في وداع النجوم

ما أن بدأ النصف الثاني من العام الجاري (٢٠١٦), حتي كانت وكالات الأنباء العالمية قد طيرت خبر غياب اثنين من كبار المخرجين عن دنيانا، أولهما ميخائيل سيمونو، ذلك المخرج الأمريكي صاحب “صائد الغزلان”، الفائز بأكثر من جائزة أوسكار، لا سيما جائزتا أفضل فيلم وأفضل مخرج.

أما المخرج الثاني فهو “عباس كياروستامي” صاحب “طعم الكرز”، الفيلم المتوج بسعفة كان الذهبية.
ولن أطيل الوقوف عند المخرج الراحل “سيمونو”، مكتفيا بأن أقول إنه بفضل فيلمه “صائد الغزلان“ صعد نجمه إلي أعلي عليين، غير أنه مع عرض فيلمه “بوابة الجنة”، التالي مباشرة لصائد الغزلان، وسقوطه سقوطا مدويا أمام شباك التذاكر، مما اضطر الشركة المنتجة إلي سحبه من دور العرض, وانتهي بها الأمر إلي إشهار إفلاسها في نهاية المطاف.

مع كل هذه الكارثة السينمائية، وما ترتب عنها من آثار جسيمة، أصبح مستقبل صاحب “صائد الغزلان” في حالة ضياع, سرعان ما تحققت بأفول نجمه شيئا فشيئا علي مر السنين، حتي إذا ما جاءه الموت وقد بلغ من العمر سبعا وسبعين عاما، كانت سيرته السينمائية قد طواها النسيان أو كاد!!

والآن إلي كياروستامي الذي رحل عن دنيانا وله من العمر ستة وسبعون عاما، لأقول إنه واحد من كوكبة من المخرجين الإيرانيين، كرست أفلامها لانتقاد أوجه الحياة وبؤسها تحت حكم الملالي الإستبدادي بطول إيران وعرضها، شأنه في ذلك شأن سينمائيين آخرين مثل “باناهي“ و “محسن مخملباف” الذي غادر إيران مع أسرته السينمائية إلي فرنسا، حيث منح الجنسية الفرنسية مع أفراد أسرته، حماية لهم من مطاردة ملالي إيران.
ولكن “كياروستامي” آثر علي عكس الكوكبة التي غادرت إيران، البقاء علي أرض الوطن، حيث استمر، رغم رقابة الملالي المعادية للأفكار التي تحملها أفلامه.

وختاما فمما يثير الدهشة حقا أنه بينما كان عرض أفلامه ممنوعا داخل إيران، كان مباحا خارجها، بل وتوجت بالعديد من الجوائز العالمية، بما فيها، كما سبق القول، سعفة كان الذهبية!!

من روائع السينما العالمية

أبدأ بروائع الواقعية الجديدة:
١) روما مدينة مفتوحة.
٢) لصوص الدراجات.
٣) الجنرال ديللا روفيري.
والقاسم المشترك بين الأفلام الثلاثة هما رائدا الواقعية الجديدة روبرتو روسليني وفيتوريو دي سيكا؛ فصاحب روما مدينة مفتوحة هو المخرج روسليني، أما لصوص الدراجات فمن إخراج دي سيكا. وكلا الإثنين شارك فى إبداع “الجنرال ديللا روفييري”, روسليني بالإخراج، ودي سيكا بأداء الدور الأول، حيث تقمص شخصية الجنرال.
وفاتحة الواقعية الجديدة استهلت ب “روما مدينة مفتوحة”. ومما يعرف عن هذا الفيلم أنه ولد والحرب العالمية الثانية لم تكن قد انتهت بعد باستسلام إيطاليا الفاشية وألمانيا الهتلرية، فلقد كتبه روسليني أثناء الإحتلال الألماني لإيطاليا و صوره فور قيام الحلفاء بتحرير مدينة روما.
51c9mkjegul-_sy300_ورغم أن حكاية الفيلم من صنع الخيال، إلا أنها تتمتع بقوة إقناع الفيلم الوثائقي؛ فقصة الفيلم تدور حول أحد قادة المقاومة الملاحقين من قبل الجستابو, وتعرضه للخيانة قبل أن يعذب، و ينتهي به الأمر مقتولا، وفي نفس الوقت يلقي رجال الشرطة القبض علي الصديق الذي كان يؤويه ، فضلا عن إطلاق النار علي خطيبته ( بطولة أنا مانياني ) وهي تجري وراء شاحنة الجستابو حيث خطيبها ، فتلقي مصرعها.
وتتتابع الأحداث دامية بإعدام القس الذي ساعد رجال المقاومة رميا بالرصاص هو الآخر (قام بدوره ألدو فابريزي).
roma_citta_apertaوَمِمَّا يعرف عن إنتاج الفيلم أن مشاهده قد صورت في أماكن حدوثها الفعلية، لأن كل الأستوديوهات كان قد لحقها الدمار، حتي وصل فقر الإمكانيات إلي حد الإضطرار إلي تصوير بعض المشاهد في شقة إحدي ممثلات الفيلم، فضلا عن قيام “روسليني” و”مانياني” ببيع بعض من ملابسهما بغية توفير المال اللازم لشراء الفيلم الخام ؛ هذا كما أن المعدات كانت علي درجة من البدائية استوجبت تسجيل الصوت علي الفيلم بعد التصويرحتي يكون متزامنا مع الصورة.
وهكذا بدا وكأن الظروف البالغة السوء التى صنع فيها الفيلم تشير إلي إصرار مبدعيه علي الخروج به إلي النور.
www-kizoa-com_mussolini_768x0وقد تساوي المبدعان فيما بذلاه ليصب جهدهما في صالح الفيلم في نهاية المطاف.
يبقي لي أن أقول إنه لولا ذلك الأسلوب المتصف بالبساطة والتقشف الذي عرف فيما بعد تحت اسم الواقعية الجديدة والذي من بين خصائصه، علي سبيل المثال لا الحصر، المزج بين الممثلين المحترفين وغير المحترفين، والتصوير في الأماكن الفعلية للأحداث، فضلا عن فقر الميزانية؛ لولاه لما كان يتحقق للفيلم التأثير الكبير شرقا وغربا.
rome-open-city-009وختاما، فمما نسب لروسليني القول بإن الواقعية الجديدة لم تكن أبدا في نظره مجرد أسلوب ، بل كانت في حقيقة الأمر موقفا و وجهة نظر أخلاقية نشاهد من خلالها العالم؛ فالفيلم، والحق يقال، إنما يحكي أساسا مأساة مدينة بفكرها وكبريائها بروحها وإمكان بعثها من جديد.
لمشاهده إشاره الفيلم علي يوتيوب اضغط هنا

فاتن حمامه من يوم سعيد إلي أرض الأحلام

جاءت فاتن حمامه إلي دنيانا قبل خمسة و ثمانين عاما ، و تحديدا ٢٧ مايو لعام ١٩٣١.
وقبل أن ينتهي العقدالأول من حياتها، وقفت وهي صغيرة تؤدي دورا في فيلم “يوم سعيد” بطولة محمد عبد الوهاب، مطرب الملوك و الأمراء, من إخراج محمد كريم (١٩٤٠)٠
وعن وقوع اختياره على فاتن للقيام بدور في فيلمه هذا، يقول في ذكرياته “من النظرة الأولي أعجبت بالطفلة، وجلست أتحدث معها ساعات، وبعدها أيقنت أنها لا تصلح للدور مائة في المائة فحسب، بل أيقنت أنها أكبر من الدور الذي رشحتها له، وعدت إلي السيناريو لتكبير دور (أنيسه) في كل جزء من أجزائه. لقد كانت “شيرلي تمبل” أعظم وأشهر أطفال السينما في العالم في أوج مجدها في ذلك الوقت، ولكني كنت أقول لأصدقائي، عن إيمان و يقين، إن فاتن حمامه تفوقها بمراحل”.
ولأن الجمهور فتن بالصغيرة “فاتن”، فسرعان ما أسند إليها نجم المسرح و السينما المخضرم يوسف وهبي الدور الرئيسي في فيلمه “ملاك الرحمة” ( ١٩٤٦).
وبدءا من ملاك الرحمة ودعت فاتن مرحلة الطفولة، لتدخل مرحلة الفتاة الملائكية؛ ومن هنا بطولتها لعدة أفلام توكد ملائكيتها، مثل “الملاك الأبيض” لإبراهيم عماره، “ملائكه في جهنم” لحسن الإمام (١٩٤٧)، “كانت ملاكا” لعباس كامل (١٩٤٧)
وأول ما يلاحظ علي مرحلة هذه الأفلام الملائكية من مسيرة فاتن السينمائية، غلبة الطابع الميلودرامي الزاعق عليها.
بعد ذلك، وإن تبلورت في أفلامها اللاحقة صورتها الفنية سينمائيا، علي نحو أكثر نضجا، إلا أن،الطابع الميلودرامي الصارخ مازال سائدا، ولعل خير مثل علي ذلك “اليتيمتان” (١٩٤٨) و “ظلموني الناس” (١٩٥٠)، “أنا بنت ناس” (١٩٥١)، “كاس العذاب” (١٩٥٢)……..وصاحبها جميعا مخرج الفواجع “حسن الإمام”.
وسيظل ذلك الطابع المسرف في ميلودراميته، صابغا لمسيرتها السينمائية زمنا طويلا، بحيث تطلب تخلصها منه جهدا وصبرا متواصلين.
ولأنه مماعرف عنها أنها تتمتع بذكاء حاد، وإرادة من حديد، فما أن جاءتها الشهرة تسعي، وفي وسعها أن تختار ما تشاء من الموضوعات، وترفض منها ما تشاء، حتي بدأ الطابع الميلودرامي لمسيرتها مع الأطياف يضمحل شيئا فشيئا، ومما أعانها علي ذلك كوكبة من الخرجين الكبار الذين ساهموا في إبداع أكثر من فيلم لها، ومن بينهم أذكر علي سبيل المثال لا الحصر، كمال الشيخ، صلاح أبو سيف وهنري بركات.
وعند هنري بركات أتوقف قليلا, لأقول إنه علي مر الأعوام والأفلام أصبح مخرجها المفضل.
وقد توجت العلاقة الحميمة بينهما بأكثر من فيلم رائع وبخاصة فيلم “الحرام” (١٩٦٥) المأخوذ عن قصة ليوسف إدريس.
وقد جري اختياره ليكون ضمن الأفلام المتسابقة لكسب سعفة مهرجان كان حيث كان محل استحسان جمهرة النقاد.
ومع مرور ربع قرن من عمر الزمان علي ظهورها في فيلم “يوم سعيد” ذاع صيتها من الخليج العربي إلي المغرب الأقصى علي وجه أطلق عليها معه من منطلق الحب والتقدير لقب “سيدة الشاشة العربية“.
وتشهد مرحلة ما بعد “الحرام” صعودا في مسيرة فاتن السينمائية وارتقاءا تجلي في تعانق فلكها مع فلك الأجيال الشابة من صانعي الأطياف في ربوع مصر.
ومن هنا تألقها في”امبراطورية ميم” لحسين كمال (١٩٧٢) و “أريد حلا” لسعيد مرزوق (١٩٧٥) و “يوم مر…يوم حلو” لخيري بشارة (١٩٨٨) ثم “أرض الأحلام” لصاحبه المخرج البارع “داود عبد السيد”.
ورغم أنه لم يصادف نجاحا في الشباك،إلا أنه والحق يقال يعتبر واحدا من أفضل أفلام عقد التسعينات، ومسك الختام لمسيرة سينمائية نادرا ما يجود بمثلها الزمان.
وكادت تمضى أيام فاتن بعد “أرض الأحلام” هادئة هنيئة كغدير ماء رقراق، لولا قبولها أداء دور رئيسي في أول وآخر مسلسل تليفزيوني لها في نفس الوقت، وهو عمل لم يضف إلي رصيدها شيئا.
وفجأة و دون أي تمهيد، أسلمت فاتن الروح، في شتاء قاسي البرودة, تحديدا يوم ١٧ يناير لعام ٢٠١٥ وإلي جوار فراشها زوجها الطبيب المرموق.
وقبل أيام، احتفل بذكري مولدها قبل خمسة وثمانين عاما وجري ذلك يوم ٢٧ مايو لعام ٢٠١٦.
وبطبيعة الحال لم يمر ذلك اليوم دون أن نسترجع علي شاشة ذاكرتنا أكثر من مشهد أو لقطة من أفلامها التي بعثت البهجة في قلوب الملايين!!