنا به في مشهد طويل بعض الشيء، يغني لأول مرة بصوت عذب واحدة من أجمل أغاني الفيلم “الارا…أراجوز”.
وفضلاً عن “عمر” ودوره الذي يعتبر أعجوبة بين جميع الأدوار التي أداها إبان ثلاثة عقود من عمر الزمان، فإن فيلم الأراجوز في مجمله يعتبر هو الآخر أعجوبة بين الأفلام المصرية.
فهو فيلم موسيقي ممتع تقطر كل لقطة من لقطاته حباً لمصر الغلابة، أولئك الذين حاربوا وضحوا من أجل الأرض والعرض، حتى نجحوا في الخروج بالوطن المثخن بالجراح منتصراً، ليجدوه، وقد أصبح في غمضة عين نهباً لخساس الناس.
وهو مزيج غريب من الشعر والحوار في أرقى صور البساطة والسلاسة، قوامه سيناريو للدكتور عصام الشماع محكم البناء مستلهم من الأساطير الشعبية.
وهو متعة للحواس بفضل شعشعة الألوان وتناغم الأشياء في تشكيل مهندسة الديكور “رشوى حامد” ورفاهة كاميرا مدير التصوير “محسن أحمد”، تلتقط بعينها اليقظة كل ما يتحرك أمامها لتتمثله، فتخرجه آيات تسر الناظرين.
وألحان”عمار الشريعي” لأغنيتي “الأرا.. أراجوز” و”أراجوز المدارس”، وكلتيهما من أحلى الأغاني لحناً وكلاماً من إبداع الشاعر “سيد حجاب”.
والآن يبقى أن أقف قليلاً عند باقي نجوم الفيلم لأقول أن “ميرفت أمين” و”سلوى خطاب” قد تألقتا، الأولى في دور فلاحة حرة رافعة الرأس في كبرياء، والأخرى في دور بندرية بنت أكابر مصاصي دماء.
ولأشهد بأن كلاً من “هشام سليم” و”عبد العظيم عبد الحق” و”أحمد خليل” قد أجادوا جميعاً الأدوار المسندة إليهم، على وجه أعاد إلينا الثقة فيما عندهم من ملكات هبة السماء.
أيام الغضب
فإذا ما انتقلنا بالحديث إلى الفيلم الثاني “أيام الغضب”، فسنجد أنفسنا أمام عمل فني وصلت فيه حرفة السينما إلى ذروة عالية من البراعة والإتقان.
ومما يثير الدهشة أنه أول فيلم روائي طويل لمبدعه المخرج الشاب “منير راضي”.
ولو كنا على غير علم بأسرار السينما وكنا لا نعرف أنه لم يسبق له الوقوف وراء الكاميرا، لأنصرف بنا الظن إلى أن “أيام الغضب” قد أبدعه مخرج ذو ماض جليل بفضل سجل من روائع الأفلام طويل.
وفي الحق، فلا غرابة في هذا الظن، فالفيلم محكم البناء، يقوم على سيناريو متقن يترتب لاحقه على سابقه بحيث تنساب أحداثه في يسر وانسجام.
وأول ما يلفت النظر فيه أنه فيلم يروّع بفنه ذي المستوى الرفيع.
وروعته هذه أنما ترجع إلى عدة أسباب، لعل أهمها موهبة مخرجه التي نراها متجلية في اختيار موفق لا يخيب للذين ساهموا معه في الإبداع.
فالدكتور مصطفى ناجي هو مؤلف الموسيقى التصويرية التي أدت دورها ببراعة لا مزيد عليها.
وآية ذلك أنها جاءت مقتصرة، خفيفة الصوت بلا ضجيج، عرفت كيف تعبرعن محنة بطل الفيلم التي أسبغت لونها القاتم على مجمل أيام الغضب.
وأستطيع أن أقول واثقاً أنها من الأمثلة النادرة عندنا التي تثبت فيها الموسيقى التصويرية أنها عنصر جوهري في الفيلم لا غناء عنه بأي حال من الأحوال.
ولا يفوتني هنا أن أقف قليلاً عند سحر تصوير “ماهر راضي” ودقة توليف “أحمد متولي” وأغنية سيد حجاب التي أنشدتها جوقة المجانين في واحد من أرق مشاهد الفيلم وأكثرها بهجة وفرحاً.
أقف عندها لأذكر أن أيام الغضب قد أرتفع بفضلها إلى مستوى من الخصب والامتياز والجمال يصعب أن تصل إليه أفلام هذه الأيام.
كما نلحظ موهبة “منير” المتفجرة في اختياره للممثلين الكبير منهم والصغير على حد سواء، وتحريكه لهم على وجه بلغ به كل الغايات.
فمثلاً “نور الشريف” الذي لا نراه مقنعاً في كثير من الأفلام، نراه في “أيام الغضب” نجماً في قمة الأداء والعطاء. وكذلك الحال بالنسبة لكل من إلهام شاهين في دور الفلاحة المغتصبة على الدوام و”يسرا” في دورالإخصائية الاجتماعية المنقذة للمعذبين في مستشفى المجانين و”سعيد عبد الغني” في دور الممرض السادي المتحكم في مصير هؤلاء المعذبين.
يبقى أخيراً أن أقف قليلاً عند بعض الأدوار الثانوية وبالتحديد عند أولاً “أمل ابراهيم” وأدائها المذهل لدور زوجة ذلك الممرض البغيض والمسئولة عن عنبر النساء المختلات عقلاً. وثانياً “نجاح الموجي” لتمثيله الموزون لشخصية عاقل مدعي الجنون. وثالثاً “علاء ولي الدين” لتقمصه شخصية شاب بدين مجنون من أعالي الصعيد.
أنه، والحق يقال، كشف مفاجئ لموهبة مخبوءة، أرجو لها توالي اللمعان.
والآن بعد ذلك كله إلى قصة “أيام الغضب” أنها تدور حول فكرة عودة الغائب من سفر في بلد عربي نفطي، ليجد نفسه، وقد سلب أعز ما يملك، تلك الفكرة التي نراها سائدة في أغلب ما ألف كاتب السيناريو “بشير الديك” والغائب في “أيام الغضب” هو “إبراهيم محمود القمحاوي” “نور الشريف” العائد إلى القاهرة بعد خمسة أعوام قضاها بعيداً في الخليج من أجل إدخار المال اللازم لشراء شقة يعيش فيها مع ابنة عمه التي عقد قرانه عليها قبل سفره بقليل.
أنه يطل على المدينة البدينة من نافذة الطائرة قبل هبوطها ويقول سعيداً “مصر حلوة قوي من فوق”.
غير أنه ما أن يلتقي بزوجته على باب الشقة الفاخرة المشتراه “بتحويشة العمر” حتى يفاجأ بها حاملاً من رجل آخر تزوجته بعد أن استصدرت حكماً غيابياً بالطلاق منه، وهو في بلاد الغربة يشقى.
وطبعاً يثور لشرفه المهان، فيحاول قتل ذلك الزوج الدخيل الذي اختلس زوجته وشقته بسكين حاد.
فإذا ما حيل بينه وبين ذلك أرسل مقبوضاً عليه إلى قسم الشرطة، ومنه إلى النيابة العامة التي قامت بتحويله إلى مستشفى المجاذيب حيث يبدأ حياة بائسة معلقة بين اليأس والرجاء حتى يدركه الجنون.
ولم أعرض شيئاً من تفاصيل مأساته داخل مستشفى المجانين، وإنما عرضت خلاصتها في كثير من الإيجاز. ولو قد عرضت تفصيلها لتنقلت من شيء فاجع إلى شيء فاجع.
ومهما يكن من أمره في تلك المستشفى فمأساته تتشابك مع مآسي نزلائها من المجانين.
وبفضل هذا التشابك المتعدد والخيوط وبفضل حبكة الفيلم التي تميل إلى التلقائية، بفضل ذلك كله أخرج لنا “منير راضي” فيلماً فيه المتاع كل المتاع.